تعد لوحة "ليلة النجوم" من عمل الفنان الهولندي "فينسنت فان غوخ"، إحدى أروع اللوحات التي يتزين بها "متحف الفن الحديث" في نيويورك، والتي ذاع صيتها حول العالم آسرة عيونا كثيرة لما تحمله من سمات فنية أقرب للمدرسة الانطباعية (التأثيرية)، وهو تيار في فن الرسم استحدث في نهاية القرن الـ19، يسلّط الضوء على الحالة اللحظية لمشهد ما دون الاكتراث إلى التفاصيل الدقيقة في مجمل اللوحة.

ولم تأسر هذه اللوحة عشاق الفن والرسم فحسب، بل إنها جذبت اهتمام العلماء ومختصي ميكانيكا الموائع الذين أُبهروا من براعة ودقّة الدوامات المرسومة في سماء اللوحة، حتى إن في مايو/أيار هذا العام، نشرت وكالة الفضاء الأميركية ناسا صورة لكوكب المشتري التقطتها مركبة الفضاء "جونو" ويظهر فيها دوامات مضطربة شديدة قيل إنها مشابهة لتلك الدوامات الموجودة في لوحة فان غوخ.

وتستعرض دراسة صينية حديثة نُشرت في دورية "فيزيكس أوف فيلد" المزيد من الأسرار الدفينة التي تتعلق باللوحة، بدراسة سماكة الخطوط والألوان المستخدمة، ليكشف الباحثون عن تشابه مثير بين الدوامات في لوحة فان غوخ والأنماط الموجودة في تدفق السوائل في الطبيعة.

ويُظهر التحليل العميق للوحة كيف أن الفنان قد استوحى أفكاره من الظواهر الفيزيائية التي تتحكم في حركة الأجسام، وذلك من خلال تقنيات فريدة في استخدام الألوان لخلق تأثيرات بصرية تعزز من الحس العميق للحركة والديناميكية.

يظهر المشتري في صور المركبة جونو تباينات تشبه دوامات فان غوخ (ناسا) كيف دمج الرسام بين اضطراب الطبيعة واضطرابات النفس؟

تعد هذه اللوحة أحد أهم أعمال فان غوخ، وفيها يستعرض مهارة عالية تدمج بين الاضطرابات الطبيعية الفيزيائية من حوله والعالم العاطفي المضطرب في داخله.

عكف فان غوخ على رسم لوحته الشهيرة في عام 1889، بينما كان يعيش في مقر إقامته المؤقت في مصحة "بسانت ريمي دي بروفانس" في فرنسا، حيث كان يتعافى من انهيار عقلي دفعه إلى محاولة قطع أذنه اليسرى قبل حوالي 6 أشهر من وصوله إلى المصحة.

ويظهر في القسم العلوي من اللوحة سماء مرصعة بالنجوم المتناثرة يملؤها الطابع الديناميكي الحركي المتقلّب، في حين يهيمن هذا الجزء على القسم السفلي الذي تظهر فيه معالم قرية نائمة يغمرها الهدوء والسكينة، وربّما كان هذا التباين الديناميكي البارز هو أهم الجوانب العاطفية التي حاول الرسام التعبير عنها.

ورغم أن التركيز الأكبر هنا على الجانب العاطفي، فإن فان غوخ أبدع في محاكاة إحدى الظواهر الطبيعة المعقدة بدقة متناهية ومثيرة للإعجاب وهو ما ينمي عن مهارة عالية في الملاحظة ورؤية ما لم تبصره العين العادية. ويتضح ذلك من دوامات الرياح التي تتخلل بين هالات النجوم الساطعة والقمر المنير، وتظهر هذه الدوامات بحركة اضطرابية تحاكي الدوامات في الطبيعة، وما زاد الأمر براعة هو استخدام الفنان تدرجا معينا في الألوان ليوضّح شدة الاضطراب وخفوته بتسلسل منطقي.

وأسفل هذا المشهد المضطرب، تظهر معالم قرية صغيرة بشوارعها الهادئة، ومبانٍ ريفية بسيطة غير مرتفعة، باستثناء برج الكنيسة الذي امتد عاليا ليلامس جزءا من السماء المضطربة، وعلى عكس ما هو في الأعلى، تبدو القرية بخطوط ناعمة مما يوحي بأنها أكثر استقرارا، ولا تعج بالكثير من الألوان مما يعكس صفوها وسكينتها.

عندما نظر الباحثون بمزيد من الدقة إلى الدوامات، وجدوا أن التباعد وتوزيع الدوامات وتفاوتها، يتوافق مع مقياس "باتشيلور" (أميريكان إنستيتيوت أوف فيزيكس) ملاحظة وفهم عميق للطبيعة.. لكن دون معادلات رياضية

وقد أقدم الباحثون في الدراسة على تحليل 14 دوّامة في سماء اللوحة من قرب، واتضح بأن هذه الدوامات تتبع أنماطا فيزيائية وفقا لقانون "كولموغوروف"، وهو قانون يصف حركة الغازات في الغلاف الجوي بمقاييس مختلفة اعتمادا على الطاقة العطالية، ويشير الباحثون إلى أن الطاقة العطالية هنا في اللوحة ممثلة بسطوع اللون الأصفر.

وعندما نظر الباحثون بمزيد من الدقة إلى الدوامات، وجدوا أن التباعد وتوزيع الدوامات وتفاوتها، يتوافق مع مقياس "باتشيلور" الذي يصف كيف يكون حال الدوامات الصغيرة قبل أن تتلاشى في مائع ما.

لكن الحقيقة المثيرة هي أن كولموغوروف وباتشيلور قد وضعا قوانينهما بعد عقود من وفاة الفنان فان غوخ، وهذا ما ينفي اعتماده على أي مفاهيم رياضية تتعلق بديناميكيات السوائل، بل كان على الأرجح يستلهم أفكاره من ملاحظات بصرية دقيقة لتكوّن الدوامات وتضخمها ثم تلاشيها في السماء أو في الماء.

ويشير أحد المشاركين في الدراسة وخبير ديناميكيات الموائع في جامعة شيامن الصينية الأستاذ يونغ شيانغ هوانغ في بيان صحفي رسمي صادر عن "أميركان إنستيتيوت أوف فيزيكس" المشاركة في الدراسة، إلى أن الرسمة تكشف عن فهم عميق وبديهي للظواهر الطبيعية، وقد يكون التصوير الدقيق للأشكال اللولبية والدوامات في اللوحة ناتجا عن ملاحظة دقيقة من فان غوخ لكيفية حدوث الاضطرابات في الطبيعة من حوله.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات فان غوخ

إقرأ أيضاً:

الماء شكّل مكونا رئيسيا لنشأة المجرات الأولى

في اكتشاف علمي رائد، وجد علماء الفلك أدلة على أن الماء كان موجودا في الكون بعد 100 إلى 200 مليون سنة فقط من الانفجار العظيم.

وتكشف دراسة جديدة نشرت يوم 3 مارس/آذار في مجلة "نيتشر أسترونومي" أن النجوم الأولى، المعروفة باسم نجوم الجيل الثالث، لعبت دورا رئيسيا في تكوين الماء من خلال انفجاراتها العنيفة.

يقول المؤلف الرئيسي للدراسة "دانيال والهان" -محاضر أول في علم الكونيات في معهد علم الكونيات والجاذبية في جامعة بورتسموث البريطانية- في تصريحات لـ"الجزيرة.نت": "لطالما اعتقد العلماء أن الماء، وهو عنصر أساسي للحياة، تشكل في وقت متأخر من تاريخ الكون".

ويضيف: "لكن هذه الدراسة الجديدة تتحدى هذا الافتراض، إذ تظهر أن جزيئات الماء يمكن أن تتكون في نوى سحابية جزيئية كثيفة، والتي تم إثراؤها ببقايا أولى السوبرنوفا. واحتوت هذه السحب على كميات عالية من الأكسجين والهيدروجين، ما أوجد ظروفا مناسبة لتشكل الماء حتى في البيئات القاسية للكون المبكر".

وقد نشأ الكون قبل نحو 13.8 مليار سنة واحدة من نقطة واحدة، بحسب نظرية الانفجار العظيم، تلا ذلك وخلال عدة مئات من الملايين من السنوات نشوء النجوم الأولى، والتي سميت نجوم الجيل الأول، وقد احتوت هذه النجوم على نسبة من المعادن تكاد تكون صفرا، لكن حينما انفجرت هذه النجوم أطلقت كمية من المعادن التي دخلت في تركيب الجيل التالي من النجوم.

النظرية السائدة عن نشأة الكون هي الانفجار العظيم (شترستوك) دور المستعرات النجمية في تكوين الماء

باستخدام عمليات محاكاة رقمية متقدمة، قام الباحثون بنمذجة انفجارات نوعين من المستعرات العظمى للجيل الثالث، أحدهما من نجم يعادل 13 ضعف كتلة الشمس، والآخر من نجم ضخم يعادل 200 ضعف كتلة الشمس.

إعلان

ووجدت الدراسة أن هذه السوبرنوفا أثرت في السحب الغازية المحيطة بها بعناصر ثقيلة، بما في ذلك الأكسجين، الذي تفاعل مع الهيدروجين لتكوين الماء.

يوضح "والهان" في تصريحات لـ"الجزيرة.نت" أنه مع تمدد بقايا هذه النجوم الأولى وتبريدها، حدثت تفاعلات كيميائية أدت إلى تكوين بخار الماء. وعلى الرغم من أن الكميات الأولية من الماء كانت صغيرة نسبيا، فإن النوى الكثيفة لهذه السحب استمرت في إنتاج كميات كبيرة من الماء على مدى ملايين السنين.

ويقدر فريق البحث أن نسب كتلة الماء في هذه السحب القديمة وصلت إلى مستويات مماثلة لتلك الموجودة في درب التبانة اليوم، مما يجعل من المحتمل أن الماء كان عنصرًا أساسيًّا في المجرات الأولى.

"هذا الاكتشاف يعيد تشكيل فهمنا لكيفية تشكل الجزيئات الأساسية في الكون. فلطالما اعتقد أن الماء نشأ بشكل أساسي في أجيال لاحقة من النجوم، لكن هذه النتائج الجديدة تشير إلى أن الجيل الأول من السوبرنوفا أسهم بالفعل في توفير بيئات مناسبة لوجود الماء"، بحسب ما قال الباحث.

تداعيات مهمة على فهمنا للأرض

وفقا للدراسة، يشير وجود الماء في أقدم المجرات إلى أن ظروف الحياة ربما ظهرت في وقت أبكر مما كان يعتقد سابقا. ومع استمرار العلماء في استكشاف الكواكب التي تدور حول نجوم غير الشمس والمجرات البعيدة بحثا عن دلائل على القابلية للحياة، يوفر هذا الاكتشاف منظورا جديدا حول كيفية وزمن ظهور الماء -وربما البيئات الداعمة للحياة- لأول مرة في الكون.

ويقول والهان: "قد تتمكن التلسكوبات المستقبلية، من رصد إشارات لهذا الماء البدائي، مما يساعد علماء الفلك في تتبع التطور الكيميائي للكون من نشأته وحتى اليوم".

ويضيف الباحث أن هذا الاكتشاف يفتح الباب أمام فرضية مثيرة: هل يمكن أن يكون بعض الماء الموجود في نظامنا الشمسي اليوم قد تشكل خلال الانفجارات الأولى للنجوم في الكون؟ فإذا كان الماء قد تكون مبكرا بهذا الشكل، فمن الممكن أن يكون قد انتقل عبر السحب الغازية والمذنبات التي أسهمت لاحقًا في تشكيل الكواكب، بما في ذلك الأرض.

إعلان

بالإضافة إلى ذلك، تشير الدراسة إلى أن الكواكب الأولى التي تشكلت في الكون ربما احتوت على الماء في وقت أبكر مما كان يعتقد سابقا. وهذا يعني أن الظروف التي تسمح بالحياة قد تكون موجودة في أماكن غير متوقعة في الكون، حتى في الكواكب التي نشأت في مراحل مبكرة من تطور المجرات.

إلى جانب الماء، تؤدي السوبرنوفا دورا محوريا في تشكيل العناصر الكيميائية التي تعد ضرورية للحياة، مثل الكربون والنيتروجين والحديد. هذه العناصر تتوزع عبر الفضاء عندما تنفجر النجوم العملاقة، مما يخلق بيئات غنية بالعناصر التي يمكن أن تؤدي إلى نشوء الحياة في أنظمة نجمية جديدة.

وبذلك، يمكن القول إن الحياة، كما نعرفها، تعتمد بشكل كبير على عمليات فيزيائية وكيميائية حدثت في أعماق الفضاء منذ مليارات السنين.

مقالات مشابهة

  • الماء شكّل مكونا رئيسيا لنشأة المجرات الأولى
  • “البكورية الحلقية” زهرة الحدود الشمالية تزين الطبيعة
  • «الثلث الجلي».. الحرف إشراقة جمال
  • تطوير صنف جديد من الأرز يساهم بمكافحة تغير المناخ
  • دراسة: الصيام يحدّ من خطر تخثر الدم ويعزز صحة القلب
  • الأحمر والأزرق.. علاج جديد لحب الشباب بالضوء
  • “الحجاج” لفيكتور فاسنيتسوف تعرض في مزاد علني في موسكو مقابل 1.5 مليون دولار
  • لن تصدق.. تأثير السكريات الطبيعة على الجسم في رمضان
  • هل تعود هذه اللوحة الوحيدة لـملكة الأيام التسعة بإنجلترا؟
  • لوحة «ضائعة» تعرض في مزاد مقابل 1.5 مليون دولار