غزة- على مكتب خشبي متواضع في غرفة صغيرة بمجمع ناصر الطبي، تجلس الطبيبة النفسية هدى أبو نمر، تستمع لمراجعين ومرضى فتكت بهم الحرب، وتجتهد في كتابة وصفات علاجية بالقليل من الأدوية المتوفرة.

تحولت هذه الغرفة بالطابق الأول من "مبنى الياسين" في مجمع ناصر الطبي إلى عيادة طب نفسي، مزدحمة طوال الوقت، لكونها الوحيدة في مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، التي تؤوي زهاء مليون و200 ألف نسمة من سكانها والنازحين إليها.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 23 سيناريوهات قادمة ستحدد مستقبل المنطقةlist 2 of 2مظاهرات تطوف العالم دعما لغزة في ذكرى الحربend of list

تقول الطبيبة هدى للجزيرة نت إنها تستقبل يوميا حالات كثيرة من المرضى، لكنهم ليسوا جميعا من مرتادي مراكز وعيادات الطب النفسي السابقين، وإنما من بينهم حالات جديدة أصيبت بأمراض تصنف أنها نفسية، مرتبطة بتداعيات الحرب الإسرائيلية الضارية الدائرة في القطاع منذ نحو عام.

مرضى حرب

لا تقتصر الأمراض النفسية المرتبطة بالحرب على فئة أو جنس أو عمر معين، حيث تستقبل الطبيبة هدى، المرضى الجدد الذين يعانون من صدمات نفسية، ومن بينهم مرضى في سن الشباب، خاض الكثير منهم تجربة اعتقال قاسية أو تعذيب شديد، وخرجوا محملين بأمراض جسدية ونفسية، بينما تعاني النساء من أمراض نفسية يكون مردها الفقد، كمن فقدت زوجا أو ابنا أو أكثر، وهناك من فقدت عائلتها بأكملها.

وإضافة إلى هؤلاء، تقول الطبيبة أبو نمر إنه يتردد على العيادة أطفال يعانون من التبول اللاإرادي والتبول الليلي والقلق وعدم القدرة على النوم، بفعل الصدمات العنيفة التي تعرضوا لها وهول ما شاهدوه وعايشوه خلال شهور الحرب، وتجارب النزوح القاسية.

وهناك حالات مرضية مزمنة تدهورت وزادت سوءًا بسبب أهوال الحرب، وانهيار منظومة الطب النفسي وعدم توفر غالبية الأدوية الخاصة بالأمراض النفسية، الأمر الذي تسبب لهم بنوبات غضب، وبعضهم يشكلون خطرا شديدا على أنفسهم وعلى الغير، قد يصل إلى حد الاعتداء الجسدي، وفقا للطبيبة.

ونتيجة نقص الأدوية تلجأ هذه الطبيبة الشابة إلى ما وصفته بـ"الأدوية البديلة"، وهي ليست بالضرورة من عائلة الأدوية الخاصة بالأمراض النفسية، وإنما إجراء اضطراري للتغلب على حدة أزمة عدم توفر غالبية أصناف الأدوية.

مريض يعرض صنفًا واحدًا من أصل 4 أصناف يتناولها لكنها مفقودة في غزة بسبب الحرب والحصار (الجزيرة) نقص الأدوية

وبينما كانت الطبيبة هدى تتحدث للجزيرة نت، حضر زياد (اسم مستعار)، الذي يرتاد عيادات الطب النفسي منذ عام 2007 جراء صدمة نفسية تعرض لها آنذاك، ويعاني بشدة منذ اندلاع الحرب نتيجة عدم توفر الأدوية التي اعتاد عليها لسنوات.

فمن بين 4 أصناف علاجية يحتاجها زياد (57 عاما) منحته الطبيبة هدى نصف الكمية من صنف دوائي واحد، ويقول هذا المريض للجزيرة نت، وقد بدا واعيًا بما يقول ومدركًا لحالته الصحية، إن هذه الكمية غير كافية، ويخشى انتكاسة إذا طال أمد الحرب وهو الذي تحسنت حالته بعد سنوات من العلاج.

وتعرض زياد -وهو رب أسرة- لصدمات شديدة خلال الحرب، جراء تدمير الاحتلال منزله المكون من 4 طبقات في بلدة عبسان الصغيرة، ويبعد نحو 800 متر عن السياج الأمني الإسرائيلي شرق مدينة خان يونس، ويقدر قيمة ما خسره جراء هذا التدمير بأكثر من 300 ألف دولار، إضافة لأثاث المنزل وكافة محتوياته.

وخاض زياد تجربة النزوح 12 مرة، بدأت منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عندما غادر منزله الذي بات أثرًا من بعد عين، وتنقّل في مناطق عدة وتشتت عائلته، وقد أصيبت ابنته المتزوجة بجروح في منطقة الحوض جراء شظية صاروخ باستهداف إسرائيلي لمركز إيواء.

وفي حادثة ثانية تسببت شظايا صواريخ إسرائيلية متناثرة في إحراق خيام لزياد وعائلته في مدينة خان يونس، وتسببت في خسارة كل محتوياتها، وضياع مَصوغ ذهبي خاص بابنته المخطوبة.

وبوعي كبير يقول هذا الرجل "إن استمرار هذه الحرب يشكل خطرا على حياة جميع المرضى وخاصة المرضى النفسيين، وإن الضغوط الشديدة جراء القتل والنزوح ستزيد من أعدادهم في القطاع، وستظهر الآثار الخطيرة على السكان بعد توقف الحرب".

الدكتور شقفة: هناك استهداف إسرائيلي ممنهج لمنظومة الطب النفسي للعبث بالصحة النفسية للغزيين في ظل الحرب (الجزيرة) استهداف الصحة النفسية

ما قاله زياد بعفوية يسنده الرأي الطبي لمدير عام الصحة النفسية المجتمعية بوزارة الصحة الدكتور خليل شقفة، إذ يؤكد في حديثه للجزيرة نت أن حجم الاحتياج كبير لعيادات ومراكز الطب النفسي جراء هذه الحرب غير المسبوقة، والتي طال أثرها كل الفئات دون استثناء.

ويؤمن الدكتور شقفة أن الاحتلال استهدف بشكل ممنهج ومقصود الصحة النفسية للغزيين، من أجل العبث باستقرارهم النفسي، من خلال منع أدوية الطب النفسي التي يكاد يكون رصيدها صفرا، حيث تهدف هذه السياسة الإسرائيلية لزيادة التوتر والعصبية والعدائية بالمجتمع.

وتشير بيانات وزارة الصحة إلى أن ما بين 40% إلى 60% من الأدوية الأساسية غير متوفرة نهائيا، ومن ضمنها أدوية الطب النفسي، ويوضح الدكتور شقفة أن قائمة أدوية الطب النفسي الأساسية صغيرة، وتتراوح ما بين 40 إلى 50 صنفا، فيما تصل القائمة الإجمالية لكل أدوية الطب النفسي إلى 150 صنفا، ويقول "لم نمتلك منها بأحسن الأحوال أكثر من 60 صنفا منذ تشديد الحصار على القطاع عام 2007".

وإلى جانب منع توريد الأدوية، يدلل الدكتور شقفة على الاستهداف الممنهج لمنظومة الطب النفسي في القطاع باستشهاد 14 وإصابة آخرين من الكوادر الطبية، وبخروج 6 مراكز للصحة النفسية عن الخدمة، كانت تقدم الخدمات لمئات المراجعين والمرضى يوميا من خلال عيادات وصيدليات لصرف الأدوية.

علاوة على "مستشفى الطب النفسي" الوحيد على مستوى القطاع المخصص لمبيت المرضى، وكان يؤوي عند اندلاع الحرب 30 مريضا بصورة دائمة داخله، كان عدد منهم داخل قسم العزل لخطورة حالتهم الصحية، إلا أن هذا المستشفى استهدف بشكل مباشر بقذيفة أصابت إحدى طبقاته فخرج عن الخدمة.

وبفعل ذلك، بات المرضى في الشوارع، ويشكلون -بحسب الدكتور شقفة- خطرا كبيرا على أنفسهم وعلى الآخرين في المجتمع، موضحا أن مثل هؤلاء المرضى قد يتحولون في أي لحظة إلى "شخصيات عدائية"، ويلحق المريض في هذه الحالة الأذى بنفسه أو بالآخرين، وقد حرمتهم الحرب من المتابعة الطبية والأدوية.

وقال الدكتور شقفة إن مصير هؤلاء المرضى مجهول، وقد وصلتنا معلومات عن حوادث عدائية من عدد منهم داخل الخيام ومراكز النزوح، وإضافة لذلك نكتشف باستمرار داخل العيادات حالات تحتاج للعلاج وربما للتنويم، ولا نجد لها أماكن.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الجامعات الصحة النفسیة للجزیرة نت

إقرأ أيضاً:

أسعار خيالية ومعاناة يومية.. سكان غزة في مواجهة الجوع والحصار

تشهد غزة أزمة إنسانية متفاقمة مع نقص حاد في الغذاء والمساعدات، مما زاد من معاناة السكان، خاصة النازحين. في مدينة دير البلح وسط القطاع، احتشد مئات الأشخاص أمام أحد المخابز يوم الجمعة، بعد أن أغلقت معظم المخابز أبوابها على مدى خمسة أيام نتيجة نقص الطحين وغياب الإمدادات.

اعلان

قال مجدي ياغي، نازح يبلغ من العمر 61 عامًا من مدينة غزة، في تصريح لـ"أسوشيتد برس": "هذا اليوم الثالث لي أمام مخبز زادنا وما زلت غير قادر على الحصول على الخبز. لدي أطفال بحاجة إلى الطعام، وأحاول تأمينه بصعوبة. ماذا عن الذين لا يستطيعون؟".

شهدت أسعار الخبز ارتفاعًا كبيرًا، حيث قفز سعر كيس يحتوي على 20 رغيفًا فقط إلى 16 دولارًا، مقارنة بـ80 سنتًا كانت تكفي لشراء 50 رغيفًا الشهر الماضي. كما ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأخرى، حيث بلغ سعر كيس صغير من السكر نحو 14 دولارًا، في حين وصل سعر كيس المعكرونة إلى 4 دولارات.

Related"من سيناديني ماما الآن؟".. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة بعد غارة إسرائيلية على غزةنتنياهو يخطط لإدخال شركة أمريكية إلى غزة بديلا عن الأونروا.. ويَستحسن أن يكون الإشراف إماراتيافي اليوم العالمي للطفل.. غزة أصبحت مقبرة للأطفال.. ولبنان بات رعبهم الصامت.. والسودان مثالا لحرمانهمهكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خبز لمن استطاع إلى الحياة سبيلا

وفي خان يونس جنوب القطاع، تعتمد العديد من العائلات النازحة على المطابخ الخيرية لتأمين وجبة يومية.وتصطف النساء أمام مطبخ "الدلو" الخيري، للحصول على البرغل، الطعام الوحيد الذي يوفره المطبخ.

وأوضح أنس الدلو، أحد العاملين في المطبخ: "نطهو يوميًا 10 قدور من الأرز أو الفاصوليا أو البرغل، لكن العدد الهائل من النازحين يجعل من المستحيل توفير الطعام للجميع بسبب نقص المساعدات وارتفاع الأسعار في الأسواق".

وصف نور كنعاني، أحد النازحين في خان يونس، الوضع بأنه مأساوي قائلاً: "ما يتم توزيعه هنا نقطة في بحر. لا مساعدات كافية، لا طحين، ولا طعام. إنها أزمة حقيقية بكل معنى الكلمة".

يُذكر أن الأمم المتحدة قد حذرت من خطر قطع إمدادات الغذاء والوقود والدواء عن قطاع غزة بشكل كامل بسبب الحصار الإسرائيلي المفروض ونهب المساعدات من قبل عصابات مدعومة، حيث أشار منسقو المنظمة للشؤون الإنسانية إلى أن هذا الوضع يهدد حياة ما لا يقل عن مليوني فلسطيني.

المصادر الإضافية • أب

Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية تجدد القصف الإسرائيلي على غزة وضاحية بيروت الجنوبية.. ودعوات دولية لاعتقال نتنياهو وغالانت ارتفاع قتلى مدينة تدمر الأثرية إلى أكثر من 80 شخصا.. وسوريا تتهم إسرائيل بالوقوف وراء الهجوم تنديد أممي بسرقة المساعدات في غزة ونتنياهو يتعهد بملاحقة حماس وحزب الله يكشف خسائر الجيش الإسرائيلي أزمة إنسانيةقطاع غزةحصارالصراع الإسرائيلي الفلسطيني نقص - شُحّاعتداء إسرائيلاعلاناخترنا لك يعرض الآن Next مباشر. القصف والجوع يثقلان كاهل غزة وإصابات في صفوف اليونيفل بلبنان وصواريخ حزب الله تضرب أهدافاً إسرائيلية يعرض الآن Next بعد الهجوم الصاروخي على دنيبرو.. الكرملين يؤكد: واشنطن "فهمت" رسالة بوتين يعرض الآن Next جرائم حرب وإبادة: قادة صدرت بحقهم مذكرات اعتقال من الجنائية الدولية.. تعرف عليهم؟ يعرض الآن Next تفجير جسم مشبوه بالقرب من السفارة الأمريكية في لندن.. ماذا يجري؟ يعرض الآن Next على خطى ترامب.. فضائح تلاحق بعض المرشحين لعضوية الإدارة الأمريكية اعلانالاكثر قراءة زلزال سياسي: المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال في حق نتنياهو وغالانت حدث "هام" في منطقة الأناضول.. العثور على قلادة مرسوم عليها صورة النبي سليمان سحابة من الضباب الدخاني السام تغلف نيودلهي: توقف البناء وإغلاق المدارس اليابان ترفع السن القانوني لممارسة الجنس من 13 إلى 16 عاما حب وجنس في فيلم" لوف" اعلان

LoaderSearchابحث مفاتيح اليومكوب 29فلاديمير بوتينبنيامين نتنياهودونالد ترامبقطاع غزةإسرائيلالمحكمة الجنائية الدوليةغزةتقاليدضحايافن معاصرروسياالموضوعاتأوروباالعالمالأعمالGreenNextالصحةالسفرالثقافةفيديوبرامجخدماتمباشرنشرة الأخبارالطقسآخر الأخبارتابعوناتطبيقاتتطبيقات التواصلWidgets & ServicesJob offers from AmplyAfricanewsعرض المزيدAbout EuronewsCommercial ServicesTerms and ConditionsCookie Policyسياسة الخصوصيةContactPress officeWork at Euronewsتعديل خيارات ملفات الارتباطتابعوناالنشرة الإخباريةCopyright © euronews 2024

مقالات مشابهة

  • 50 يومًا على الإبادة الجماعية والحصار شمالي القطاع
  • انتحار ستة جنود اسرائيليين وإخضاع آلاف آخرين للعلاج النفسي بسبب حرب غزة
  • صحف عبرية: قلق متزايد بشأن حالات انتحار الجنود الإسرائيليين وتأثيرات الحرب النفسية
  • أسعار خيالية ومعاناة يومية.. سكان غزة في مواجهة الجوع والحصار
  • عبدالجليل يحظر الأدوية غير المرخصة ويشدد على الالتزام بمعايير السلامة
  • «الإمارات الصحية» تخفض مدة انتظار الخدمات النفسية بنسبة 90%
  • استعراض جهود تصفير البيروقراطية في الخدمات النفسية
  • "الإمارات للخدمات الصحية" تستعرض جهود تصفير البيروقراطية في مجال العلاج النفسي
  • شكاوى متزايدة من استغلال المرضى اليمنيين في الهند بين النصب وتهريب الأدوية
  • مستشفى كمال عدوان في جباليا يطلق نداء استغاثة لإنقاذ حياة عشرات المرضى والجرحى جراء الحرب على قطاع غزة