أعلمتَ أشرف أو أجلَّ من الذي يبني، وينشئ أنفساً وعقولاً؟
نعم، فهي أشرف مهنة، وأصعبها في ذات الوقت، فبناء العقول ليس أمراً هيناً، كما أن تنقيتها من الشوائب، فوق مستوى وصف الصعوبة.
المعلم يحمل رسالة سامية جسيمة لكنه أهلٌ لها، والعالم في كل عام وبتاريخ الخامس من أكتوبر، يحتفل بيوم المعلم، لكن من هو المعلم الذي يستحق هذا الاحتفال، والمقصود في الأثر، وفي الشعر، وفي الحِكَمْ ؟؟ في اعتقادي هو ذاك المعلم الذي يجعل من (العلم مقترناً بالتربية)، هدفاً يسعى من أجل تحقيقه، ويبذل قصارى جهده في التأثير والتغيير للأفضل، بمعنى أن يكون المعلم بالفعل صاحب رسالة تربوية تعليمية، تخلق جيلاً يتمتع بأحسن القيِّم، وأفضل الأخلاقيات، جيلاً طموحاً ذا روح وثَّابة، المعلم الذي يستحق التكريم، هو ذاك الذي يؤمن أن الطالب بين يديه وتحت رعايته، إنما هو (أمانة) سيسأل عنها يوم الدين، وسيحاسب على كل صغيرة وكبيرة، وسيكون أجره عظيماً حين يجد نفسه قد أحدث تغييراً إيجابياً في شخصية هذا الطالب وغيره، ليكون الأثر جليّاً شاهداً أن المعلم قد علَّم خيراً، وترك خيراً، وأثَّر في طلابه تأثيراً يسبح له، فأفاد المجتمع، وخدم الوطن، وكان عطاؤه ملموساً في الميدان التعليمي، وفي كل مكان يتحرك فيه، المعلم هو صنف من الذين ذكرهم الله في الآية الكريمة :( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )، فهو مختلف عن غيره، لأن دوره أعظم، وواجباته أكبر، هو من أولئك الذين يصلي عليهم الله، وملائكته، كما في الحديث: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام (إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير )، فما أعظمه من ثواب وما أجزله من أجر! والحديث يشمل كلاً من علم علماً يُنتفع به، ولو كان يسيراً، فما بالكم بالمعلم الذي كان تعليم الخير عمله الدؤوب؟ ما بالكم بالمعلم الذي الهدف العلمي التربوي كان هو الأهم والأسمى؟ المعلم الذي حرص على هذه الأجور العظيمة من تنشئة الأجيال أكثر من حرصه على الأجر الدنيوي.
المعلمون المخلصون الصادقون، ورثة الأنبياء، يتمنى دورهم العظماء، ولا زلنا نذكر إجابة الملك العملاق (فيصل بن عبد العزيز) -رحمه الله- حين سئل: (لو لم تكن ملكاً، ماذا وددت أن تكون؟ فقال دون تردُّد، أو اختيار: وددت أن أكون معلماً).
إنها يا سادة مهنة العظماء، فمن اختاره الله أن يكون معلماً، فليفرح، ويبتهج بعظيم مكانته، ورسالته، ودوره الجبار، وأثره العميق في نفوس النشء، وليبدأ يومه بالدعاء لله عزَّّ وجلَّ أن يوفقه للتأثير الطيب في عمله، وليحفظ الأمانة، ويؤدي الرسالة بحب ورغبة في نيل أعلى الدرجات في صناعة الفكر السليم المعتدل، وتثبيت أسس التربية الأخلاقية الإسلامية السويّة، ثم يستشعر الطمأنينة، ويقابل طلابه بروح عالية، ونفس سمحة، وتعامل راقي فهو قدوة وليست أي قدوة ! ففي نظر طلابه هو الأجدر بالثقة! والمعلم النموذج هو من جعل رأس الحكمة عنده (مخافة الله)، فيبني عقولاً، وينشئ نفوساً مخلصة، محبة لدينها ووطنها وأهلها، وفيَّة لكل من لهم حق عليها، واعية مدركة سويَّة، المعلم النموذج هو من يبني بينه وبين طلابه جسوراً من المودة، تجعل السيطرة بالتأثير الطيب أسرع وأسهل. ومقالي هذا تحية لكل معلم ومعلمة سابقين وحاليين ولاحقين تسلَّحوا بالأهداف النبيلة، وشكَّلوا العقول والنفوس، لتكون ضياءً في حياة الوطن والمجتمع بأكمله.
تحية لكل من علمني مذ عرفت مقاعد الدرس، ولست أنساهم -جزاهم الله خيراً-.
تحية لكل معلمة عملت معي، وعملت معها.
تحية لكل طالبة علَّمتها، وتعلمت منها.
تحية محبة وتقديرلا حدود لهما ودمتم.
(اللهم زد بلادي عزاً ومجداً وزدني بها عشقاً وفخراً)
almethag@
المصدر: صحيفة البلاد
كلمات دلالية: المعلم الذی تحیة لکل أن یکون
إقرأ أيضاً:
محمد أبو هاشم: الإمام أبو حنيفة وضع أساس الاجتهاد الفقهي الذي يسر على المسلمين
قال الدكتور محمد أبو هاشم، عضو المجلس الأعلى للطرق الصوفية، إن الإمام أبو حنيفة النعمان كان من أبرز الأئمة الذين أسسوا الاجتهاد الفقهي وساهموا في تيسير الفقه الإسلامي بما يتناسب مع واقع الناس وحياتهم اليومية.
وأوضح أبو هاشم، خلال تصريحات له، أن الإمام أبو حنيفة، ولد في الكوفة عام 80 هـ، ونشأ في بيئة علمية، حيث تتلمذ على يد كبار العلماء مثل عامر الشعبي ونافع مولى ابن عمر، حتى أصبح من أبرز فقهاء عصره، معتمدًا على الرأي والحجة في اجتهاداته.
ولفت إلى أن المذاهب الفقهية الأربعة لم تخلق دينًا جديدًا، بل اجتهد أصحابها في فهم النصوص الشرعية، مما يسر على المسلمين تطبيق الشريعة في حياتهم اليومية، مستشهدًا بحديث النبي ﷺ: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه."
واشار إلى بعض اجتهادات الإمام أبي حنيفة التي أثرت في حياتنا اليوم، مثل جواز الوضوء من الصنبور، وهو ما كان موضع خلاف عند ظهوره، حتى أقره الإمام أبو حنيفة، ومن هنا جاء اسم "الحنفية" المستخدم حتى اليوم.
وأكد أن المحاكم الشرعية في مصر تعتمد على مذهب الإمام أبي حنيفة في قضايا الزواج والطلاق، حيث اشترط أن يكون الشاهد مسلمًا فقط دون الدخول في تفصيلات العدالة التي قد تُعسر الأمر على الناس.
وبين أن الإمام أبو حنيفة توفي عام 150 هـ ودُفن في حي الأعظمية ببغداد، حيث ظل مذهبه من المذاهب المعتمدة لدى أهل السنة والجماعة، داعيًا الله أن يوفق المسلمين لما يحبه ويرضاه.
حفظ الإمام أبي حنيفة، القرآن الكريم في صغره، وحجّ البيت الحرام وهو ابن ستّ عشرة سنة مع أبيه، ويروى أنّ والده ثابت قد عاصر عليًّا بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- فدعا له بالخير ولذريّته كذلك، وقد أخذ العلم عن شيوخ بلغوا أربعة آلاف شيخ، منهم سبعة من الصحابة، وثلاثة وتسعون من التابعين، ومن بقي منهم من تابعي التابعين، وقد أخذ الفقه عن حمّاد بن أبي سلمة.
ومن شيوخه أيضًا عطاء بن أبي رباح والشعبي وعمرو بن دينار ومحمّد الباقر -والد الإمام جعفر الصادق- وابن شهاب الزُّهري، وأخذ عنه العلم خلق كُثُر منهم القاضي أبو يوسف ووكيع -شيخ الإمام الشافعي- وعبد الرزاق بن همام شيخ الإمام أحمد بن حنبل.
محنة الإمام أبي حنيفة
تعرّض الإمام أبو حنيفة النعمان لمحنة في عهد الدولة الأموية وأخرى في عهد دولة بني العباس، وقد عاصر الإمام الدولتين وكانت معظم حياته أيّام الأمويّين، ففي أيّام الأمويين طلب ابن هُبيرة -وكان والي الكوفة وقتها- من الإمام أبي حنيفة أن يتولى قضاء الكوفة، فرفض الإمام أبو حنيفة النعمان ذلك، فجلده ابن هبيرة مائةسوط ورفض الإمام ولم يلِن، فعندما رآه ابن هبيرة كذلك خلّى سبيله، ثمّ لمّا ولِيَ أبو جعفر المنصور خلافة العباسيين طلب من الإمام أبي حنيفة أن يكون قاضي القضاة، وهذا منصب له أوزار كثيرة كما يرى الإمام أبو حنيفة النعمان، فرفض ذلك، فأقسم المنصور أن يكون أبو حنيفة القاضي، وأقسم أبو حنيفة النعمان ألّا يستلم ذلك المنصب، فحبسه المنصور وأذاقه من الويلات في سجنه ما لا يحتمله من هو في ريعان الشباب بل أن يحتمله ابن السبعين عامًا، فتوفّي -رحمه الله- في سجنه، وكان ذلك سنة 150هـ بعد أن قضى حياته عابدًا صائمًا ساجدًا راكعًا وقد حجّ خمسًا وخمسين مرّةً، وكان يختم القرآن في كلّ يوم مرّة، وعندما مات صلّى عليه النّاس ستّ مرّات لشدّة ازدحامهم عليه.