تخيّل نفسك واقفًا على عتبة رحلةٍ لا تعرف لها نهاية، لا شيء أمامك سوى قممٍ شاهقة، وجبالٍ تتعانق مع السماء. نسيم الصباح يلفح وجهك: وكأن الكون بأسره يهمس في أذنك: “وش الله حادّك؟”.
هنا تبدأ قصتك، قصة مجاهدة النفس والخروج من منطقة الراحة، حيث تبدأ رحلتك الحقيقية.
في لحظات السكون قبل الفجر، عندما يكون العالم غارقًا في هدوء مطبق، تأتيك الأفكار الكبيرة.
عند سفح الجبل، ليس في حدود بصرك إلا الطريق الطويل الملتف أمامك، محفوف بالصعاب، مكلل بالضباب. كلما نظرت لأعلى، بدا أن الجبل لا نهاية له، مثلما تبدو تحديات الحياة في كثير من الأحيان. لكنك تعلم، كما علم الناجحون من قبلك، أن النجاح الحقيقي لا يكمن في الوصول إلى القمة فحسب، بل في الرحلة ذاتها.
لا يُقاس النجاح بما نحققه من إنجازات مرئية، بل بما نتجاوزه من عقبات خفية. كل منا يواجه “جبله” الخاص، قد يكون تحديًا في العمل، أو مواجهة لصعوبة عائلية، أو حتى صراعًا داخليًا مع النفس. المهم أن ندرك أن الجبال لا تُتسلق بين عشية وضحاها؛ الصعود يتطلب صبراً، إصراراً، ومثابرة لا تعرف اليأس.
الجسد متحمِّس، ومتحفّز للخطوة الأولى، العزيمة متقدة، لكن الطريق طويل. بمرور الوقت، تبدأ الرياح بالهبوب، وتشعر بأن خطواتك تزداد بطئًا. الحجارة الصغيرة تحت قدميك تشبه تلك التحديات اليومية التي تبدو بسيطة في البداية، لكنها مع الوقت، تتجمع لتصنع عقبات كبرى.
وفي خضم الرحلة، عندما تحاصرك الرياح الشديدة، وتبدأ الأمطار بالانهمار، تسترجع في ذهنك حكمة العظماء: “النّعيم لا يُدرك بالنعيم”. وهنا تفهم أن الألم والمشقة جزءٌ لا يتجزأ من الرحلة، كما هي الأحلام والآمال. كل خطوة تتقدم بها نحو الأعلى تجعلك أقرب إلى الهدف، لكنك تشعر بثقل المسؤولية على كاهلك، وتشعر بأهمية الصمود، وكما قال أبو الطيب المتنبّي:” لولا المشقة ساد الناس كلهمُ… الجود يُفقِرُ والإقدام قتّال”، وفي منتصف الطريق، راودتني نفسي للعودة، ولكني قد أحرقت سفن التراجع، وتذكرت قول أبي فراس الحمداني: ” تهون علينا في المعالي نفوسنا… ومن خطب الحسناء لم يُغلهَا المهرُ” هذه هي حكمة الطريق؛ أن النجاح يتطلب التضحية بكل ما هو ثمين، وأن العظمة لا تُمنح بل تُنتزع.
لكن وسط هذه التحديات، تجد لحظاتٍ من الصفاء، تمامًا كما اختلى الأنبياء بأنفسهم في الجبال، تستشعر أن العزلة على هذا الجبل ليست سوى فرصة للتفكر، للتأمل في عمق الحياة ومعانيها. بعيدًا عن الضوضاء، عن أصوات المدينة وصخبها، تجد نفسك وجهاً لوجه مع أفكارك. هنا، تدرك أن القمم الحقيقية ليست تلك التي في العالم الخارجي، بل تلك التي تبنيها داخل نفسك.
قد يساورك اليأس في لحظات بأن الطريق مستحيل، وأن الجبل أعلى مما كنت تتخيل. ولكن تذكّر أن النضوج النفسي لا يأتي من التهرب من التحديات، بل من مواجهتها. كل خطوة نحو الأعلى تصقل شخصيتك، تجعلك أقوى، تُخرج منك أفضل ما فيك.
وفي النهاية، عندما تصل إلى القمة، تلتفت لترى المشهد من حولك، فتدرك أن الرحلة كانت تستحق كل هذا العناء. كل تحدٍّ واجهته، كل عقبة تغلبت عليها، كانت جزءاً من صياغتك لشخص جديد. النجاح ليس مجرد وصول، بل هو النمو والتحول الذي يحدث داخلنا أثناء السير في طريق الصعاب.
إنها رحلة لتجاوز الحدود، لتجاوز المخاوف، وللوقوف بشموخ على قمة الجبل الذي كنت تخشاه. لحظة الوصول ليست نهاية الرحلة، بل هي بداية لرحلة أخرى، لأن الحياة ليست إلا سلسلة من الجبال التي نعتليها يوماً بعد يوم.
jebadr@
المصدر: صحيفة البلاد
إقرأ أيضاً:
إمطي .. تاريخ مُعتق بماء ورد الجبل
للبلاد سحر خفيّ تلقيه على روح الكاتب، والبلاد هنا «إمطي»، اللبؤة الفاتنة، الحارسة للجبل، البلاد التي غادرتها ذات يوم ولم تغادرني حتى اليوم، هي المعشوقة وأنا المتلبّسة بعشقها، هي الحُب والمحبوبة. إنّها الحكاية الأولى والحُب الأول الذي لا يبلى ولا يتغير، أعترف أن بيني وبين «إمطي» علاقة حُب، علاقة أفخر بها وأعلنها كي لا تخفى على أحد، إنّها العلاقة الأكثر رسوخا في القلب، الأكثر ثباتا من أي علاقة أخرى، فكل علاقة ماضية، وكل حب عابر، إلا علاقتي بالمكان الأول. «وأنّي أحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد»، إنّه ذلك الشعور العميق في القلب، الذي ابتدأ قبل خلقي وميلادي، ليكون قدري وحياتي، لذلك ليس لمثل هذا الحُب تاريخ انتهاء، وسيبقى إرثا ممتدا لأبنائي، فما بالكم بميراث هو الحُب ولا شيء غيره!
إنّها «إمطي» التي كلّما أرهقتني الحياة، وضاقت بي مساحات الأرض، وأضعت البوصلة، وشعرت كما أنا وحيدة وغريبة في هذا العالم المزدحم، أعود إليها، تقودني ذاكرة العطر في رائحة الورس والصندل والزعفران على جبين خديجة بنت راشد، الجدّة التي علّمتني كيف تكون المرأة جميلة وناجحة بجمال خُلقها قبل خَلقها، وفي كل زيارة لإمطي أرى خديجة بنت راشد، بقامتها المديدة وحضورها الآسر، حاملة وقر «القتّ» على رأسها، وجحلة ماء، نزفتها من فرضة رأس الفلج في يدها، فأتبع عبق الذاكرة عبر «صباح حارة العين»، مشدودة بخيط حنين خفيّ، يشدّ القلب دوما إليها، أمرر يدي على جدران البيوت التي هجرها أهلها يوما، بعد أن أغرتهم المدينة بالهجرة، فأشعر بدفئها، أصغي السمع لأنين الحجر وبكاء الطين، فتبوح لي البلاد بأسرارها وأسرار من سكنوها، إنّها النص والقصيدة، والرواية والراوي، إنّها الملهمة، ومن كل نافذة تطلّ حكاية، وخلف كل باب في تلك البيوت كنز من الحكايات تترقّب من ينبشها، وروايات تنتظر من يرويها، إنّها «إمطي» التي لم تبخل عليّ بأحداث وتفاصيل وأسرار، ظننتها لوهلة خيالا وإذا هي من وحي تاريخ حارة عريقة، أغرتني بالكتابة لها وعنها.
في لحظة تخيّلت أنّي قادرة على البُعد عنها، وأنّ حياة أخرى كانت في انتظاري في جنبات المدينة الجميلة، وكنت أظن أنّ البلاد لن تكون سوى صورة في ألبوم الذاكرة، لكنّي أبدا، ما وجدت نفسي ولا فرحي ولا اطمئنان قلبي إلا في البلاد، وكأن لا بلاد غيرها قادرة على لمّ شتات روحي، ولا مكان يحتويني ويمنح السكينة لقلبي غيرها، وإن خانتني الذاكرة، فذاكرة «إمطي» لا تخون، وفي كل زيارة لبيت العائلة، أزور الحارة القديمة، أدخل عبر (صباحها) متتبعة آثار تلك الطفلة ذات الخمس سنوات، العمر الذي خَرجت فيه تلك الطفلة من البيت العود في حارة العين، للسكن في بيت آخر أسماه جدها (بيت المزرعة)، لتقضي سنوات طفولتها في ذلك البيت المحاط بالأشجار والنخيل، غير بعيد عن القرية الأم «إمطي»، لتبقى تلك السنوات الخمس هي السنوات الأجمل في العمر كله.
على مدخل الحارة يقف (البيت العود) شامخا، مطلّا على مزارع النخيل وساقية فلج السواد، والذي كلّما دخلته، أشم رائحة بخور اللبان والعود و(الصمغ المصلوح)، وكأن جمر المجمر الذي تركته لطيفة بنت محمد في غرفتها لم ينطفئ، وكأن النار الموقدة في مواقد الطبخ بين الأثافي لم تخمد، تتضوع رائحة الخبز وقروص العسل والحليب بالزعتر في ذاكرة المكان، فتنسيني طعم (الكرواسون وخبز الساوردو)، يا إلهي، كل شيء ما زال باقيا في مكانه، فلم تذر الرياح ما حفظته الجدران من أسرار الحكايات التي كان جدّي يلقيها على قلبي كلّما جنّ الليل.. إن هذه اللحظة الفارقة التي أعيشها بين اليوم والأمس، تساوي العمر كله، (البيت العود) بيت كله حُب.. وذلك هو الزاد الذي أحتاجه للتزوّد به في حياة كلها حرب.
و(البيت العود) كان في الأصل أربعة طوابق، ولكن مع رياح الزمن التي عصفت به، لم تبق منه إلاّ المخازن في الطابق الأرضي والتي كانت تمتلئ بالحبوب ونضيد أجربة التمر، وغرف المعيشة في الطابق الأول، وآثار لغرفة علوية ما زالت باقية كشاهد على تاريخ البيت الذي بناه جدّي الشيخ علي بن حمد «ود جريّدة»، في أربعينيات القرن الماضي، و(ود جريدة) هو اللقب الذي أُطلق عليه حتى غلب على اسمه؛ لشجاعته وشخصيّته المتفرّدة بين أبناء قومه، وكأنّ الشجاعة ما خُلقت في قلب رجل آخر غيره، وقد ظلّت مغامرات هذا الرجل وجولاته وصولاته، وإقدامه حديث القبائل قديما، ورمز المغامرة في حكايات مجالس الرجال، ورمسات الجدّات، حتى يظنّ السامع أنّ ما يحكى عنه ليس سوى من وحي الخيال، أو أسطورة من أساطير «إمطي» الزاخرة بالحكايات والأسرار.
أسير بين بيوت الطين وإذا بها رممت، وإذا بنوافذها مشرعة، وأبوابها مفتوحة، رغم أن الأقفال ما زالت معلّقة في بعض البيوت التي تنتظر الترميم، وقد تكون المفاتيح ضمن إرث قديم في سحارة الجدة العجوز، أو في صندوق مصاغها الفضي، وإذا بدكّان سعيد السليمي يعود بك إلى دكّان الحارة القديم في زمن مضى، وقبل أن تشتري تذكارا تراثيا قديما منه، ستشرب فنجانا من قهوته، وستتناول تمره المدلوك بالهيل والسمن الحاضرين في دكّانه دوما، إنه كرم أهل «إمطي» المعتاد لكل زائر أو عابر، وفي مدرسة القرآن، ستجد المعلّم سعيد بن ناصر جالسا متكئا على جذع الشجرة العملاقة، وكأنّه لم يتحرّك من مكانه منذ سبعينيات القرن الماضي، يلحّن الحروف وهو ينطقها كي يسهّل على الأطفال حفظها، يهزّ عصاه في وجوههم، فيضجّ المكان بقراءة السور القرآنية والحروف، ومع سحر الماضي العريق يصادفك مقهى تمتزج فيه أصالة الماضي بحداثة الحاضر، فترى السياح، عربا وأجانب، يحتسون قهوة (اللاتيه) في غرف تراثية وعلى إطلالة مزارع النخيل وساقية ماء الفلج، إنّه السحر بعينه والجمال لمن يبحث عن الجمال.
وكلما يمّمت وجهي صوب «إمطي» أقول لها كما قال محمود درويش: «أعدي لي الأرض كي أستريح». وفي تلك الفسحة الغالية من العمر، لا أبالغ إن قلت إنّي رأيت (عويدة) تحمل قنديلها، وبندقيتها معلّقة على كتفها، تنتظر عودة ناصر من الفلاة، ورأيت صالح يسير في درب (حارة السواد) حاملا نفافة بين كتفيه، وحمدان عائدا من «القطفيّة» حاملا قفيرا من رطب الخلاص، ومخرافة من ثمار المانجو وعناقيد العنب، وحمود ومبارك وسلوّم قادمين من عقبة العرقوب، نازلين من الجبل إلى الوطا.. ولا أستفيق من عذب خيالاتي حتى (أخبش) وجهي من فلج السواد، هذا الفلج المنحدر من الجبل، والذي يفيض الماء من سواقيه، فيتحوّل إلى نهر جار عند هطول المطر، نهر لا يُغرق الحرث والنسل، بل يغرق البلاد محبّة وخصبا، فتزداد «إمطي» اخضرارا، وتتمايل نخيلها الباسقات بطلعها النضيد في كبرياء وشموخ، لتلفت العابر الذي لا يجد بدا إلا لزيارتها، مشدودا بجمال ذلك المنظر الأخّاذ، وما أن يدخلها حتى تشدّه بفتنة جمالها، وسحر طبيعتها وعذب ماء فلجها الدافئ شتاء والبارد صيفا، وكما تقول الأسطورة إنّ من يشرب من فلج السواد سيعود للشرب منّه مرة أخرى، لذلك حذارِ أن تمد كفّك لفرضة الماء في رأس الفلج، إذ كنت لا تنوي العودة أو لا تستطيعها، لأنّك وإن غادرت المكان، بعض منك سيبقى، وقلبك لن يغادر معك. ففي «إمطي» قلوب معلّقة على جدرانها بلا أقفال، وأرواح تذوب اشتياقا إليها بلا شرط، إنّه سرّ اخضرار هذه الأرض وسرّ تهافت الجميع إليها من كل حدب وصوب، وها هي «إمطي» اليوم التي كانت مهجورة في يوم من الأيام، وبجهود شبابها الذين أعادوا الدفء إلى بيوتها، وفتحوا أقفال أبوابها المغلّقة، وزيّنوا دروبها بالفوانيس والقناديل، وأقاموا الحجر والطين المندثر في جدرانها، تعود الحياة إليها، وكأنّ الزمن لم يمسّها بسوء، فتسمع تعاويب بنات الجبل، وضحكات الأطفال وغناء الفتيات المتمرجحات في مراجيح العيد (ناييه، ناييه)، وترى تزاحم الزائرين الذين سحرهم جمال هذه الحارة العريقة، المعتّق تاريخها بماء ورد الجبل.