تحولات المواجهة بين حزب الله وإسرائيل من 2006 إلى 2024
تاريخ النشر: 7th, October 2024 GMT
بيروت- يمتد تاريخ المواجهات بين حزب الله وتل أبيب لعدة عقود، حيث شنت إسرائيل حروبا وعمليات عسكرية ضد لبنان بدأت من عملية الليطاني في مارس/آذار 1978، مرورا باجتياح عام 1982، ثم "تصفية الحساب" في يوليو/تموز 1993، و"عناقيد الغضب" في أبريل/نيسان 1996، وصولا إلى حرب يوليو/تموز 2006. وتدور مواجهات عسكرية مؤخرا مع فتح جبهة إسناد لقطاع غزة وقد اشتدت منذ أسبوعين.
تعود آخر مواجهة بين الجانبين إلى حرب يوليو/تموز 2006، وفيها شن الحزب هجوما مباغتا على الحدود وأسَر جنديين إسرائيليين، مما أجبر إسرائيل على الدخول في مفاوضات تهدف إلى تبادلهما مع أسرى الحزب في معتقلاتها.
استمرت الحرب 34 يوما ودمرت مساحات واسعة من الضاحية الجنوبية لبيروت والعديد من البلدات والقرى في جنوب لبنان. وأسفرت عن استشهاد نحو 1300 لبناني، وإصابة حوالي 4 آلاف آخرين، بالإضافة إلى نزوح مليون شخص.
مساندة غزة
اندلعت المواجهات العسكرية على الحدود اللبنانية الجنوبية في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزة على إسرائيل فجر يوم السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وشملت هجوما بريا وبحريا وجويا وتسللا للمقاومين إلى عدة مستوطنات في "غلاف غزة".
وتحت شعار "مساندة غزة"، أطلق حزب الله نيرانه الأولى من جبهة الجنوب في اليوم التالي، 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث نفذ هجوما على 3 مواقع إسرائيلية في منطقة مزارع شبعا، ثم انتقل إلى استهداف مواقع حدودية وحاول قدر الإمكان الحفاظ على هذا المستوى من الاستهدافات.
واليوم، مع دخول عملية "طوفان الأقصى" عامها الأول، تطورت العمليات العسكرية في الجنوب بشكل جذري، وانتقلت المساندة إلى مواجهات مفتوحة بين حزب الله وإسرائيل التي لم تكتف بالرد وفق قواعد الاشتباك التقليدية، بل وسّعت عدوانها ليشمل الضاحية الجنوبية والبقاع والجنوب في محاولة لفرض معادلات وإستراتيجيات جديدة.
يرى الباحث والمحلل السياسي اللبناني علي أحمد أن حزب الله بدأ الحرب الحالية من النقطة التي انتهت عندها في عام 2006 عندما كان مدى صواريخه يمتد إلى حيفا فقط. أما اليوم، فقد أصبح الحزب ينطلق من مواقع متقدمة تشمل حيفا والعفولة وعكا. وعند مقارنة قدراته الحالية، يمكن ملاحظة أنها تفوق بشكل كبير ما كانت عليه في الماضي، يقول للجزيرة نت.
وفيما يتعلق بقدرات الحزب العسكرية، يعتقد الباحث أحمد أنها هائلة، ففي "حرب تموز"، كان عدد مقاتليه يتراوح بين عدة آلاف، بينما يُقدر اليوم بأكثر من 10 آلاف مقاتل، مع توقعات تشير إلى أن العدد قد يتراوح بين 12 ألفا و14 ألفا. ويَعتبر هذا العدد الكبير عاملا أساسيا في المعادلة العسكرية.
ويشير المتحدث ذاته إلى أن قدرات حزب الله الصاروخية، وخاصة في مجال الطائرات المُسيرة، شهدت تطورا ملحوظا، وأن هناك صواريخ تعتبرها إسرائيل تهديدا كبيرا لأمنها، ويوضح أن الإسرائيليين "تفوقوا في مجالات الأمن والذكاء الاصطناعي وجمع المعلومات الاستخباراتية".
تحول الأساليببينما يعتقد الباحث في العلاقات الدولية علي مطر أن هناك تغييرات جذرية في إستراتيجيات الحرب "بين الآن وتموز" ويرى أن التعامل الإسرائيلي "كان مختلفا تماما في حرب تموز عن العمليات الجوية الحالية"، فقد كانت المناطق في البقاع وبعلبك تتعرض لاستهدافات محدودة في السابق، بينما يركز القصف الآن بشكل مكثف عليها.
ويقول للجزيرة نت إن منطقة بيروت لم يتم استهدافها في السابق، بينما شهدت اليوم استهداف مناطق مثل الباشورة والكولا والمعيصرة بضربات يعتبرها الإسرائيليون دقيقة ومحددة. ويعتقد أن إسرائيل تستهدف الآن معظم الأماكن التي تراها ضرورية لعملياتها العسكرية، مع تركيز خاص على الضاحية الجنوبية والجنوب اللبناني.
ويوضح الباحث نفسه أن الإسرائيليين في حرب يوليو/تموز لم يكونوا يستهدفون هذه المناطق بالشدة نفسها التي يُلاحظها الآن، ومع ذلك، تغيرت معاييرهم، حيث أصبحوا يسعون إلى "تحميل بيئة حزب الله الثمن".
وحسب مطر، اتجه الإسرائيليون بشكل أكبر نحو سياسة الاغتيالات، مبينا أنهم "لم يتمكنوا من تنفيذها في حرب تموز بسبب نقص التكنولوجيا المتطورة"، إلا أن تطورها الحالي منحهم ديناميكية أكبر حيث تم اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله.
بالمقابل، يرى أن الحزب تجاوز العديد من الحواجز، حيث أصبح بإمكانه الوصول إلى تل أبيب ومستوطنات الضفة الغربية، وأطلق العديد من الصواريخ على المستوطنات الشمالية وصولا إلى حيفا، واستهدف قواعد عسكرية جديدة ومتقدمة.
وفيما يتعلق بالصواريخ والأسلحة، يشير الباحث إلى أن سلاح المُسيرات شهد تطورا كبيرا في أيدي الحزب وأنه لا يزال يحتفظ ببعض الأسلحة والصواريخ التي لم تكشف عن كامل قدراتها بعد. ورغم ذلك، لا تزال التكتيكات والهجمات البرية تواجه تحديات، حيث تحاول إسرائيل التقدم لكنها تواجه مقاومة شديدة منه.
يضيف مطر أن دخول إيران على خط المواجهة يمثل تطورا جديدا، حيث "قصفت الكيان بأكمله"، كما أن هناك جبهات أخرى تعمل مثل الجبهة العراقية واليمنية، إلى جانب العدوان على غزة،. ويوضح أن هناك تغييرات واضحة في المنطقة على مستوى الجبهات والقتال في لبنان وغزة، كما تشير الدلائل إلى إمكانية اندلاع حرب شاملة، وهو أمر لم يكن مطروحا خلال حرب يوليو/تموز. لكن الوضع الآن تغير بشكل ملحوظ.
تحالفاتعلى مستوى التحالفات الداخلية، يرى الكاتب علي أحمد أن "واقع حرب تموز كان أصعب مما هو عليه اليوم". فقد كانت القدرات العسكرية لحزب الله حينها أقل، وكان يواجه ضغوطا شديدة من معركة داخلية معقدة.
وكان الدعم الذي يحصل عليه محدودا، حيث لم يكن لديه سوى التيار الوطني الحر، وتيار المردة، وحركة أمل، الذين كانوا شركاءه في مختلف القضايا. في المقابل، كان الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط، وتيار المستقبل والعديد من القوى اللبنانية الأخرى، يقفون ضده، وفق الباحث أحمد.
ويضيف أن هذه المعركة بدأت بالتزامن مع أحداث غزة، حيث اعتُبرت نصرة لها. وبالتالي، اعتقد العديد من المواطنين، خصوصا في الشارع السني والدرزي، أن ما حدث هو دعم للقضية الفلسطينية. ورغم أنهم لم يكونوا متحالفين بالكامل مع حزب الله، فإنهم كانوا -على الأقل- محايدين ويعتبرون أن أفعاله تصب في مصلحة فلسطين.
ومن ناحية أخرى، يشير أحمد إلى موقف التيار الوطني الحر خلال هذه المعركة، حيث أظهر تعاطفا مع النازحين، رغم "أن حرب تموز كانت تُعتبر في نظر البعض بمثابة شراكة معه". أما اليوم، فقد أصبح دوره مقبولا وجيدا في السياق الحالي، برأيه.
في حين يشير الباحث مطر إلى تغييرات ملحوظة في التحالفات الداخلية منذ عام 2006، واعتبر أن الحرب الحالية تعود جذورها إلى حرب غزة، وأشار إلى أن الطائفة السنية تدعم هذه القضية بشكل كامل، بالإضافة إلى وجود تأييد من المسيحيين في لبنان.
وعند استعراض التحالفات الداخلية في لبنان، يلفت مطر إلى وجود تحالف قوي في تلك الفترة، حيث كان العماد إميل لحود يشغل منصب رئيس الجمهورية مما ساهم في فعالية الحكومة. وفي الوقت الراهن، تعيش البلاد مرحلة غياب رئيس، بينما كانت هناك حكومة نشطة في عام 2006. "أما اليوم، فنحن في فترة حكومة تصريف أعمال".
ويُبرز المتحدث التحالف الوثيق الذي كان قائما بين حزب الله والتيار الوطني الحر، حيث كان العماد ميشال عون يمثل تحالفا قويا مع الحزب ووقف إلى جانبه في تلك الفترة، ومع ذلك، أضاف أن الوضع قد تغير اليوم وأكد أن الطائفة الدرزية والسنية تقفان أيضا مع الحزب. ويلفت إلى وجود جزء من المجتمع والقوى السياسية التي تعارض هذه المساندة أو المواجهة، كما كان الحال في عام 2006 ضد الحزب، وبالتالي فإن التحالفات تتغير وتتطور على المستويين الإقليمي والمحلي، مما يبرز ديناميكيات الصراع الداخلي وتعقيداته، بحسب رأيه.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات بین حزب الله حرب تموز أن هناک إلى أن عام 2006
إقرأ أيضاً:
تحولات العلاقة بين المؤلف والنص
قبل ظهور الذكاء الاصطناعي كانت عملية تأليف النصوص تسير وفقا لقواعد راسخة منذ زمن بعيد، ترى في أن أي نص لابد أن يُنسب لمؤلفه حتى ولو كان هذا النص مقدسا، واستقرت علاقة المؤلف بالنص قائمة على حقه الكامل في ملكيته الفكرية. ولقد اتخذت النصوص أشكالا متعددة في خصائصها اللغوية والأسلوبية وبنيتها الفكرية وتنوعت مجالاتها في الصحافة والأدب والعلم والتوثيق، ومع ذلك فإن هذا التعدد والتنوع كان دليلا على أهمية البعد الإنساني الأصيل في عملية التأليف وتفرد المؤلفين البشر في إنتاجهم للنص وأحقيتهم في ملكيته الفكرية.
ومنذ أن تحولت المعرفة الشفهية إلى الكتابة النصية بدأت رحلة تاريخية طويلة من التفاعل بين الإنسان (المؤلف الذي يحتكر القدرة على التفكير) والتكنولوجيا (ممثلة في أدوات الكتابة والنسخ والمعالجة النصية)، وعلى مدى تاريخ التأليف كانت المعرفة نتاجا للخبرة الإنسانية والتفاعل والقصد الإنساني في المعرفة. وكان للتطورات التكنولوجية أيضا أثر كبير على كفاءة عملية التأليف وفاعليتها في التأثير على المجتمع. وأقصد بالتكنولوجيا، هنا المعنى الأنثروبولوجي المتمثل في تلك الأدوات التي ابتكرها الإنسان لتمكينه من السيطرة على حياته بدءا من القلم وصناعة الورق واختراع الآلة الكاتبة مرورا بالتحول الرقمي نحو ابتكار الحاسوب وبرامجه في المعالجة النصية وصولا إلى ابتكار تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تطويرها لنماذج لغوية توليدية.
وبقدر ما واجه المؤلفون عبر هذه الرحلة الطويلة تحديات كبيرة، توفرت لديهم أيضا فرص مهمة أثمرت في تعزيز قدراتهم على التأليف والانتشار وتأكيد حقوقهم القانونية في ملكية النص باعتباره منتجا إنسانيا خالصا. ورغم تعقيدات وتحديات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي مؤخراً فسوف يظل البعد الإنساني حاضرا بقوة في بناء المعرفة الآن وفي المستقبل، ويكفي القول: إن كل ما تفعله تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تطوير نماذج لغوية بارعة في محاكاة التفكير البشري يعتمد بصفة أساسية على كفاء التطبيقات التكنولوجية الجديدة في استخدام الكم الهائل من المعارف الإنسانية التي أنتجها وشارك في تداولها البشر.
وهذا يعني أن جوهر العلاقة بين المؤلف والنص خلال عملية التأليف تقوم على بعدين أساسيين هما: الجهد الإنساني في احتكاره للتفكير والعمليات العقلية من ناحية. واستخدام التكنولوجيا الداعمة للجهد الإنساني من ناحية أخرى. وخلال المراحل السابقة على ظهور الذكاء الاصطناعي ظلت العلاقة بين البعد الإنساني والتكنولوجيا قائمة على أساس الحفاظ على مناطق النفوذ لكلا الطرفين، بحيث يحتكر الإنسان الجانب المعرفي في التأليف، مقابل احتكار التكنولوجيا للأدوات المادية في تيسير العمل الإبداعي والحد من المشقة الجسدية في عملية التأليف والتمكين من الدقة والسرعة والشمول.
غير أن التطور اللافت الآن مع ظهور تطبيقات الذكاء الاصطناعي يكشف عن حدوث تداخل كبير وعميق بين دور الإنسان ودور التكنولوجيا، أو بالأحرى هجوم تكنولوجي كاسح على مواطن قوة الإنسان وتفرده بالعمليات العقلية، حيث بدأت هذه التطبيقات في التوغل بقوة داخل صلب عملية التأليف بمحاكاة النماذج اللغوية التوليدية للعمليات العقلية التي كانت حكرا على المؤلف (الإنسان) وكانت دليلا دامغا على قدرته في تأليف نص دقيق ومؤشرا قويا أيضا على جدارته بحقه في الملكية الفكرية للنص. الآن بإمكان الذكاء الاصطناعي توليد نص متماسك ووثيق الصلة بالسياق ويحاكي الخصائص اللغوية والأسلوبية السائدة في مجالات الكتابة المختلفة، وتستطيع التطبيقات أيضا تأليف آلي لقصيدة واستكمال نص روائي بنفس معايير نبرة الأسلوب الأدبي، وتأليف تقرير صحفي وفقا لقواعد العمل الإعلامي الرصين، وإعداد تقرير علمي مزود بتحليلات جيدة للأدبيات تتوافق مع المعايير الأكاديمية في أسلوب الكتابة العلمية، وهذا يؤدي إلى طمس الحدود الصارمة بين البعد الإنساني والتكنولوجيا في كتابة النص، واختفاء الحدود بين النص المُنْتَج من خلال مؤلف إنسان والنص الآلي المتولد بفعل النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي. وهنا تثار أسئلة جوهرية حول صلب تحولات العلاقة بين المؤلف والنص من قبيل: من المؤلف في النص الآلي؟ وماذا عن حقوق الملكية الفكرية؟ وأين تكمن الأصالة في هذا النص؟ وما الذي يشكل هُويته وأصالته؟ ولكي نستطيع فهم التحولات الجديدة في العلاقة بين المؤلف والنص وتداعياتها على هُوية النص الآلي، يتعين في البداية أن نستعرض طبيعة العلاقة بين المؤلف الإنسان والنص وتطورها في مراحل ما قبل الذكاء الاصطناعي:
تطور علاقة المؤلف بالنص
في البدء كانت المعرفة، وكان السبيل إليها تفاعل البشر وتجاربهم الإنسانية في الحياة اليومية، وتداول هذه المعرفة بطريقة شفهية، وكذلك انتقالها وتعلمها عبر الأجيال بطريقة شفهية أيضا. ويمكن النظر إلى تلك المعارف المتداولة شفهيا مجازاً بأنها نصوص شفهية أيضا، وفي هذه المرحلة المبكرة من التطور البشري قبل عصر الكتابة، كانت المعرفة كامنة في الذاكرة الجمعية لدى كُل جماعة إنسانية، حيث تنشأ المعرفة وتتبدل ويعاد إنتاجها بموجب التفاعل التواصلي بين الناس وعبر الأداء اللغوي (ممثلا في الأقوال والأمثال الشفهية، وإلقاء الشعر، والغناء، والابتهال... الخ)، كما أن عمليات تأليف هذه النصوص الشفهية ظلت إنسانية بامتياز وقائمة على تفاعل حر وطوعي بين البشر في أطر جماعية محددة، غير أن تداول هذه النصوص شفهيا يجعلها متنوعة ومتغيرة من جماعة لأخرى ومن مكان لآخر ومن فترة زمنية لأخرى بموجب التفاعل الإنساني المشترك في الحذف والإضافة. ورغم أهمية دور الفرد في الإبداع، فإن عمليات التداول الشفهي تجعل تأليف النص الشفهي عملية جماعية موزعة وقاسما مشتركا بين كافة أعضاء الجماعة التي تحتفظ بالنص في ذاكرتها الجمعية.
ورغم أهمية دور الراوي أو الشاعر الشعبي الفرد في تعديل النص الشفهي وتكييفه مع الجمهور أثناء عمليات الأداء، فإن سلطة الجماعة في الثقافة الشفهية تظل مصدر اليقين النهائي في تحديد معنى النص الشفهي وملكيته وحمايته من الزوال.
ومع ظهور الكتابة بدأت أولى مراحل التفاعل المعقد بين الجهد الإنساني والأدوات التكنولوجية في إنتاج المعرفة وتداولها، واستمر هذا التفاعل على مدى تاريخ الجنس البشري حتى اليوم. كانت نقطة البداية مع ظهور الكتابة اليدوية بفعل وجود نُخبة مثقفة لديها رغبة جامحة لتداول المعرفة داخل دوائر نُخبوية محددة سواء داخل مجتمع واحد أو عبر عدة مجتمعات تجمعها قومية واحدة. وقد ساهم هذا التحول في وجود نص مدون منسوب لمؤلف محدد يكتسب مصداقيته من المكانة الرمزية لهذا المؤلف في نظر النُخبة وعامة القراء على السواء. ومن ثم أصبحت علاقة المؤلف بالنص المكتوب وثيقة وشخصية وتنطوي على حقوق واضحة في الملكية الفكرية يصعب تجاوزها.
كانت شروط الكتابة اليدوية الجيدة مرهونة بثلاثة عوامل إنسانية وتكنولوجية متداخلة وهي: كاتب لديه قدرات معرفية وقادر على التدوين بحرفية بالغة في الدقة والجهد وحسن الخط، وأدوات تكنولوجية معينة كالقلم أو الريشة المزودة بأحبار، ولوحات من النباتات أو الأخشاب أو الجلود ثم الورق. في هذه المرحلة كان المؤلف هو نفسه من يتولى الكتابة مباشرة بيده، ومن ثم كانت عملية الكتابة يتخللها تفاعل مباشر وعضوي بين التفكير الإنساني والعواطف والمشاعر من ناحية، وأدوات الكتابة ذاتها من ناحية أخرى، حيث كان المؤلف يُفكر فيما يكتب لحظة الكتابة ذاتها، وقد ظل هذا الإحساس قائما إلى وقت قريب لدى تجارب كثير من المؤلفين كبار السن الذين يقترن التفكير لديهم بمجرد الإمساك بالقلم ومحاولة التعبير عن أفكارهم على الورق، وكُلما نَجح المؤلف في كتابة نص محكم بيده يشعر براحة نفسية وسعادة غامرة كأن النص امتداد جسدي وفكري ونفسي له، وكثيرا ما تؤثر هذه العادات على التعلق بالجوانب التكنولوجية كالأقلام والأوراق باعتبارها من لوازم ومتطلبات الكتابة الحميمة والمضنية في الوقت ذاته.
ولدواعي تداول النص كان يتم اللجوء إلى أشخاص يعملون كناسخين لنصوص كُتُب قابلة للتداول، وكانت وظيفة «الناسخ» أو «الكاتب» تقتضي مؤهلات تعليم أولية وإجادة للقراءة والكتابة والخط الجيد للعمل به، وتنحصر مهمته في التدوين فقط بصورة منفصلة عن المؤلف. ورغم ما قدمته التطورات التكنولوجية من دور بارز في دعم المؤلف عبر صناعة الأقلام والأحبار والورق لتعزيز النص، فإن فعل الكتابة اليدوية الغارق في الجهد البشري كان مضنيا وصعبا ونادرا بفعل ندرة المهارات لشغل وظيفة «الكاتب»، كما أن الكتابة اليدوية كانت تستغرق وقتا أطول ويتخللها تصحيحات كثيرة تستنزف كثيرا من الجهد والوقت. ومع ذلك فإن هذا الاستغراق الإنساني في فعل الكتابة اليدوية لدى المؤلفين كان يُضفي عليها حرارة إنسانية وملامح أُسلوبية أصيلة وثيقة الصلة برؤية المؤلفين وقاموسهم اللغوي، وهذا يعزز من أصالة النص ويعطي المؤلفين الحق الكامل في ملكيته الفكرية.
وفي القرن الخامس عشر حدث تحول جديد في علاقة المؤلف بالنص بفعل اختراع المطبعة علي يد يوهان جوتنبرج Johannes Gutenberg (1398 م - 1468 م) بحيث انفصلت عملية تأليف النص عن عملية تداوله، وأصبحت مهمة المؤلف تقديم مخطوط قابل للتداول، وتتولى المطبعة مراجعته وإعداده للطباعة بنسخ كثيرة يُمكن أن تصل إلى جمهور كبير من القراء، هذا التطور التكنولوجي أحدث ثورة كبيرة في عالم النشر ومكّْن المؤلفين من اكتساب الشهرة وتداول أفكارهم على نطاق واسع في إطار صناعة منفصلة تماما عن عمليات التأليف، وساهم أيضا في تعزيز أصالة النص بمقتضى نوعين من الحقوق القانونية: حق المؤلف بموجب الملكية الفكرية للنص، والحق المادي في النشر بموجب الطباعة والتوزيع. ورغم ذلك قُوبل ظهور تكنولوجيا الطباعة في البداية بكثير من الشك والريبة خوفا على أصالة النصوص واحتمالات التلاعب بها، حدث ذلك في كثير من البلدان وحتي داخل أوروبا ذاتها وأبرز المخاوف كانت الخشية من انقراض مهن الكتبة والخطاطين وإعداد المخطوطات والخوف على زوال جماليات فن تصميم المخطوطات وتراجع فن الخط، والخوف من الطباعة لأسباب رقابية تتعلق باحتمالات استغلالها في التضليل المعلوماتي والتحريف والتلاعب بالنصوص لإثارة الفتن، ومن المثير أيضا أن رجال الدين في العالم العربي افتوا بتحريم المطبعة ليس فقط خوفا على تحريف الكتب الدينية بل أيضا بالادعاء أن الكتب المطبوعة يمكن أن تقلل من همم الطلاب وعدم حفظهم للعلم ونسيانه.
ظلت عملية كتابة النص الأصلي بيد المؤلف قائمة لأكثر من أربعة عقود في ظل الطباعة باعتبار أن النص الأصلي المكتوب يدويا يُُمثل أساس الملكية الفكرية للمؤلف. وتغير هذا الوضع مع ظهور الكتابة الآلية في أواخر القرن التاسع عشر، عندما تم اختراع الآلة الكاتبة. وبذلك أصبح هناك نوعان منفصلان من الكتابة: الأولى كتابة يدوية للنص كمسودة أولية بيد المؤلف، والثانية كتابة آلية للنص موحدة الملامح نقلا عن مخطوط المؤلف باستخدام الآلة الكاتبة، ويتم إعداد نص الآلة الكاتبة بالاستعانة بآخرين من المحترفين على استخدامها. وهذه النسخة الأخيرة يمكن دفعها للطباعة على نطاق واسع، وساعد هذا التطور التكنولوجي على سرعة الكتابة الآلية الموحدة القابلة للطباعة مع تراجع الكتابة اليدوية التي باتت تنحصر في إطار العملية الفكرية التي يقوم بها المؤلف عند القيام بإعداد النص الأصلي فقط.
مع ظهور الحواسب الآلية الشخصية وبرامج معالجة النصوص في أواخر القرن العشرين حدث تحول آخر نحو ما يسمى بالكتابة الرقمية، حيث مكن هذا التطور التكنولوجي المؤلفين من القيام بالكتابة بأنفسهم باستخدام الحواسب الآلية الشخصية وإمكانية نقل الملفات وتعديل النص بالحذف والإضافة والتنسيق بسهولة وسرعة فائقة. بالإضافة إلى إمكانية نَسخ عدة نُسخ بسهولة وسرعة كبيرة بما يتطابق تماما مع النص الأصلي. وبمرور الوقت بدأ الاعتماد المباشر على نُسخة واحدة يكتُبها المؤلف بِنفسه مُستخدما الحاسب الآلي، وبذلك تراجعت الكتابة اليدوية تماما وحلت محلها الكتابة الرقمية الموحدة باستخدام لوحة المفاتيح على الحاسبات الشخصية. لم يعد هناك نسخة أصلية ثابتة بخط يد المؤلف، بل عِدة نُسخ رقمية قابلة للتحرير والتعديل باستمرار وبسهولة من جانب المؤلف. ويمثل ذلك تطورا كبيرا في العلاقة التفاعلية بين الإنسان (المؤلف) والآلة (الحاسب الآلي) عند كتابة النص، وبقدر ما أدى ذلك إلى مزيد من سهولة تعامل المؤلف مع النص وتحكمه فيه، ساهم أيضا في تحديات تتعلق بإثبات صحة النسخة الأصلية من النص بسبب كثرة التعديلات ما قد يؤثر سلبا على أصالة النص وصعوبة إثبات حقوق الملكية الفكرية للمؤلف.
وهكذا يتضح لنا أن البعد الإنساني ظل حاضرا بقوة عبر كافة مراحل تطور عملية التأليف منذ الكتابة اليدوية مرورا بالكتابة الآلية والمطبعية ثم الكتابة الرقمية، وكانت التحولات التكنولوجية السابقة تُشكل تحديا كبيرا لاحتكار الجسد لفعل كتابة النص (باليد)، بالإضافة إلى ما وفرته من فرص لتعزيز وتدعيم عمليات التأليف في بعدها الإنساني، بحيث طُرحت بدائل جديدة لإتمام كتابة النص بمساعدة الآلة وصولا إلى التخلي عن الكتابة باليد. وقد ساعد ذلك المؤلفين على التحكم أكثر في عملية التأليف براحة ويُسر مع الحفاظ على أصالة النص وانتسابه للمؤلف بموجب حقوق واضحة في الملكية الفكرية. وبظهور تطبيقات الذكاء الاصطناعي انقلبت هذه المعادلة رأسا على عقب وتغيرت معها تماما قواعد اللعبة في العلاقة التقليدية بين المؤلف والنص.
الذكاء الاصطناعي وإعادة رسم
حدود العلاقة بين المؤلف والنص
ثمة تطورات حديثة وغير ومسبوقة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي تهتم بتوليد النصوص من خلال ما يُعرف بالنماذج اللغوية الهائلة Large Language Models، وهي مُصممة للتدخل في مراحل عملية الكتابة عبر معالجة اللغة وصياغة المقالات المطولة في مختلف أنواع النصوص، وبذلك أتاح ظهور الذكاء الاصطناعي في مجالات الكتابة فرصاً كثيرة مهمة أمام الكٌتاب في كافة أنواع الكتابة وبصورة غير مسبوقة أهمها: الاطلاع على البيانات الضخمة والإفادة بها في إثراء الكتابة والتحقق الفوري من المعلومات بشأن الأحداث الجارية بكفاءة بما يفيد الصحفيين من الكتابة بكفاءة وسرعة فائقة. وكذلك إلهام الأدباء بموضوعات جديرة بالسرد القصصي، وإتاحة فرص تجريب أساليب جديدة في الكتابة الأدبية، والإلمام بأبعاد ومعارف دقيقة وشاملة حول الشخصيات والأحداث والأماكن الأساسية في أثناء عمليات السرد الروائي، إضافة إلى سرعة الاطلاع على الأدبيات عند الكتابة الأكاديمية وتلخيص نتائجها بسرعة ودقة فائقة، وتوسيع نطاق المصادر والمراجع اللازمة للنص الأكاديمي، وكذلك مساعدة القائمين على الكتابة التوثيقية على توظيف إمكانيات الرقمنة والفهرسة لنصوصهم بدقة، وسهولة الكشف عن المواد الأرشيفية بشكل أسرع وإمكانية الحصول على الدعم في مجال تحليل النصوص الوثائقية بصورة جيدة.
غير أن التحديات الناتجة عن استخدام النماذج اللغوية الضخمة تكمن فيما تتمتع به من خصائص معرفية جديدة، حيث ساهمت بتعزيز وتطوير الكتابة من خلال الإمداد بالمعلومات والأفكار وتحسين الصياغة والأسلوب اللغوي والقيام بعمليات تنطوي على قدرات عقلية معقدة كالتلخيص والإسهاب والتصنيف والتحليل والمقارنات، إضافة إلى إمكانيات تنظيم بنية النص وتوثيق المراجع والمصادر، والتدقيق اللغوي والنحوي والترجمة وغير ذلك من العمليات المعرفية التي كانت حكرا على المؤلف (الإنسان). وإذا كانت التحولات التكنولوجية السابقة عَزَّزِت ودعّمت الجسد الإنساني بالبراعة اليدوية في فن الخط والكفاءة الميكانيكية في الكتابة والتحرير الآلي وتقنيات الطباعة وتداول النصوص، وقدرات التحرير المرنة في معالجة النصوص عبر الحواسب الآلية الشخصية، فإن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تقوم بعمليات معرفية تفوق ما كان يحدث من قبل بكفاءة وشمول وسرعة فائقة، وتتوغل بقوة أكبر في محاكاة التفكير الإنساني لإنتاج نصوص شبيهة بالنصوص التي يُنتجها المؤلف الإنسان. وهذا يشكل تحديا كبيرا للقدرات العقلية في آخر وأهم معاقل نفوذ الدور الإنساني في إنتاج النص.
وقد ترتب على توليد النصوص بالذكاء الاصطناعي تحولات جوهرية في عملية التأليف ذاتها بحيث انتقلت من كونها عملية فردية قائمة على قدرات ومهارات المؤلف (الإنسان) إلى كونها أصبحت عملية تشاركية بين المؤلف (الإنسان)، والتكنولوجيا الحديثة (الآلة) ممثلة في التطبيقات الخوارزمية التوليدية للنصوص. كما أنها أصبحت عملية تفاعل مُركبة مع التكنولوجيا لاستيعاب أكبر قدر ممكن من المعلومات والبيانات والأفكار تم جمعها وتحليلها وصياغتها لغويا داخل النص بشكل مُنظم وبسرعة فائقة بما يوفر على المؤلفين البشر الجهد في التفكير والعمليات المعرفية. كما تتسم عملية التأليف الجديدة باعتمادها الأساسي على التوليد الموجه من خلال مدخلات منظمة يقوم بها المؤلف (الإنسان) في توجيه وإدارة للذكاء الاصطناعي في عمليات حفز مستمرة وتفاعلية يتوقف عليها المنتج النهائي للنص.
مع الأخذ في الاعتبار أن عملية التأليف أصبحت قائمة على ما يُسمي بالتناص الرقمي (digital intertextuality) أو التناص الخوارزمي (algorithmic Intertextuality) بمعني أن النصوص المتولدة بالذكاء الاصطناعي تستمد مُقوماتها وأسلوبها وبِنيتها اللغوية من مصادر بيانات ونصوص كثيرة موجودة سابقا تم الاطلاع عليها رقميا وإدماجها في إنشاء نص جديد، سواء تم ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ويتسق ذلك مع وجهة النظر السائدة في الدراسات الأدبية بأن جميع اللغات حوارية بطبيعتها، أي أن كل عبارة أو نص هو استجابة لنصوص سابقة وفقا لما أطلق عليه باختين «الطبيعة الحوارية للغة» والتي تعني أن النصوص دائمًا في حوار مع بعضها البعض، وبحسب تعبير رولان بارت بأن النص نسيج من الاقتباسات المستمدة من نصوص أُخرى. غير أن الفارق بين التناص التقليدي والتناص الرقمي في التأليف يكمن في اعتماد الأول على قيام المؤلف بإبراز الفروق الواضحة بين صوته وصوت المؤلفين السابقين عليه.
وعلى ضوء ذلك لم يعُد للمؤلف (الإنسان) السلطة المطلقة على صياغة النص، ولم يعُد المُؤلف ذلك الفرد العبقري المتوج على عرش عملية بناء المعرفة داخل نصوص مؤلفه، بل أصبح شريكا في عملية تأليف متعددة الأبعاد، والمهام، والأدوار، والأطراف. وأصبح انخراط الكاتب في التكنولوجيا بعُمق شرطا مهما لانفتاح المؤلف (الإنسان) على عوالم معرفية كثيرة كانت مغلقة أمامه وعصية على بلوغها وتتطلب وقتا أطول وجهدا مضنيا لا يقوى عليه بمفرده. وأصبح المؤلف (الإنسان) شريكا في عملية آلية لتوليد النص بمقتضي توجيهاته وتلك مهارة مهمة يتعين إتقانها من جانب كل من يستخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التأليف المشترك، وبحسب مدى ودقة وكثافة التوجيهات المقدمة من المؤلف يتحدد مدى جودة النص المتولد آليا. وللمؤلف (الإنسان) كشريك في عملية التأليف مسئوليات مهمة، وأحسب أنها أيضا مهارات جديدة تحدد مصير النص المُنّتَج في أصالته وملكيته الفكرية أهمها: المراجعة اللغوية الدقيقة بحسب مدى الملائمة مع أسلوب المؤلف ونوعية الكتابة (صحفية، أدبية، علمية.. الخ)، وإدخال تعديلات بهدف الترابط في الأفكار وتسلسلها المنطقي، ومراجعة صور التحيز القائمة بالنص، ومراجعة المعلومات والمصادر والمراجع للتحقق من مصداقيتها، وتزويد النص بالاقتباسات الضرورية، وربط النص بالسياق. وبطبيعة الحال فإن اتباع هذه المسئوليات أن دور المؤلف اتسع ليتجاوز كتابة جانب من النص بحيث يشمل أدوارا أخرى تتضمن التوجيه وإدارة النص المنتج آليا وإدخال تعديلات عليه ليكتسب أصالته، وهذا يعني ادخال تعديلات بفعل إنساني قصدي على النص المتولد آليا بما يتجاوز مجرد الكتابة التقليدية، بحيث يصبح النص الناتج مزيجا من تناص رقمي وجهد بشري من جانب المؤلف (الإنسان) لا يخلو أيضا من تناص تقليدي، وعلى قدر ما يَبذُل المؤلف من جهد في هذه العملية المُشتركة تتحدد درجة أصالة النص وملكيته، و يَتحدد أيضا دور الذكاء الاصطناعي فيما إذا كان مساعدا أو شريكا في التأليف وتتحدد أيضا هوية النص.
ولقد أثارت التحولات الجديدة في توليد النص بفعل الذكاء الاصطناعي خلافات حادة داخل المؤسسات العلمية والصحفية والأدبية وكذلك المحاكم في كثير من دول العالم حول معنى مفهوم التأليف، وما إذا كان النص المتولد بالذكاء الاصطناعي مؤلَفًا؟ وإذا كان تأليفا فمن يملُك حقوق التأليف والنشر للمحتوي الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي؟ هل المُؤلف (الإنسان) مستخدم التطبيقات هو صاحب حق التأليف؟ أم الذين يقومون بتطوير النماذج اللغوية؟ أم أن حقوق التأليف أصبحت على المشاع بمقتضى خاصية التناص الخوارزمي؟ ومتي وكيف يكون المحتوي المتولد بفعل الذكاء الاصطناعي أصليا لضمان حماية حقوق النشر الناتج عنه؟ وهناك محاولات جادة في تصميم برامج لكشف أصالة النص والتمييز بين النص البشري والنص المتولد بالذكاء الاصطناعي، غير أن الصراع الجاري الآن بين برامج كشف الأصالة والتطور المذهل في محاكاة النص المتولد آلياً مع النص البشري يشبه ما يعرف بسباق التسلح التكنولوجي technological «arms race – حسب تعبير جون ماي John May. وغالبا ما تنظر المؤسسات العلمية ودور النشر و الدوريات العلمية والمؤسسات الصحفية والأدبية والقضائية إلى ضرورة اشتراط التأليف البشري كأساس لحماية حقوق الملكية الفكرية، مع ضرورة إثبات الجهد البشري وإفصاح المؤلف بشفافية عن الفروق بين إسهامه وإسهام الذكاء الاصطناعي في صياغة النص النهائي، باعتبار ذلك التزاما أخلاقيا لا مفر منه. وكل ذلك يعني أن هوية النص في زمن الذكاء الاصطناعي أصبحت مستقلة عن المؤلف ولأول مرة منذ عصر الكتابة اليدوية، وأن عملية إعادة صياغة علاقة المؤلف بالنص على أسس جديدة الجارية الآن، والتي لم تُحسم بعد، أصبحت ضرورة لا مفر منها.
د. سعيد المصري أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة والأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة.