في الحرب النظامية ربما يكون استهداف القيادات العسكرية الميدانية خطوة لكسب المعركة، ولكن في حروب الاستنزاف يصعب تحديد أهمية الأشخاص ومواقعهم، وقد يؤدي استهداف بعضهم لزيادة التوتر واشتداد المعارك.
ويزداد الوضع تشوشا عندما يُستهدف قائد يحمل صفة المرجعية الروحية بالإضافة لموقعه السياسي. ولذلك يصعب التكهن بما سينجم عن اغتيال السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني.
ما الذي كان يدور في أذهان المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين وهم يخططون معًا لذلك الاستهداف؟ أهو تخطيط استراتيجي؟ أم عملياتي محدود الأهمية؟ أم محاولة لرفع معنويات القطاعات العسكرية التي تشعر بفشلها في حسم الصراع حول فلسطين برغم مرور اكثر من ثلاثة أرباع القرن؟
فهل كان نصر الله الوحيد الذي اغتالته قوات الاحتلال؟ فإذا لم يكن كذلك فما الذي حققه الاحتلال بعد مسلسل الاغتيالات الذي تواصل طوال تاريخه؟
المؤكد أن السيد نصر الله لا يمكن مقارنته ببقية ضحايا الاغتيال الإسرائيلي من حيث الموقع والدور والرمزية
إن من المؤكد أن السيد نصر الله لا يمكن مقارنته ببقية ضحايا الاغتيال الإسرائيلي من حيث الموقع والدور والرمزية في الصراع المتواصل الذي اتخذ أبعادا حضارية وأخلاقية، ولكن المؤكد كذلك أن بعض الاغتيالات يؤدي إلى عكس ما يريده مرتكبوها، فتتحول إلى نقاط تحول في مسارات الصراع، وقد تؤدي إلى حروب أوسع. أليس هذا ما حدث بعد محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي، شلومو أرجوف، في لندن في 3 يونيو 1982؟ ألم يحدث بسبب ذلك اجتياح إسرائيلي للجنوب اللبناني بدأ بعد ثلاثة أيام من تلك المحاولة ؟
يضاف إلى ذلك أن الاغتيال تعبير عن عدم القدرة على حسم المعارك أو تحقيق انتصارات حقيقية خصوصا في الحروب التي يعتبرها المشاركون فيها «وجودية». كما يشير إلى تجاوز القوانين التي تحكم المسارات الإنسانية ومن بينها التي تحرّم القتل خارج إطار القضاء.
في السنوات الأخيرة اعتمد الإسرائيليون سياسة الاغتيال على نطاق واسع، ولكنها لم تحقّق الأمن الذي يتطلعون إليه، ولم تضعف الجهات التي ينتمي لها ضحايا الاغتيال. وإذا عادت الذاكرة أربعين عاما إلى الوراء لاستذكار ما حدث في 16 شباط/فبراير 1984 سيتضح أن سياسة الاغتيال ربما ساهمت في تقوية الجهات التي استُهدف مسؤولوها.
في ذلك اليوم قامت «إسرائيل» باغتيال الشيخ راغب حرب على باب منزله في منطقة جبشيت جنوب لبنان. وحدثت ضجة كبيرة وسرت قشعريرة قوية في أوساط اللبنانيين والفلسطينيين. ربما اعتقدت «إسرائيل» أنها بذلك الاغتيال ستمنع مقاومة وجودها في لبنان، ولكنها سرعان ما اكتشفت استحالة ذلك. ولكن سياساتها العدوانية في المنطقة استمرت، واستهدفت الأراضي اللبنانية والفلسطينية بالقصف تارة والاغتيال أخرى.
وتصاعدت الاغتيالات منذ مطلع السبعينيات، ابتداء باغتيال كل من أبو علي أياد ووصفي التل في 1971 مرورا بغسان كنفاني في 1972 وصولا إلى زهير محسن وعلي حسن سلامة في 1979.
وتواصلت الاغتيالات بشكل متواصل مع تغير في الأساليب وتوسع في الأهداف. ويمكن القول أن اغتيال السيد حسن نصر الله يعتبر ذروة تلك السياسة وآخر فصولها. والسؤال هنا ما إذا كانت هذه الجريمة تمهيدا لحرب في المنطقة خطّطت لها «إسرائيل» بموافقة أمريكية. إذا كان الأمر كذلك فليس مستبعدا أن تتوسع دائرة الصراع لتأتي على الأخضر واليابس.
اعتقدت «إسرائيل» أن قصف أهداف في لبنان وسوريا والعراق سوف يضعف مقاومة الاحتلال، وربما ظن منظّروها أن استخدام القوة المفرطة لإدخال الرعب في قلوب الكثيرين سوف يوفر رادعا لمن يتصدى للاحتلال والعدوان.
ولكن أصبح واضحا أن تلك الأساليب كانت بمثابة الوقود الذي سيشعل حربا إقليمية واسعة. وما أكثر التلميحات الإسرائيلية لاحتمال استهداف المشروع النووي الإيراني، ولكن الرئيس الأمريكي صرّح برفضه لذلك، وأشار على الإسرائيليين باستهداف المصالح النفطية الإيرانية كالحقول النفطية وربما المصافي والمستودعات ومراكز التوزيع.
فهل هذا خيار يشير به رئيس دولة كبرى يُفترض أن تكون حريصة ليس على مصالح حلفائه في الغرب؟ ألا يعتقد أن استهداف المنشآت النفطية الإيرانية سوف يتوسع ويشمل حقوق النفط ومنشآته في أغلب دول المنطقة؟
هنا يضحّي بايدن وفريقه بمصالح الغرب كله من أجل ما يعتقده دفاعا عن «إسرائيل». فمن الذي يهدد أمن الغرب هنا؟ فلو لم يكن الكيان الإسرائيلي موجودا، هل كان النفط سيتوقف عن الغرب؟
هذا يعني أن وجود الاحتلال وسياسات أمريكا لحمايته بكافة الوسائل هو المصدر الأول لتهديد مصالح الغرب والحافز الأول لقطع النفط عنه في ما لو حدث ذلك. أليس هذا ما حدث عندما أعلن الملك فيصل في حرب 1973 احتمال استخدام النفط سلاحا في المعركة، الأمر الذي دفع أسعاره للارتفاع المفاجئ؟
أليس واضحا أن وجود الاحتلال وسياساته وكذلك مواقف أمريكا الداعمة له بدون حدود يمثل تهديدا لتدفق النفط إلى الغرب؟ فما الذي يحمل بايدن وإدارته على التضحية بمصالح الغرب لحماية رئيس وزراء مطلوب للعدالة من قبل محكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية؟ أليس في أمريكا رجل رشيد ينأى بالولايات المتحدة عن التورّط في أزمات من صنع «إسرائيل» وليس أي طرف آخر؟
من هنا يتضح أن جريمة اغتيال السيد حسن نصر الله تنطوي على بعد استراتيجي خطير، ولا يمكن اعتبارها عملا عاديا ضمن الممارسات الإسرائيلية المتكررة التي تستهدف الوضع العربي والفلسطيني.
فهي بمثابة إعلان حرب على قطاع واسع من رافضي الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. فإذا كان الغربيون الذين دعموا الجريمة الإسرائيلية يعتقدون أن آثارها ستبقى محصورة ضمن الخطاب الطائفي الذي يروّجه الغربيون بين الحين والآخر، فما أبعدهم عن الواقع. لقد جهلوا حقيقة مهمة وهي أن القضية الفلسطينية بوتقة تنصهر الاتجاهات الدينية والمذهبية والإيديولوجية فيها، فتستبدل تلك الانتماءات بمشاعر الانتماء لقضية محورية يتوافق عليها أبناء المنطقة على تعدد انتماءاتهم.
ويمثل المسيحيون قطاعا واسعا من هؤلاء، كما هم المسلمون بمذاهبهم المتعددة. لذلك ساد الغضب والشعور بالإحباط إزاء السياسة الأمريكية كافة الأقطار العربية التي شعر مواطنوها أن ما حدث لم يكن استهدافا لطرف منفصل عن بقية أجزاء الأمة، بل كان ضربة موجّهة لمشروع مقاومة الاحتلال، وكذلك مقاومة التوجهات الاستسلامية لدى دعاة التطبيع.
فهؤلاء جميعا يشعرون بالإحباط لعدم حدوث تطور ملموس في مسار البحث عن حلول سلمية تحقق أمن المنطقة واستقرارها. وثمة ما يشبه الإجماع على أن الجريمة الإسرائيلية قد أعادت مشاريع «السلام» أعواما إلى الوراء، وأن حزب الله ملتزم بميثاقه الذي كرّره زعماؤه المستهدفون من «إسرائيل، بأنهم تنظيم عقائدي يضع قضية فلسطين على رأس أولوياته ويرفض الاعتراف بالكيان الإسرائيلي أو التطبيع وإقامة العلاقات معه.
ومن المؤكد أن العديد من الأنظمة العربية رحّب باغتياله، وربما كان متواطئا مع الإسرائيليين في ذلك. ويتردد أن من بين التحفظات على اغتيال الأمين العام لحزب الله، احتمال نشوب حرب شاملة ينجم عنها أضرار بليغة، فكان رد فعل بعض «مموّلي» الحملة التعبير عن استعداده لتحمّل كل تكاليف تلك الحرب إن وقعت.
أهذا موقف قومي أم وطني أم إنساني؟ أم أن قدر هذه الأمة أن تتضافر جهود ذوي المال والسلطان لكسر شوكة المناضلين الحريصين على تحقيق سيادة الأمة وحماية فلسطين والعمل لتحريرها؟
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه اغتيال نصر الله اللبناني الاحتلال حزب الله لبنان اغتيال حزب الله الاحتلال نصر الله مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة صحافة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة نصر الله ما حدث
إقرأ أيضاً:
الشيخ كمال الخطيب يكتب .. أنا السجّان الذي عذّبك
#سواليف
أنا السجّان الذي عذّبك
#الشيخ_كمال_الخطيب
✍️إنه #الحبيب_محمد ﷺ صاحب الخلق العظيم {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} آية 4 سورة القلم، وهو الذي بعثه ربه سبحانه ليتمم مكارم الأخلاق “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. ولأنه كذلك ﷺ فإنه أحب أن يكون المسلمون على نهجه وعلى خلقه ﷺ {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} آية 21 سورة الأحزاب. لقد أحب الخير ودعا الناس إليه، وكره الشرّ ونهى الناس عنه، حتى أنه صنّف الناس إلى صنفين اثنين لمّا قال: “إن من #الناس #مفاتيح_للخير #مغاليق_للشر، وإن من الناس مفاتيح للشرّ مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشرّ على يديه”.
✍️نعم، إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشرّ، فتجد أحدهم مثل الطيب والمسك لا تسمع منه ولا ترى منه إلا كل خير، ولا يكون منه إلا ما يسرّك، هيّن ليّن سهل متسامح يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. إذا حدّثك اطمئن قلبك إليه، يشعر بشعور الآخرين، يتحدث عن الأمل والتفاؤل، يتنازل عن مصلحته الشخصية من أجل الصالح العام، إذا دُعي إلى فضيلة لبّى واستجاب، وإذا دُعي إلى رذيلة كأن في أذنيه صممًا.
✍️وبالمقابل، فإن من الناس مفاتيح للشرّ مغاليق للخير، فتجد أحدهم مثل نافخ الكير تتأذى منه كلما اقتربت منه، فظّ غليظ، فاحش في القول، يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، إذا حدّثك عرفته في لحن القول {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} آية 30 سورة محمد. فلا تطمئن لكلامه، وعندما تشعر بالريبة في كل ما يقول لا يهمّه إلا نفسه، شعاره في الحياة “أنا وليذهب غيري إلى الجحيم”، تجده دائمًا محبطًا سوداويًا متشائمًا، إذا دُعي إلى فضيلة تجاهل وتغافل، وإذا دُعي إلى رذيلة كان سبّاقًا إليها.
✍️إن الذين هم مفاتيح الخير مغاليق الشرّ يكون أحدهم كالعافية والبلسم لجراح الناس وآلامهم، إذا تكلّم نفع ورشد، وإذا طُلب منه النصيحة أخلص فيها وصدق. سبّاق لعمل الخير بما يرضي الله تعالى، هو مفتاح خير وسفير هداية، مغلاق شرّ، صمام أمان لأهله ومجتمعه، جنّد نفسه في حزب الرحمن لنشر الخير والفضيلة، فجعل نفسه مفتاحًا للخير مغلاقًا للشرّ.
✍️وأما الذين هم مفاتيح الشرّ مغاليق الخير، يكون أحدهم كالداء والعلة، هو محضر سوء حيثما كان، إذا اجتمع بجلسائه شغلهم بما يضرهم ولا ينفعهم، يشقيهم بالقيل والقال، سيء المعاملة، إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها، إذا قيل له اتق الله أخذته العزّة بالإثم، جعل نفسه جنديًا في حزب الشيطان لنشر الفتن والفساد والرذيلة، فجعل نفسه مفتاحًا للشرّ مغلاقًا للخير.
????المسامح بطل
✍️وإن من أعظم الأخلاق التي إن وُجدت في شخص، فإنها تضعه في خانة مفاتيح الخير ومغاليق الشرّ، إنه خُلق العفو عن الناس والتسامح معهم. فالعفو هو أن تصفح عمن أخطأ بحقك وأساء إليك مع قدرتك أن ترد بالمثل، ولكن ولأنك مفتاح للخير، فإنك تعفو وتصفح وهذا يرفع قدرك بين الناس ويعوضك الأجر في الآخرة ربّ الناس سبحانه. يقول النبي ﷺ: “ينادي منادٍ يوم القيامة، ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة، قال: ومن الذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس”.
إنه مفتاح الخير محمد ﷺ يعلمنا خلق العفو بقوله: “صل من قطعك، واعف عمّن ظلمك، وأحسن إلى من أساء إليك”.
✍️فإذا كنت تريد أن تكون من هؤلاء الذين أجرهم على الله، فاعف واصفح عمن أساء إليك أو أخطأ بحقك أو قصّر معك، ألم يقل الله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} آية 40 سورة الشورى.
سامح صديقك إن زلّت به قدم فليس يسلم إنسان من الزلل
✍️فأن تصبر على من أخطأ بحقك، وأن تعفو عمّن ظلمك، وأن تعطي من حرمك، وأن تصل من قطعك، هذه أخلاق الرجال الأبطال مفاتيح الخير، وهي التي توصل أصحابها إلى أعلى الدرجات يوم القيامة.
✍️ إن الناس الطيبين هم مفاتيح الخير والعملة الذهبية الأصيلة وليست المزيفة، هم الذين إذا أسيء إليهم فيتوعّدون بالانتقام، ولكنهم سرعان ما تخبو ثورة غضبهم فيعودون إلى أصالتهم، فعندما تأتيهم فرصة الانتقام ممن أساء وتطاول عليهم، تصرخ في ضمائرهم وفي قلوبهم نزعة الخير تنادي {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} آية 40 سورة الشورى. وأي تسامح أعظم من تسامح الخالق عز وجل عندما يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} آية 22 سورة النور.
✍️ إن مفاتيح الشرّ مغاليق الخير من الناس، هم الذين في أقوالهم وأفعالهم وحديّتهم بين الناس يشيعون أن العفو والتسامح هو سلوك الضعفاء والجبناء، ويزرعون هذا في سلوك أبنائهم ومن حولهم، ويتجاهل هؤلاء سلوك وهدي أشجع الرجال سيّدهم محمد ﷺ يوم فتح مكة وقد أصبح رجالات قريش الذين ظلموه وأساءوا إليه وشتموه وطعنوا في عرضه وسلبوا ماله وهجّروه من بيته، وكان بإمكانه أن يُعمل السيف في رؤوسهم، لكن ولأنه كان مفتاحًا للخير مغلاقًا للشرّ فما كان منه إلا أن قال: “يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: فاذهبوا فأنتم الطلقاء”.
✍️ يروى أن أعرابيًا جيء به إلى السلطان يحاكمه على تهمة اتهم بها، فدخل على مجلس القضاء وهو يقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} آية 19 سورة الحاقة. فقيل له: إن هذا سيقال يوم القيامة وليس في الدنيا، فقال: والله إن هذا اليوم شرّ من يوم القيامة، ففي يوم القيامة يؤتى بحسناتي وسيئاتي وأنتم اليوم جئتم بسيئاتي وتركتم حسناتي.
✍️ نعم، ما أجمل وأعدل أن لا ترى في الآخرة أنه كومة من الشرّ والسلبيات، وأنه رغم ما فيه من سلبيات وسيئات، لكن لعلّ فيه حسنات وفضائل تُذكر بها. وما أجمل أن يكون هذا منطق وروح التعامل مع ابنك ومع زوجتك ومع جارك ومع الناس أجمعين، فإن كان منهم ما يسيء، فتذكر أن فيهم كثيرًا مما يفرحك. وما أجمل ما قاله في ذلك الإمام الشافعي:
سامح أخاك إذا خلط منه الإصابة والغلط
وتجاف عن تعنيفه إن زاغ يومًا أو قسط
واعلم بأنك إن طلبت مهذبًا رمت الشطط
من الذي ما ساء قطّ ومن له الحسنى فقط
✍️وما أجمل ما ورد في قصة المسيح عليه السلام مع تلاميذه يوم مرّ على كلب أسود مّيت على جانب الطريق، فقال أحدهم: ما أنتن ريحه. وقال آخر: ما أطول مخالبه. وقال ثالث: ما أشد سواد شعره. فقال لهم عيسى عليه السلام: وما أشدّ بياض أسنانه”. أي أنه بجانب ما تأذيتم به منه فإن فيه ما يُمدح.
✍️قال ابن القيم رحمه الله: “يا ابن آدم إن بينك وبين الله خطايا وذنوبًا لا يعلمها إلا هو، وإنك تحب أن يغفرها الله لك، فإذا أردت أن يغفرها الله لك، فاغفر أنت لعباده، وإذا أحببت أن يعفوها عنك فاعف أنت عن عباده”.
???? النبيل ليس ذليلًا
✍️ما أعظمه خلق العفو والتسامح الذي أحب الله سبحانه من يتخلّق به لأنه صفة من صفاته، فهو “العفو” جلّ جلاله، وهو “الغفور” سبحانه، وهو الذي يتخلّق به عباده. إنه أفضل دعاء في أفضل ليلة هي ليلة القدر، وقد قالت أمنا عائشة رضي الله عنها لرسول الله ﷺ: “يا رسول الله أرأيت إن أدركتني ليلة القدر ما أقول؟ قال: قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”. وقد ورد في صحف إبراهيم أن الله سبحانه يقول: “يا ابن آدم وعزّتي وجلالي لا بد لك من الورود إليّ والوقوف بين يدي، أعدد لك أعمالك وأحسن لك أقوالك، حتى إذا أيقنت بالبوار وظننت أنك من أصحاب النار قلت لك: لا تحزن يا عبدي فلأجلك أسميت نفسي العزيز الغفار”.
✍️ نعم، إن التسامح وإن العفو هو من سلوك وشيم أصحاب النفوس الكبيرة والعالية، بينما الحقد والانتقام هو من شيم أصحاب النفوس الدنيئة التي تتمتع بعيش الوحل والطين والأحقاد، حيث الانشغال بالأمور التافهة وتضييع الأوقات وهدر الطاقات على سفاسف الأشياء، بينما التسامح يفتح أبواب الراحة والطمأنينة وسكينة النفس، كما قال الإمام الشافعي:
لما عفوت لم أحقد على أحد أرحت نفسي من همّ العداوات
وقال أحدهم: “لا ينبل الرجل، أي لا يكون نبيلًا حتى يكون فيه خصلتان: الغنى عمّا في أيدي الناس، والتجاوز عمّا يكون منهم”.
✍️ إن أصحاب النفوس الكبيرة المشغولة بقضايا شعبها وأمتها ودينها، والمشغولة بهمّ الآخرة ودخول الجنة والنجاة من النار، لا يسمحون لأنفسهم أن يجرّهم إلى مستنقع الوحل والطين والأحقاد والعداوات أحد من الخلق، ولا يقع في فخ الأعداء ومخططاتهم باسم العائلية وغيرها من العصبيات. ولذلك فإن ديدنهم هو التسامح وعدم الوقوف عند انشغالات الصغار الذين لا يرون من الدنيا إلا أنفسهم، ولا ينظرون إلا إلى موطن أقدامهم، فهناك يبدأ التاريخ وهناك يتوقف.
✍️كان مما اشتُهر عن شيخ الإسلام ابن تيمية وقد كان له خصوم حسّاد، فكان يقول: “من ضاق صدره عن مودتي وقصّرت يده في معونتي كان الله في عونه وتولى جميع شأنه، وإن كل من عاداني وبالغ في إيذائي، فلا كدّر الله له صفو أوقاته ولا أراه مكروهًا في حياته”.
✍️ وقبل شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه العظيم أحمد بن حنبل رحمه الله ورضي الله عنه، فيروى أنه كان في مرض الموت فسمع رجلًا مسنًا على باب بيته يبكي كما تبكي النساء، فلمّا دخل على الإمام أحمد زاد من بكائه وقال: كنت أنا السجّان الذي عذّبك لمّا كنت في السجن في فتنة خلق القرآن، وإني أتيتك الآن راجيًا أن تسامحني وتعفو عني. فما كان من الإمام أحمد إلا أن بكى لبكائه ودعى الله أن يغفر له وإن كان مرّ على ذلك سنون طوال. فسأله ابنه كيف تستغفر له يا أبتي وهو الذي عذّبك وأهانك وآذاك؟ فقال الإمام أحمد: ماذا ينفعك يا بني أن يُعذَّب أخوك بسببك؟ ألا تعلم قول الله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} آية 40 سورة الشورى. ألا تعلم يا بني أنه إذا كان يوم القيامة وجثت الأمم بين يديّ رب العالمين نودوا ليقم من كان أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا وإني لأرجو الله أن أكون واحدًا منهم.
✍️ هل هناك عطاء أعظم من عطاء الله لأصحاب خلق العفو والتسامح لما جعل جزاءهم ليس إلا جنّة عرضها السماوات والأرض، كما قال سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آية 133- 134 سورة آل عمران.
✍️فكن ممن أجره على الله، وكن من العافين عن الناس، وكن من رهط محمد ﷺ {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} آية 29 سورة الفتح. وكن مفتاحًا للخير مغلاقًا للشرّ.
كن مسلمًا وكفاك بين الناس فخرًا.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.