لو كانت الحروب تقاس من خلال تأثيرها الاقتصادي فقط، لكان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد أعلن منذ فترة طويلة "النصر الكامل". فقد أصبح قطاع غزة في حالة خراب، واقتصاد الضفة الغربية محطم، واقتصاد لبنان يترنح تحت وطأة الهجوم الإسرائيلي على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية.

لكن في حال أعلنت إسرائيل النصر، فلن يعترف مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن هذا  النصر يعد بيريك (Pyrrhic).

ومع ذلك، من الناحية الاقتصادية، سيكون هذا الانتصار مكلفًا للغاية، تمامًا كما لو كان انتصارا كاملا، بحسب تقرير لصحيفة هآرتس الإسرائيلية.

وتشير كلمة بيريك (Pyrrhic) إلى انتصار باهظ الثمن، حيث تكون تكلفة تحقيق النصر كبيرة للغاية.

لماذا خسر اقتصاد إسرائيل الحرب؟

بحلول الثلاثين من يونيو، أصبح الاقتصاد الإسرائيلي أصغر بنحو 1.5 بالمئة، مقارنة بالعام السابق، وذلك لأنه لم يتعاف بعد بشكل كامل من انهيار الأسابيع القليلة الأولى من الحرب.

لقد خفضت وكالات التصنيف الائتماني الثلاث العالمية الرئيسية: موديز وستاندرد آند بورز وفيتش، التصنيف الائتماني لإسرائيل. كما انكمشت الصادرات والاستثمارات، وتسببت القيود المفروضة على المعروض في زيادة التضخم، وسوف يستغرق سداد فاتورة الحرب المتضخمة سنوات عديدة.

ولن تتوقف الأضرار الاقتصادية في النمو، حيث تتوقع وكالة ستاندرد آند بورز غلوبال، وهي آخر وكالات التصنيف الائتماني التي تحركت ضد الاقتصاد الإسرائيلي، أن يحقق الاقتصاد الإسرائيلي نموًا صفريًا في عام 2024 ونموًا بنسبة 2.2 بالمئة في عام 2025، أي أقل من نصف تقديراتها السابقة.

ووفقًا لوكالة ستاندرد آند بورز، سينكمش الناتج المحلي الإجمالي هذا العام وينمو فقط بنسبة 0.2 بالمئة في عام 2025. ولا يزال قطاع التكنولوجيا الفائقة في حالة ركود، حيث انخفض عمليات جمع التمويل بنسبة 20 بالمئة في الربع الثالث مقارنة بالربع الثاني، وفقًا لمركز أبحاث IVC.

هل كان لا بُدَّ أن يصبح الاقتصاد بهذا السوء؟

تقول الصحيفة الإسرائيلية إن هناك عاملان يجب أخذهما في الاعتبار:

الأول هو ما إذا كان لابد أن تستمر الحرب كل هذه المدة الثاني هو ما إذا كانت الحكومة قادرة على إدارة التأثير الاقتصادي للصراع على نحو أفضل.

لقد كان من الواضح منذ البداية أن حرب غزة لن تكون مثل الحروب الأخرى مع حماس، والتي لم تستمر لأكثر من بضعة أسابيع.

لقد علمت إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023 أن حماس لم يعد من الممكن احتواؤها ــ بل لابد من هزيمتها، وهزيمة حزب الله أيضاً لأنه يشكل تهديداً مماثلاً. وهذا من شأنه بالضرورة أن يستلزم حرباً أطول وأكثر تكلفة، ولكن إلى متى وإلى أي مدى سوف تكون هذه الحرب مكلفة... الإجابة تعتمد في المقام الأول على القادة الإسرائيليين.

إسرائيل تصر .. لا مزيد من الاحتواء

لقد كانت الحكومة الإسرائيلية تدعو إلى تحقيق "النصر الكامل". وبالنسبة لنتنياهو فإن هذا يعني انتصاراً من شأنه أن يمحو وصمة العار التي لحقت بمسيرته المهنية منذ السابع من أكتوبر، وأن يسمح له بالاحتفاظ بمنصبه كرئيس للوزراء. أما بالنسبة لشركائه من اليمين المتطرف فإن النصر يعني إعادة احتلال غزة وإعادة توطين سكانها لمحو "وصمة العار" التي لحقت بانسحاب عام 2005.

بعد مرور عام على القتال، لا تزال أمانيهم عن النصر الكامل بعيدة المنال، وبالتالي تستمر الحرب دون نهاية تلوح في الأفق.

كان بوسع زعماء إسرائيل أن يختاروا تبني وجهة نظر أوسع نطاقاً بشأن الحرب وأهدافها، وخاصة تأثيرها على الاقتصاد ومكانة إسرائيل العالمية. وكان بوسعهم أن يحددوا لأنفسهم أهدافاً عسكرية معقولة، مثل ضمان إضعاف حماس عسكرياً إلى الحد الذي يجعلها عاجزة عن شن حرب أخرى مثل حرب السابع من أكتوبر، وإنشاء آليات لحكم غزة وإعادة بنائها بعد انتهاء القتال.

وقالت الصحيفة الإسرائيلية: "لو كان الأمر كذلك، لكان من الممكن أن يتم الإعلان عن النصر في غزة قبل أشهر، وتحويل الاهتمام إلى لبنان في وقت مبكر بما يكفي لكي نحتفل في السابع من أكتوبر 2024 بالذكرى السنوية لصراع قد ولى وانتهى. ولكانت الضربة التي لحقت بالاقتصاد نتيجة لحرب أقصر أمداً خطيرة، ولكنها كانت لتكون أقل كثيراً، ولكانت عملية التعافي قد بدأت بالفعل".

وفيما يتعلق بالقضية الثانية المتعلقة بالإدارة الاقتصادية للأزمة، يكفي أن ننظر إلى كيفية تعامل نتنياهو مع وزيري الدفاع والمالية.

وداعا لـ الاقتصاد

رغم أن نتنياهو يواصل تهديده بإقالة وزير الدفاع لأسباب سياسية بحتة، فإن الحقيقة هي أن رئيس الوزراء أبقى على يوآف غالانت في وظيفته لأنه يدرك أن البلاد لا يمكن أن تكون بدون وزير دفاع ذي خبرة واسعة وقادر على إدارة الحرب، خاصة عندما تكون إسرائيل على شفا الحرب مع إيران.

وقالت الصحيفة إن إسرائيل في زمن الحرب تحتاج أيضاً إلى وزير مالية متمرس وقادر (ومتفرغ)، ولكن نتنياهو راضٍ عن السماح لبتسلئيل سموتريتش عديم الخبرة واللامبالاة بالبقاء في منصبه. وعلى النقيض من جالانت، الذي لا يتمتع بقاعدة ناخبين ولا يساهم بأي شيء في الحفاظ على الائتلاف، فإن سموتريتش يشكل أهمية بالغة لنتنياهو على المستوى السياسي.

قبل عشرين عاما، أطلق نتنياهو إصلاحات اقتصادية غير مسبوقة؛ وكان ذات يوم يفتخر بأنه رجل الاقتصاد وليس رجل الأمن.

واليوم، يأتي الاقتصاد في المرتبة الثانية بعد الحسابات السياسية والحربية. وعلى هذا، فبرغم العجز المالي المتزايد، وعملية إعداد الميزانية لعام 2025، وسلسلة من تخفيضات التصنيف الائتماني، وتسارع التضخم في وقت حيث ينخفض ​​التضخم في بقية العالم، فإن وظيفة وزير المالية سموتريتش تظل آمنة.

بالنسبة للاقتصاد العالمي، لم تسجل الحرب أي أثر يذكر. خارج منطقة الحرب في إسرائيل والضفة الغربية وغزة ولبنان، لم تشعر سوى مصر (بسبب فقدان إيرادات قناة السويس نتيجة هجمات الحوثيين على التجارة البحرية) والأردن (التي تأثر التجارة الخارجية بها أيضًا بهجمات الحوثيين) بتأثيره.

لكن الحرب مع إيران قد تؤدي إلى تغير الصورة كليا، فإن ردت إسرائيل على وابل الصواريخ الإيرانية الأسبوع الماضي بضرب منشآت النفط الإيرانية، فقد يخسر العالم أربعة ملايين برميل من النفط يوميا، أو نحو 4 بالمئة من إجمالي النفط العالمي.

إن مجرد ضرب الصادرات الإيرانية ــ وهو أمر ليس بالصعب من الناحية العسكرية لأن 90 بالمئة من الصادرات الإيرانية تمر عبر محطة ضخمة واحدة في جزيرة خرج ــ من شأنه أن يتردد صداه في مختلف أنحاء العالم لأن نحو نصف الإنتاج الإيراني يتم تصديره.

وتقدر شركة الاستشارات ClearView Energy Partners أن الهجوم على إيران قد يرفع أسعار النفط بنحو 13 دولارا للبرميل. وهذا أعلى من 78 دولارا للبرميل لخام برنت القياسي بعد أن بدأت أسعار النفط في الارتفاع الأسبوع الماضي بعد تعهد نتنياهو بالانتقام.

وقد يكون الأمر أسوأ إذا ردت طهران وأدى ذلك التصعيد إلى إغلاق مضيق هرمز. حيث إن خمس النفط العالمي يمر عبر ذلك المضيق المائي بين إيران والإمارات العربية المتحدة.

وفي وقت سابق، قال أعضاء منظمة الدول المصدرة للبترول أوبك إنهم ينتجون نحو خمسة ملايين برميل يومياً أقل مما يستطيعون إنتاجه، وبالتالي فإنهم قادرون على زيادة الإنتاج لاستبدال النفط الإيراني.

ولكن هذا الإجراء سوف يستغرق بعض الوقت: تقول شركة كلير فيو إن انقطاعاً لمدة سبعة أيام في جميع صادرات الخليج من شأنه أن يرفع أسعار النفط بما يصل إلى 28 دولاراً للبرميل.

وعلاوة على ذلك، فإن القدرة الإضافية لمنظمة أوبك تتركز في الخليج بشكل رئيسي، لذا فإذا اشتعلت الحرب في المنطقة، فقد لا يتمكنون من زيادة الإنتاج لبعض الوقت.

وبحسب الصحيفة الإسرائيلة، فإن الهجوم الإسرائيلي على إيران من شأنه أن ينعكس بسهولة على الاقتصاد الإسرائيلي من خلال رفع تكلفة النفط المستورد وفي نهاية المطاف رفع تكاليف جميع المنتجات بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة.

من الصعب أن نصدق أن إيران قد تختار توجيه ضربة بهذه القوة إلى الاقتصاد العالمي بهذه الطريقة. ولكن طهران ربما تراهن على أن الولايات المتحدة سوف تتعامل بجدية مع مسألة إرغام إسرائيل على إنهاء الصراع. وفي حال تحقق هذا السيناريو، فإن الحرب سوف تنتهي أخيرا، ولكن بثمن باهظ بشكل خاص بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي.

المصدر: سكاي نيوز عربية

كلمات دلالية: ملفات ملفات ملفات إسرائيل بيريك الاقتصاد الإسرائيلي وكالات التصنيف الائتماني موديز وفيتش الصادرات الاقتصاد الإسرائيلي الناتج المحلي الإجمالي حرب غزة نتنياهو وزير الدفاع مصر الحوثيين إيران اقتصاد إسرائيل خسائر اقتصاد إسرائيل الحرب في غزة إنهاء الحرب في غزة وقف الحرب في غزة خسائر الحرب في غزة إسرائيل بيريك الاقتصاد الإسرائيلي وكالات التصنيف الائتماني موديز وفيتش الصادرات الاقتصاد الإسرائيلي الناتج المحلي الإجمالي حرب غزة نتنياهو وزير الدفاع مصر الحوثيين إيران أخبار إسرائيل الاقتصاد الإسرائیلی التصنیف الائتمانی

إقرأ أيضاً:

أي نموذج اقتصادي جديد تنتظره سوريا؟

يحتل موضوع "إنعاش الاقتصاد" صدارة المشهد السوري بعد أن تعرض لأضرار جسيمة في موارده وأصوله المادية، وحوّلته الحرب خلال العقد الأخير إلى اقتصاد هش يعاني، بحسب المؤشرات العالمية، من تفتت وانتكاسات، أثرت بشكل سلبي على معدلات النمو والإنتاج والتجارة وتدفقات رأس المال.

وبينما تحاول حكومة النظام السوري اتخاذ إجراءات عديدة لإنعاش قطاعات الإنتاج والاستثمار والنقد، وهي أكثر القطاعات تأثرا بالصراع، مستفيدة من الهدوء النسبي التي تشهده جبهات الحرب، رغم غياب الموارد الداعمة وانعدام السلام والأمن والاستقرار، يرى محللون أن تلك الإجراءات مجرد حلول تعويضية، الغرض منها تعويض الخسائر التي منيت بها قطاعات النفط والتجارة والسياحة والصناعة، وكان لها تأثيرات ضخمة على موارد الدولة والتي استثمرتها الآلة العسكرية، وليست حلولاً لمشكلة الاقتصاد الذي يعاني من خلل بنيوي وهيكلي منذ عقود.

في حين وصف آخرون الاقتصاد بالهجين، الذي يفتقر إلى هوية لاعتماده على إستراتيجيات منتقاة وسياسات متضاربة، فشلت في تحقيق معايير النمو وعدالة توزيع الثروة والدخول، وساعدت طبقة متنفذة على احتكار غنائمه وتأسيس إمبراطوريات مالية، حققت عائدات ضخمة غير مشروعة في غياب سلطة القانون.

تعاف دون موارد داعمة

من جهته، توقع كنان ياغي وزير المالية السابق في نظام الأسد أن يحقق النمو الاقتصادي نسبة 1.5% هذا العام، لافتا إلى أن العقوبات الدولية المفروضة على سوريا أعاقت وصول التحويلات المالية، في وقت يحتاج فيه الاقتصاد -الذي بلغت خسائره نحو 300 مليار دولار وفق أقل التقديرات- إلى الدعم والقروض لإعادة بناء البنية التحتية، بحسب قوله.

توقعات بأن يحقق النمو الاقتصادي نسبة 1.5% هذا العام (الجزيرة)

وأوضح في تصريحات متلفزة، خلال مشاركته في الاجتماع السنوي للهيئات والمؤسسات المالية العربية الذي عقد في القاهرة في مايو/أيار الماضي، أن الهدف الذي تعمل الحكومة عليه هو البحث عن محركات النمو الذاتي من خلال تنمية القطاع الخاص، على اعتبار أن الاقتصاد بدأ بمرحلة التعافي، وهناك حاجة لبعض الوقت كي تظهر النتائج الإيجابية على أرض الواقع.

في المقابل، استبعد الخبير الاقتصادي عبد الستار دمشقية أن تكون الإجراءات التي اتخذتها الحكومة خلال السنوات الثلاث التي مضت قد أسهمت في حماية الاقتصاد من استمرار تدهوره، واعتبرها "مجرد تحرك محدود أو معالجة وقتية تفتقر إلى إستراتيجية واضحة، وتحدد الهوية الحقيقية للاقتصاد ومساره المستقبلي".

ووصف القول بإمكانية تعافيه ونموه في ظل غياب الموارد الداعمة، وغياب الأمن والاستقرار وسيادة القانون، بكونه "تكهنات مبالغا فيها".

وأوضح دمشقية، في حديثه للجزيرة نت، أن الاقتصاد السوري منذ ثمانينيات القرن الماضي يعاني من اختلالات واضطرابات وتشوهات، تفاقمت بشكل كبير أثناء الحرب، حيث تكبد خسائر إضافية، تدرجت من دمار أصوله المادية وتراجع حجم رأس المال الأجنبي والاستثمارات الخارجية، إلى تدهور أرقام الإنتاج المحلي، بشقيه الصناعي والزراعي، والاعتماد كليا على الاستيراد والمعونات الخارجية لردم الفجوة الحاصلة.

ووفق دراسة أعدها المركز السوري لبحوث الدراسات:

بلغت خسائر الاقتصاد نحو 530 مليار دولار، أي ما يعادل 9.7 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لعام 2010 بالأسعار الثابتة.  بلغت نسبة الدمار في البنية التحتية نتيجة المعارك في البلاد نحو 40%. كشفت الدراسة عن ارتفاع الدين العام للبلاد لنحو 208% نسبة إلى الناتج المحلي. وفق الدراسة فقدت العملة المحلية نحو 97% من قيمتها. بلغت معدلات البطالة نسبة 42%.

وفي السياق ذاته، تفيد دراسة أخرى، أجرتها وكالة المعونة الدولية "وورلد فيجين" بمشاركة "فرونتير إيكونوميكس"، بأن الكلفة الاقتصادية للصراع بعد 10 سنوات بلغت نحو 1.2 تريليون دولار أميركي. وحتى لو انتهت الحرب اليوم وفق الدراسة، فإن تكلفتها ستستمر في التراكم لتصل إلى 1.7 تريليون دولار في عام 2035.

أي نموذج اقتصادي الآن؟

خضعت منظومة الاقتصاد السوري لتحولات عميقة خلال العقود الخمسة التي مضت، وعانى من تزاوجٍ غير متناسب بين هويته "الاشتراكية" التي تضمنها الدستور، وهويته "الليبرالية" بحكم الواقع.

فقد تمت تسميته في دستوري 1971 و1973 بـ"اقتصاد اشتراكي مخطط"، لكن السياسات والقوانين الاقتصادية التي توالت مع صدور قانون الاستثمار رقم 10 عام 1991 أعطت انطباعا مغايرا.

خبراء يصفون الاقتصاد السوري بالهجين الذي يفتقر إلى هوية لاعتماده على إستراتيجيات منتقاة وسياسات متضاربة (الفرنسية)

وانتقدت لمياء عاصي وزيرة الاقتصاد السابقة في حكومة ناجي عطري هذا الخلل، وقالت على صفحتها في منصة رقمية "من غير المنطقي أن يقود اقتصاد البلد مجموعة من الآراء المتضاربة، التي تستند إلى مرجعيات مختلفة، واحد ليبرالي وآخر اشتراكي وثالث لا هوية له غير أهوائه الشخصية ومصالحه".

لكن المزاوجة انتهت، بحسب الباحثة رشا سيروب، عندما فقد هويته مع صدور دستور 2012، وبات يفتقر إلى سمة محددة دستوريا بعد أن أُلغيت "الاشتراكية" الملازمة له وحل مكانها القطاع الخاص شريكًا للقطاع العام في الاقتصاد الوطني. وتساءلت في ختام بحثها حول هوية الاقتصاد السوري "ما هي طبيعة الأيديولوجيا الاقتصادية للدولة بعد أن تم التخلي عن الاشتراكية دستوريا، مع أن الدستور ليس وثيقة قانونية فحسب، بل أيضا وثيقة اقتصادية تعبّر عن التطلعات الاقتصادية للدولة؟".

لماذا فشلت التجارب الثلاث؟

يقود الخلط بين مصطلحات غير مترادفة إلى أداء مشوش على صعيد الواقع ومخرجات سالبة، بدت تأثيراتها المجتمعية واضحة خلال العقدين الأخيرين، بحسب الخبير دمشقية، إذ اعتبر التحول عن طريق الصدمة من اقتصاد اشتراكي (مخطط ومدار مركزيا) إلى اقتصاد سوق ليبرالي أحدث ثلاث صدمات (تنموية وإنتاجية واجتماعية) نتج عنها غياب العدالة في توزيع الثروة وفقر (عادي ونقدي ومدقع) غير مسبوق، ارتفع معدله بشكل كبير مع انسحاب الدولة من القيام بدورها الاجتماعي.

دمشقية أوضح أن اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي تم تبنيه بوصفه أيديولوجية في سنوات الانفتاح التي شهدتها سوريا في الفترة 2005-2010، مهّد الطريق لظهور طبقة شابة من أبناء قيادات الصف الأول في النظام، والمنتفعين من مراكزهم الإدارية، بنت ثروات غير قانونية وبيّضت أموالها في مشاريع خدمية وترفيهية ومالية، وتحكمت لاحقا في قطاع التجارة الداخلية والخارجية، بمشاركة فاعلين اقتصاديين جدد، انضموا إلى شبكة الزبائن التي قادها النظام خلال الحرب.

وأرجع فشل الاقتصاد السوري في مختلف المراحل التي مر بها لعدة أسباب، منها:

تبني مصطلحات على سبيل التجارب بصرف النظر عن ملاءمتها. عدم وجود إستراتيجية تحدد هوية الاقتصاد وطريقة أدائه. وجود فجوة على صعيدي الإدارة (حكم القانون، وحماية حقوق الملكية، ومستوى الفساد) والمساءلة العامة (مستوى المشاركة، واحترام الحريات العامة، وشفافية الحكومة). اتباع سياسة التفضيل والزبائنية في نطاق مصالح اقتصادية شخصية وفئوية محمية بقوة السلطة والفساد. الأسد يعيد تفسير الاقتصاد الاشتراكي

وبعد 5 سنوات من بداية الصراع، ظهرت وجهات نظر مختلفة لمسؤولين وأساتذة اقتصاد حول الطريقة التي يمكن عبرها إنقاذ ما تبقى من الاقتصاد، بعد أن اعترف رئيس الحكومة السابق عماد خميس، في كلمة له أمام مجلس الشعب أواخر عام 2016، بأن البلاد تحولت إلى مزرعة لبعض تجار الأزمة. وربط عجز حكومته عن تلبية مطالب شعبها بأربعة أسباب: الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد، والحرب، وتجار الأزمة، والفساد.

لكن أبرز وجهات النظر ما ورد مؤخرا على لسان الرئيس الأسد في مناسبتين متتاليتين (اجتماع اللجنة المركزية لحزب البعث الحاكم، ولقائه أساتذة الاقتصاد البعثيين في الجامعات السورية)، حيث طرح مجددا مصطلح الاقتصاد الاشتراكي بوصفه طريقا مقترحا يمكن العمل به بعد أن أعاد تفسيره على النحو التالي:

الاشتراكية بالنسبة لنا حسب ما نفهمها هي العدالة الاجتماعية، لا نستطيع أن نعود للتعاريف المكتوبة والأكاديمية والنظريات القديمة بأنها الملكية الكاملة للقطاع العام وإلغاء القطاع الخاص، بهذا التعريف وبهذا الشكل عمليا سوريا لم تكن في يوم من الأيام اشتراكية. الأيديولوجيا أساسية في نهج حزب البعث ولا يمكن التخلي عنها، وعندما نقول أيديولوجيا فهي الاشتراكية وهي الجانب الاجتماعي. إيجاد توازن بين القواعد الاقتصادية والقواعد الاجتماعية، وهذا يعني أن نسير بخط دقيق لا يكون فيه الجانب الاقتصادي مجردا على حساب المجتمع لأننا في هذه الحالة سوف نتحول إلى حزب رأسمالي، ولا يمكن أن نسير بالعكس باتجاه الجانب الاجتماعي بشكل مجرد لأننا عند ذلك سوف نكون دولة مفلسة. رؤيتنا لمصطلح اقتصاد السوق الاجتماعي مبسطة، السوق هو منافسة، والعملية هي عملية تطوير للاشتراكية لا أكثر ولا أقل، ولكن لو أبقينا كلمة السوق لوحدها فهذا يعني أننا تحولنا إلى اقتصاد السوق المتوحش، فكلمة الاجتماعي هي التي تحافظ على النهج الاشتراكي مع الحفاظ على المنافسة بالنسبة للسوق. الدولة التي يحكمها حزب البعث هي دولة لكل أبنائها، فإذن ما هو البرنامج أو النهج الذي يمكن أن يتبناه حزب البعث ويعبر عن تقاطع المصالح بين مختلف الشرائح؟ علينا أن ننظر إلى الطبقة الكادحة أو الفقيرة نظرة اقتصادية قبل أن ننظر نظرة اجتماعية، لأن النظرة الاجتماعية تحوّل الحزب إلى العمل الخيري، أما النظرة الاقتصادية فتحوله إلى العمل الاقتصادي. ما الجديد في تفسيرات الأسد؟

بحسب الخبير الاقتصادي أحمد سلامة، لم تقدم نظرية الاقتصاد الاشتراكي المعدلة أي جديد إذا عدنا سنوات إلى الوراء. فقد جرى الحديث عنها منذ عام 2005 عندما اختارت الحكومة اقتصاد السوق كطريق بعد فشل تجربتها الاشتراكية، وألحقته بعبارة "الاجتماعي" لتهدئة مخاوف الاقتصاديين والباحثين في الشأن العام ومختلف شرائح المجتمع، الذين وجدوا فيه إعلانا رسميا لعزم الدولة التخلي عن دورها.

دراسة قدّرت الكلفة الاقتصادية للصراع بعد 10 سنوات في سوريا بنحو 1.2 تريليون دولار أميركي (الفرنسية)

وأضاف، في حديثه للجزيرة نت، أن الدلالات اللفظية لوجهة النظر التي قدمها الأسد تعكس العودة مجددا لتجربة قديمة، لم يستفد من عدالتها بشكل فعلي سوى حاشية النظام وضباط الجيش والمخابرات ورجال الأعمال والتجار عندما منحتهم المزاوجة بين الاشتراكي والليبرالي تحت عنوان الاجتماعي فرصة تسيير مصالحهم، وتعظيم أرباحهم على حساب 92% من السكان حينذاك، كان عدد من يعيشون منهم تحت خط الفقر وفق تقريرٍ لبرنامج الأمم الإنمائي في عام 2005 نحو 2.2 مليون فرد، وعدد الذين لا يمكنهم توفير احتياجاتهم الأساسية 5.3 ملايين آخرين يعانون الفقر إجمالًا.

وأشار إلى أن دراسة تحليلية للميزان التجاري، أصدرها مركز أبحاث شبه حكومي عام 2016، أفادت بأن الميزان التجاري عانى عجزًا على مدى 21 عامًا، مما وضع الناتج الإجمالي المحلي في حالة قصور وعجز عن تلبية الطلب الداخلي (إجمالي الإنفاق على الاستثمار والاستهلاك) وقوّض فرص النمو.

ورأى سلامة أن العمل بهذه النظرية المعدلة أفشل الاقتصاد سابقا في 3 اختبارات رئيسية:

على مستوى السياسات المالية العامة، لم تحقق البرامج الحكومية أي نمو مستدام. على مستوى الإنفاق الاجتماعي، فشل نظام الأسد في تحييد الأثر السلبي لسياساته الاقتصادية على الطبقات التي كانت تفتقر إلى شبكة أمان اجتماعي. فشل موازنة سوق العمل وتوزيع الدخول عندما ارتفعت نسب البطالة لمعدلات عالية، وتحول حملة الشهادات إلى الاقتصاد الموازي للعمل بمهن لا تحتاج إلى كفاءات كاختصاصاتهم الدراسية. الطريق الرابع للتنمية والإعمار

وبهذا الصدد، يرى الخبير الاقتصادي منير الحمش أن التجارب التاريخية في أغلب بلدان العالم الثالث أثبتت أن التنمية المستقلة هي الطريق السليم للوصول إلى نخبة حقيقية، وأشار إلى أن التوجه نحو اقتصاد السوق والليبرالية الاقتصادية قبل أحداث 2011 أدى إلى إحداث تحولات في الهياكل الإنتاجية، نجمت عنها اختلالات هيكلية، تعمقت منذ بداية الحرب وحتى الآن، نتيجة الاضطراب والفوضى اللذين حصلا في السياسات الاقتصادية والاجتماعية.

ودعا، في حلقة نقاشية أقامتها جمعية العلوم الاقتصادية مؤخرا، إلى اعتماد نموذج تنموي يتجاوز النماذج المجربة (النموذج الاشتراكي والليبرالي والتعويضي) أسماه "الطريق الرابع للتنمية والإعمار" يقوم على سياسة المزاوجة بين آليات السوق وآليات التخطيط، بهدف رفع المستوى المادي والثقافي للمواطنين وتحسين أوضاعهم المعيشية.

ولفت إلى ضرورة أن يطرح هذا النموذج برنامجا يحقق مكافحة الفقر والقضاء على فروقات الدخل والثروة ومعالجة البطالة والجهل، ويحقق النمو الاقتصادي المطرد الذي يترافق مع عدالة التوزيع، وبالتالي تحقيق العدالة الاجتماعية.

وأشار منير الحمش إلى أن برنامج العمل لمرحلة ما بعد الأزمة لا بدّ له من مواجهة قضيتين مهمتين:

الأولى: عدالة ما بعد الأزمة ومعالجة الشروخ الاجتماعية. الثانية: مسألة هوية الاقتصاد الوطني، وهذه المسألة يحددها الدستور، ورغم أنه حدد هوية الاقتصاد بأنه اقتصاد حر، وكان من المفترض أن تتدخل الدولة، فإن هذا التدخل لم يكن مخططا، بل غالباً ما كانت السياسات الاقتصادية عبارة عن ردود فعل من دون دراسة علمية تفرضها الوقائع العملية في السوق.

مقالات مشابهة

  • اقتصاد إسرائيل يتدهور وارتفاع تكاليف الاقتراض وخفض التصنيف الائتماني وهروب للمستثمرين الأجانب
  • أي نموذج اقتصادي جديد تنتظره سوريا؟
  • اقتصاد إسرائيل يترنح.. خسائر فادحة وأمل العودة يتقلص
  • اقتصاد "إسرائيل" يترنح.. خسائر فادحة وأمل العودة يتقلص
  • ضابط في غرفة عمليات حرب أكتوبر: تأكدنا من النصر بعد منع اقتراب طائرات إسرائيل من «الجبهة»
  • فلسطين: إسرائيل لن تنجح في تحقيق أهدافها
  • عام على حرب غزة.. زلزال خسائر يضرب الاقتصاد الإسرائيلي
  • عام على حرب غزة.. زلزال خسائر يضرب اقتصاد الاحتلال الإسرائيلي وسط مستقبل غامض
  •  CNN: الاقتصاد الإسرائيلي يدفع ثمناً باهظاً مع توسّع الحرب على جبهات متعددة