عشرات آلاف النازحين من غزة إلى مصر.. مأساة طي النسيان
تاريخ النشر: 8th, October 2024 GMT
نشرت مجلة "نيوستيتسمان" تقريرا سلطت فيه الضوء على معاناة الفلسطينيين النازحين في مصر بعد الحرب الإسرائيلية على غزة؛ فقد وصل أكثر من 100 ألف لاجئ إلى القاهرة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ويواجهون ظروفا صعبة ويعانون من انعدام الاستقرار.
ونقلت المجلة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي 21"، بعض القصص والروايات الأليمة عن فلسطيين اضطروا إلى مغادرة قطاع غزة خلال الفترة الماضية بسبب الحرب، لكنهم يواجهون واقعا أليما في مصر ولا يلوح أمامهم أمل حقيقي للعودة أو الاستقرار.
"لا يأس مع الحياة"
غادر مخيمر أبو سعدة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الأزهر في غزة، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بعد أن دمرت القوات الإسرائيلية جامعته ثم نهبتها. كما تضرر منزله في غارة إسرائيلية، وأمضى بعدها ثلاثة أيام مع عائلته يعيشون في الشارع.
كان أبو سعدة يعيش حياة مريحة في مدينة غزة ويتمتع بمكانة جيدة في المجتمع بسبب المنصب الأكاديمي، ويقول أبو سعدة: "كان لديّ خياران: إما أن أعيش أو أموت. لقد أردت أن أعيش".
واستطاع المغادرة بسهولة نسيبًا، لأن أطفاله الأكبر سنًا يحملون الجنسية الأمريكية، وتعيش الأسرة كلها في القاهرة حاليا، لكن أبو سعدة يجب أن يعيد بناء حياته من الصفر، وهو مصير مشترك بين الفلسطينيين في مصر؛ حيث لا توجد خطط للعودة إلى غزة في أي وقت قريب.
عندما وصلوا إلى القاهرة، كانت ابنته الصغرى سارة تستعد لامتحان التوجيهي، امتحانات القبول بالجامعات في غزة والضفة الغربية، إلا أن والدها أخبرها أنها يجب أن تنسى التوجيهي لمدة سنة. لكن سارة لم تستسلم وعلقت فوق سريرها ورقة كُتب عليها: "لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس".
وتمكنت السفارة الفلسطينية في القاهرة، بالتعاون مع وزارة التعليم في رام الله في الضفة الغربية والسلطات المصرية، من تنظيم امتحانات التوجيهي في القاهرة، واجتازت سارة الامتحان وتم قبولها في كلية الحقوق في الجامعة البريطانية في مصر.
يقول أبو سعدة إن الصراع بين فلسطين وإسرائيل "استمر لمدة 76 سنة، تعرض خلاله الفلسطينيون للاحتلال والعدوان وهدم المنازل والاعتقال الجماعي، وما إلى ذلك". وأضاف: "كنت في غزة في ذلك اليوم، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. وكان الفلسطينيون في غاية السعادة لأنهم شعروا للحظة أنهم يجعلون الإسرائيليين يشربون من نفس الكأس التي شربناها طيلة السنوات الماضية".
أعداد النازحين من غزة
وفقًا لتقديرات السلطات الفلسطينية والمصرية، بلغ عدد الفلسطينيين الذين غادروا غزة إلى مصر منذ تشرين الأول/ أكتوبر إلى 150 ألفًا، ولكن هناك عدد من الفلسطينيين الذين غادروا غزة ولم يسجلوا أسماءهم في السفارة الفلسطينية، لذا فإن العدد قد يكون أعلى من الأعداد الرسمية، وفقا للمجلة.
وأفاد أحد المسؤولين عن الجالية الفلسطينية في القاهرة أن عدد النازحين عقب الحرب كان يمكن أن يبلغ 300 ألف فلسطيني لو لم تغلق إسرائيل معبر رفح في أيار/ مايو. ولو كان بعض هؤلاء النازحين يحملون جوازات سفر لدولة ثالثة، لكانوا قد انتقلوا إلى أماكن أخرى منذ ذلك الحين. ومع ذلك، تشير التقديرات إلى أن أكثر من 100 ألف فلسطيني ما زالوا في مصر، وكلهم تقريبًا في منطقة القاهرة الكبرى.
وأرجعت المجلة تضارب الأعداد إلى عزوف كثيرين عن تسجيل أسمائهم بسبب الرسوم العالية للغاية التي يضطر النازحون لدفعها لشركات مصرية قريبة من المؤسسة الأمنية، وهي تقترب من عشرة آلاف دولار أميركي للشخص الواحد، الأمر الذي يرفع إجمالي العائدات منذ تشرين الأول/ أكتوبر إلى ما يزيد كثيرًا على مليار دولار أميركي.
وتضيف المجلة أن أجهزة الأمن المصرية تراقب عن كثب الفلسطينيين الذين نزحوا مؤخرًا، لذلك يخشى الفلسطينيون الوقوع في مشاكل مع قوات الأمن المصرية، فممارسة نشاط سياسي من أي نوع قد يودي بك إلى السجون المصرية شديد الحراسة.
صور من المعاناة
من صور معاناة الفلسطينيين النازحين إلى مصر -حسب المجلة-، أنه لا توجد دولة يمكن أن تستقبلهم إذا تم ترحيلهم، حيث لن تسمح إسرائيل لهم بالعودة إلى غزة أو الضفة الغربية، لذلك يعيش هؤلاء كمهمشين في القاهرة، حيث يُمنعون تقريبًا من العمل أو الدراسة، ولا يحصلون على تصاريح إقامة، ويُجبرون على الاعتماد على التبرعات لأن مدخراتهم الضئيلة نفدت سريعا.
ويقول أحد الفلسطينيين، وقد غادر غزة قبل سنوات وقضى ثلاثة أشهر في القاهرة، إن "الجانب المظلم هو أنه إذا كنت جالسًا بلا عمل، فلا يوجد ما يمكنك فعله سوى مشاهدة التلفزيون طوال اليوم، ومتابعة الرعب الذي لا يتوقف، في انتظار وقف إطلاق النار الذي لا يأتي أبداً".
وأشارت المجلة إلى أن المدارس الثانوية الحكومية في مصر لا تسمح للطلاب الفلسطينيين بالتسجيل في الفصول الدراسية، لذلك اضطر الطلاب الجدد إلى الالتحاق بفصول الضفة الغربية عبر الإنترنت أو في بعض الحالات تنظيم فصول خاصة في القاهرة، والتي يشرف عليها مدرسون متطوعون جاؤوا أيضًا من غزة.
وحتى أولئك الذين كانوا ميسوري الحال في غزة غالبًا ما يصلون إلى القاهرة دون الكثير من المال، وربما تكون ممتلكاتهم ومدخراتهم قد فُقدت في الحرب، أو أنهم اضطروا إلى دفع رسوم الخروج، وهناك أيضًا الحاجة الملحة لإعانة ذويهم الذين بقوا في القطاع.
وتوضح المجلة أن معظم الفلسطينيين النازحين من غزة إلى مصر يعيشون في المناطق الفقيرة في القاهرة مثل شارع فيصل أو إمبابة، بينما تعيش قلة محظوظة - أولئك الذين تمكنوا من جلب ثروات صغيرة معهم - في مجمعات سكنية راقية خارج القاهرة.
وأفاد عمر شعبان، مؤسس ومدير مؤسسة بال ثينك للدراسات الاستراتيجية غير الربحية، والذي غادر غزة إلى القاهرة بعد تشرين الأول/ أكتوبر، أن الفلسطينيين في القاهرة يمثلون بنية غزة الاجتماعية بأكملها؛ فهناك أكثر من 250 صحفي، وحوالي 400 شخص يعملون في القطاع المصرفي، والعديد منهم يعملون كمطوري برمجيات وتمكنوا من مواصلة العمل على الإنترنت، وحوالي 500 شخص يعملون مع المنظمات الدولية، وعشرات الآلاف من المعلمين، وما لا يقل عن 20 ألف تلميذ من سن السادسة إلى الثامنة عشرة، و1500 طالب فلسطيني حالفهم الحظ في إتمام الثانوية.
وأكد شعبان أن الشعور بالانتماء قوي لدى الفلسطينيين، وأن أغلب أبناء الجالية ملتزمون بمبدأ العودة؛ حيث يوجد أكثر من 2,000 فلسطيني عالقون في العريش بالقرب من رفح، في انتظار السماح لهم بالعودة إلى غزة.
مأساة عائلية
ويسرد توفيق رزق، الشاب الذي يتشارك هو وعمه وشقيته شقة في مدينة نصر، قصة مغادرته غزة بحثًا عن مساعدة طبية لشقيقته المصابة، تاركًا زوجته خلفه.
ينتمي رزق إلى عائلة كبيرة مكونة من عشر شقيقات وأربعة أشقاء، ويبلغ من العمر 27 سنة، وهو الأخ الأكبر. كانت العائلة تعيش في رفح، على مقربة من المعبر المصري، وكان والده يملك مصنعًا للطوب. عمل رزق مع والده في مصنع العائلة، وتزوج سنة 2021، لكنه واجه هو وزوجته صعوبة في الإنجاب، وفي نهاية المطاف، حملت زوجته من خلال التلقيح الاصطناعي، ولكن بعد شهرين من الحمل، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، قصفت إسرائيل مبنى بالقرب من منزلهما وأصيبت زوجته بصدمة وأجهضت.
واجهت عائلة رزق مأساة أخرى في 3 كانون الأول/ ديسمبر، حيث قصفت القوات الإسرائيلية في ذلك اليوم مصنع الطوب ومنزل العائلة.
وحسب المجلة، فمن السهل العثور على دلائل قاطعة على أن رزق وعائلته لا تربطهم أي صلات بحماس، ولو كان هناك أي شكوك حول وجود مثل هذه الصلات لما سُمح له بمغادرة غزة.
عندما غادر رزق غزة في كانون الثاني/ يناير كان يتوقع أن يعود قريبًا ليلتحق بزوجته ووالدته، ولم يعتقد أحد أن معبر رفح سيُغلق، لكن العلاج استمر فترة أطول من المتوقع ثم أغلقت إسرائيل المعبر في أيار/ مايو، وتعيش زوجة رزق الآن في مخيم المواصي في رفح، والذي يتعرض لقصف صاروخي بشكل منتظم.
يقول رزق إنه لو كان قادرا على إحضار عائلته بأكملها إلى مصر فلن يعود إلى غزة أبدًا، معتبرا أنه لا يوجد مستقبل هناك، فقد تحطمت حياته ولم يعد من الممكن إعادة بنائها.
أما شقيقته الشابة آية، التي تبلغ من العمر تسع سنوات فقط، فهي تفتقد غزة وتفتقد والدتها. لا تزال آية تتعافى من إصابتها وتقضي معظم يومها في البحث عن أخبار غزة على التلفاز وعبر الهاتف، وهي تفتقد مدرستها، وتحلم بالعودة يومًا ما لكنها لا تدرك حقيقة الوضع الذي أصبح عليه القطاع.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية مصر غزة مصر غزة الاحتلال اللاجئون الفلسطينيون صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة إلى القاهرة تشرین الأول فی القاهرة أبو سعدة أکثر من غزة إلى إلى غزة إلى مصر فی مصر فی غزة من غزة
إقرأ أيضاً:
مأساة الكلمات الكبيرة: وحدة، حرية، اشتراكية!
من وحي الكلمات الثلاث (وحدة، حرية، اشتراكية) ومقولة «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» صعد الخطاب البعثي تدريجيًا أواخر أربعينيات القرن الماضي، بعد عام تقريبًا من الاستقلال الرسمي لسوريا عن الانتداب الفرنسي عام 1946. كانت النواة الفكرية الأولى لحزب البعث قد بدأت مع طالبين سوريين التقيا في جامعة السوربون الفرنسية، وهما ميشيل عفلق، المسيحي الأرثوذكسي، ورفيقه صلاح الدين البيطار، المسلم السني، قبل أن ينضم لهما شاب آخر من أصول علوية هو زكي الأرسوزي، العائد هو الآخر من دراسة الفلسفة في الجامعة الفرنسية نفسها. وبعد فترة قصيرة، عام 1954، سيندمج حزب البعث العربي مع الحزب العربي الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني، الاندماج الذي أفضى إلى الصيغة اللغوية النهائية التي سيواصل بها البعث تبشيره الأيديولوجي باسم «حزب البعث العربي الاشتراكي».
بلوّر منظرو الحزب لغةً جديدةً كانت مزيجًا من القومية والاشتراكية والوحدة العربية ومعاداة الاستعمار، رغم أن الكثير من ذلك «التنظير» سيبدو بعد الفحص المتأني أقرب إلى لغة الأدب والشعارات التعبوية من الكلام في الفلسفة والسياسة والتاريخ. تلفتني مثلًا سطور بعينها من كتابه «في سبيل البعث» والذي عبَّر فيه ميشيل عفلق عن خلاصة أفكاره على مدى أربعة عقود حول ماهية القومية والاشتراكية العربية المنشودة إلى جانب آرائه في قضايا أخرى كالموقف من التراث والدين ومعنى الأمة. وضع عفلق أول نصوص مؤلَّفه خلال سنوات الغليان الحزبي منتصف الثلاثينيات واستمر بتأليف فصوله إلى نهاية حياته، حتى طُبع الكتاب في خمسة أجزاء بعد وفاته عام 1989، ليكون أهم وثيقة مرجعية لتتبع أصول حزب البعث وأدبياته. هذه السطور التي أتناولها -على سبيل المثال لا أكثر- تمهد للتصور البعثي عن مفهوم القومية، وفيها يحاول الأستاذ الإجابة عن تساؤل طلابه المستمر حول تعريف القومية التي ينادي بها، فيقول: «هي حب قبل كل شيء. هي العاطفة نفسها التي تربط الفرد بأهل بيته، لأن الوطن بيت كبير والأمة أسرة واسعة. والقومية ككل حب، تُفعم القلب فرحًا وتشيع الأمل في جوانب النفس، ويود من يشعر بها لو أن الناس يشاركونه في الغبطة التي تسمو فوق أنانيته الضيقة وتقربه من أفق الخير والكمال، وهي لذلك غريبة عن إرادة الشر وأبعد ما تكون عن البغضاء. إذ أن الذي يشعر بقدسيتها ينقاد في الوقت نفسه إلى تقديسها عند سائر الشعوب فتكون هكذا خير طريق إلى الإنسانية الصحيحة». (الجزء الخامس، ص 133: القومية حب قبل كل شيء).
الإنشائية الفاقعة في هذا النموذج، والرومانسية المفرطة في وصف القومية بأنها «حب قبل كل شيء»، كلها قرائن لا تفتأ تذكرنا بأن «فيلسوف» البعث كان قد بدأ علاقته مع الكتابة بمحاولات شعرية متعثرة تتوسل كتابة قصائد رومنطيقية، كما يشير إلى ذلك حازم صاغية في كتابه «البعث السوري.. تاريخ موجز» مستشهدًا بمقولة تنسب لزكي الأرسوزي عن رفيقه، عفلق، الذي لم تكن العلاقة معه وديةً في معظم الأحيان: «خسره الأدب فيما ابتُليت به السياسة».
كلمة «البعث» نفسها تنم عن فكر مسكون بالنظريات القيامية الحالمة، ولكن في سياق تبشيري على منوال كلمات مثل «الإحياء» و«النهضة» التي استنفدت معانيها النخب السياسية في مرحلة ما قبل الاستقلال خلال القرن التاسع عشر. ثمة هوس واضح بالكلمات الكبيرة عند البعثيين عمومًا، وتعميم هذه الملاحظة على سائر البعثيين لا يشوبه ظلم في نظري، بل يبدو منصفًا إلى حد بعيد. غير أن الممارسة السياسية، عبر السلطة ومن أجلها وخلالها، سرعان ما حولت هذه اللغة الجديدة إلى ألفاظ جوفاء. الكلمات الكبيرة تفسّخت على ألسنة خطباء البعث حتى صارت شعارات للتعبئة ومطايا للضبّاط الواثبين إلى السلطة في بغداد والشام.
في فبراير من عام 1958 نجح بعض الضباط البعثيين المتحمسين في الدفع بمشروع الوحدة مع مصر الناصرية. وكانت «الوحدة» هي الكلمة السحرية التي اعتبرها البعثيون مقدمةً لتوابعها: الحرية ثم الاشتراكية وصولًا إلى الحُلم .. وهو «البعث» وفقًا لعفلق ورفاقه. لكن الخلاف كان حول صيغة الوحدة مع مصر؛ أرادها بعض العقلانيين أو المترددين اتحادًا، بينما أصر الآخرون على وحدة فورية اندماجية رغم اقتراح المصريين تأجيلها لخمس سنوات. يُذكر أن المقدم البعثي أمين الحافظ وقف يومها أمام جمال عبدالناصر وخاطبه قائلًا: «بيننا وبينكم حائط يجب أن نهدمه الساعة. لماذا الاتحاد؟! لتكن وحدة». وكما هو معلوم، لم يدم حلم الوحدة البعثي الناصري طويلًا، إذ سرعان ما أطيح به في دمشق بانقلاب عسكري في 28 سبتمبر 1961. ولم يبق للمصريين منه سوى اسم «الجمهورية العربية المتحدة» الذي نُعي به جمال عبدالناصر يوم رحيله، قبل أن يعلن السادات لاحقًا عن تغيير الاسم عام 1971.
مأساة الكلمات الكبيرة، وربما نفاقها، تتجلى أكثر في العلاقة التي توترت حد العداء بين نسختي البعث، العراقية والسورية. نفس الأيديولوجيا، والمعجم اللغوي نفسه تقريبًا، والشعارات والأناشيد الحزبية هي ذاتها التي هتف بها التلاميذ الصغار في المدارس السورية والعراقية على مدى عقود، لكن الصراع بين النظام الأسدي في سوريا والنظام الصدَّامي في العراق بدد أي معنى لكلمة الوحدة، وكانت الفضيحة الكبرى في سجل هذه الأيديولوجيا؛ فقد بلغ الصراع أوجه مع اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية، حينما حالف حافظ الأسد الخميني، عدو صدَّام اللدود، وانقشع الضباب عن زيف الكلام.
للشعارات التي تُقال على المنابر استحقاقاتها الصارمة التي لا بدَّ أن تحين يومًا ما، وللقول كلفته على القائل، والتاريخ هو المختبر الحقيقي لجدارة النظريات والنصوص المزخرفة. عبرتنا من الأنظمة العربية الشمولية التي شهدنا انهيارها المتتابع في تاريخنا السياسي المعاصر، والتي تكشَّفت عن نماذج ممسوخة للفاشيات الأوروبية في القرن العشرين، شكلًا ومضمونًا، أنها اتسمت كلها، دون استثناء، بالمبالغة في الخطاب والفوقية والتشدق بأعدل القضايا، دون أن تتعلم من مصائر بعضها البعض؛ فلم تتورع عن إغواء المبالغات اللغوية ومغبتها، ولم تتقن التواضع في التعامل مع اللغة. فأولئك الرجال الطامحون الذين خرجوا من ثكنات الضباط إلى منابر السياسة، والذين ظلوا يتعثرون في النحو والصرف على الملأ من غير أن يجرؤ أحد على تصحيح لغتهم، لم يتقنوا إلا النفخ في تلك الكلمات الكبيرة حتى استنزفوا معانيها.. ننسى أحيانًا أن «فلسطين» كانت من بين تلك الكلمات التي استهلكوها! لقد قتلهم فقرهم للبلاغة التي تنتج عن مقاربة «معقولة» بين الواقع والخيال، فاستعاضوا عن البلاغة بالمبالغة.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني