الحرية في الرواية النيوليبراليـة
تاريخ النشر: 13th, August 2023 GMT
الحرية في الرواية النيوليبراليـة
ما هي، إذن أبرز سمات الرواية الليبراليّة عن الحرية في عهدها الجديد العولمي؟
هكذا كانت الدولة الوطنية تحمي الحريات بقوانينها؛ لأنه لا خطرَ عليها من جهة تلك الحريات إنما الخطر من فقدان المجتمع لها.
الحريةَ جوهر الدولة الحديثة تميـزها عن الدولة التقليدية، فهي للدولة بمثابة الوَقود للآلة؛ الوقود الذي لا غنَاء عنه كي تعمل بانتظام.
دُقّ الإسفين بين منظومتي الحريات العامة والحريات الفردية اللتين ظلتا متلازمتين في الفكر السياسي الحديث كما في نموذج الدولة الوطنية الحديثة.
مجال الحريـة في الدولة الوطنية هو المجال العام حيث الحرية حق عام من الحقوق التي يرتّبها نظام المواطنة على سلطات الدولة وعلى القانون فيها.
آذَنَت النيوليبرالية بالخروج من زمن الدولة الوطنية، كمثال مرجعي لنظام السياسة، ودخول زمن «ما بعد الدولة» و«ما بعد المجتمع» أو زمن «السياديّة الكونية»!
أيديولوجيا النيوليبرالية نجحت في تضليل الوعي الجمْعي بدفاعها المستميت عن الحريات في حين تشيع قيم السوق الاستهلاكية التي تستعبد الناس وتُـزْري بحرياتهم!
باتتِ الحرية اليوم، في خطاب الليبرالية الجديدة، تكتسب مكانة اصطناعية - لا طبيعـية - في المجتمعات الغربية في عهدها النيوليبرالي الراهن، لكن دون تـمتع النـاس بها فعـلاً.
لم تعد الحريات الفردية قابلة للإدراك بوصفها إمكانًا اجتماعيًا يساوِق الحريات العامة ويُجاوِرها، بل التي تُـدْرَك بما هي مقابل لتلك الحريات العامة «الحائلة» دون حريات الأفراد.
* * *
ينتمي اهتمام الفكر السياسي الحديث بالحريات إلى انشغاله بمسألة الدولة الوطنية وما ينبغي أن يكون عليه نظام السلطة فيها من مشروعية؛ إذ ليس خافياً أن مصدر شرعية أي نظام سياسي هو الثـقة به، الممنوحة له، من قِـبل المحكومين أو الرعايا أو المواطنين، والتي مَـأْتاها - هي الأخرى - من الشعـور بالفوائد الناجمة من وجود ذلك النظام وفي القلب منها ما يؤمنه من أمـن وحريـاتٍ وحقوق للمواطنين.
لذلك عَـدّ مفكّرو السياسة الكبار المحدثون - وهيغـل على نحوٍ خاص - الحريةَ جوهراً للدولة الحديثة يَسِمُها ويميـزها عن الدولة التقليدية، فهي للدولة بمثابة الوَقود للآلة؛ الوقود الذي لا غنَاء عنه كي تعمل بانتظام.
ليس في الفكر السياسي الحديث، إذن، انْهـواسٌ مَرَضي بمسألة الحريـة/ الحريات، كما قد يميل إلى ذلك الظـن، وإنما اهتمام كبير يبرره ما لدى الدولة الوطنية من حاجة إلى إحلال الحرية المحل اللائق بها في نظامٍ يتحصّل بها شرعيته في وعي مواطنيه.
لذلك كان مجال الحريـة في الدولة الوطنية هو المجال العام: حيث الحرية حق عام من الحقوق التي يرتّبها نظام المواطنة على سلطات الدولة وعلى القانون فيها، وكان من النادر، بالتالي، أن يقع التشديد على المجال الخاص حين الحديث في موضوع الحرية.
وهكذا كانت الدولة تحمي الحريات بقوانينها؛ لأنه لا خطرَ عليها من جهة تلك الحريات - كما كان يقول سبينوزا - إنما الخطر من فقدان المجتمع لها.
ولأن تنميـة الدولة وموارد القـوة فيها لا تكون إلا من طريق مواطنين يشعرون بواجباتهم تجاه دولتهم التي يُخلِصون لها الولاء، ويعترفون لها بديْـنٍ جماعي وفردي يقابلونه بأداء الواجبات وتقديم التضحيات.
يختلف الأمر، اليوم، إلى حـد بعيد. باتتِ الحرية، في خطاب الليبرالية الجديدة، تكتسب مكانة اصطناعية - لا طبيعـية - في المجتمع (أقصد في المجتمعات الغربية في عهدها النيوليبرالي الراهن)، لكن مـن دون أن يتـمتع بها النـاس فعـلاً، بل في شروطٍ ارتفـعـت فيها مـعـدلات الرقـابة - السياسية والقانونية والإلكترونية - على الحريات إلى حدود توشِك أن تصادِرها أو، أقـلاًّ، أن تُـفـقرها من أي مضمون!
وما من شك في أن أيديولوجيا الليبرالية الجديدة أحرزت نجاحات ملحوظة في تضليل الوعي الجمْعي من طريق الإيحاء بدفاعها المستميت عن الحريات، في الوقت عينه الذي تنخرط فيه في إشاعة قيم السوق (القيم الاستهلاكية) وترويجها؛ القيم عينُها التي تستعبد الناس وتستـتبعهم وتُـزْري بحرياتهم!
ما عاد الحديث عن الحريات اليوم ينصرف، إذن، إلى نطاقها المألوف: الحريات العامـة، أي تلك التي تتصل، رأساً، بعلاقات المواطَنة وبالشأن العام (وهي لا تضع نفسها في مقابل الحريات الخاصة ولا تنفيها).
وإنما بات حديثاً حصرياً في الحريات الفردية، في المقام الأول؛ هذه التي لم تعد قابلة للإدراك بوصفها إمكاناً اجتماعياً يساوِق الحريات العامة ويُجاوِرها، بل التي تُـدْرَك بما هي مقابل لتلك الحريات العامة «الحائلة» دون حريات الأفراد.
ولقد ازدهر هذا المعتـقد السياسي الرث، في الحقبة الحالية من سيادة الخطاب العولمي النيوليبرالي، إلى الحد الذي أصبح فيه الفرد هو من يقرر، بمقتضى حريته الفردية المحض، إن كان يجد مصلحة خاصة في التمتع بالحريات العامـة التي تكفلها القوانين أو لا يجدها!
هكذا دُقّ الإسفين بين منظومتي الحريات تينك اللتين ظلتا متلازمتين في الفكر السياسي الحديث كما في نموذج الدولة الوطنية الحديثة.
لا غرابة، إذن، في أن تقتحم مجال التداول السياسي مفردات من قبيل المجال الخاص، والفضاء الحميم، في كل مرة يقع فيها حديثٌ عن الحريات وحقوق الإنسان؛ بل لا غرابة في أن ينتقل موقع السيطرة المفهومية في المجال التّداوُلي من مفهوم المجال العام إلى مفهوم المجال الخاص.
إنه الانتقال الذي آذَنَ بالخروج من زمن الدولة الوطنية، بما هي المثال المرجعي لنظام السياسة، والدخول في زمن «ما بعد الدولة» و«ما بعد المجتمع» أو في زمن «السياديّة الكونية»؛ حيث الفرد عقيدة سياسية جديدة يُعْـتَاض بها عن المجتمع والدولة، بل حيث فرديّته وحريته وقْفان في تَحـققهما على تعطيل فعل الدولة والمجتمع على السواء وإبطال أي تدخـلٍ لهما في مجاله الخاص!
تلك هي، إذن، الرواية الليبراليّة - في عهدها الجديد العولمي - عن الحرية.
*د. عبد الإله بلقزيز كاتب وأكاديمي مغربي
المصدر | الخليجالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الحريات العولمة الدولة الوطنية الدولة الوطنیة عن الحریات التی ت ما بعد
إقرأ أيضاً:
بحث تنفيذ مجموعة من المشاريع والمبادرات التنموية الجديدة في الدولة
أبوظبي (الاتحاد)
أخبار ذات صلة نهيان بن مبارك: سلامة الأطفال ورفاهيتهم أولوية وطنية افتتاح مركز لتقديم الرعاية للمصابين الفلسطينيين في «مدينة الإمارات الإنسانية»عقد الصندوق الوطني للمسؤولية المجتمعية «مجرى» اجتماعاً مع وزارة تنمية المجتمع والمراكز التابعة لها في الدولة، بحضور سارة شو، مدير الصندوق الوطني للمسؤولية المجتمعية، وممثلين عن الوزارة، وذلك بهدف بحث تنفيذ مجموعة من المشاريع والمبادرات التنموية الجديدة في الدولة، بما يتوافق مع الأولويات الوطنية والمؤشرات البيئية والاجتماعية والحوكمة وأهداف التنمية المستدامة، كما شهد الاجتماع الاطلاع على أهم التحديات والقضايا المجتمعية، لاسيما التي يواجهها الأفراد والأسر في القرى والمناطق الحدودية والبعيدة، وتعزيز العمل الوطني المشترك لإيجاد الحلول المناسبة لها، بالتعاون مع القطاع الخاص كجزء من مساهماتهم المجتمعية ومنظومة المسؤولية المجتمعية في الدولة.
كما ناقش الطرفان ملفّ المرأة، والمبادرات القائمة لتمكينها ودفع تقدمها في المجتمع، مع تسليط الضوء على الخدمات التي تقدمها وزارة تنمية المجتمع للأسر المنتجة، وأصحاب المشاريع المنزلية، وغيرها من الفئات الأخرى، وتطرق الاجتماع أيضاً إلى التدابير والاستراتيجيات المتبعة لدعم الجمعيات ذات النفع العام وتمكين الأسر في دولة الإمارات.
وقالت سارة شو، مدير الصندوق الوطني للمسؤولية المجتمعية «مجرى»: «يجسّد هذا الاجتماع فرصة مهمة للتعرف على أبرز القضايا المجتمعية ووضع الاستراتيجيات الملائمة لتنفيذ مشاريع تنموية وإطلاق مبادرات مجتمعية جديدة تواكب متطلبات جميع فئات المجتمع، وتلبي احتياجاتهم على اختلافها. ونسعى من خلال مثل هذه الاجتماعات إلى توطيد أواصر التعاون والتواصل بين الجهات المعنية كافة، لتعزيز مفهوم المسؤولية المجتمعية، بما يعود بالنفع على المجتمع، بأفراده ومؤسساته، ويسهم في تحقيق التنمية المستدامة».
وأكّدت وزارة تنمية المجتمع، خلال الاجتماع، حرصها على تقديم مجموعة من الخدمات المميزة التي تستهدف أفراد المجتمع كافة، بما في ذلك كبار المواطنين وأصحاب الهمم، والتي تشمل خدمات الدعم الاجتماعي والأسر المنتجة، وطلب المشاركة في الأعراس الجماعية، وإصدار الشهادات، فضلاً عن الخدمات الذاتية.