الجزيرة:
2025-01-22@04:14:50 GMT

طوفان الأقصى هل كان إنجازا أم نكبة؟

تاريخ النشر: 7th, October 2024 GMT

طوفان الأقصى هل كان إنجازا أم نكبة؟

بعد مرور عام على معركة طوفان الأقصى، ما زال الكثير من الفلسطينيين والعرب يشيدون فيه باعتباره نقطة مفصلية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وخطوة نحو التحرير.

وتأتي هذه الذكرى وقد تكبد قطاع غزة كثيرا من الخسائر في الأرواح والممتلكات، وبات مضربا للمثل عند قادة إسرائيل وحلفائهم للتدمير والخراب.

ورغم قتامة المشهد وألمه -وفق العديد من المراقبين- فإن ما أنجزته المقاومة خلال هذا العام فاق تصورات أنصارها وأعدائها على حد سواء.

فقد ذكرت صحيفة واشنطن بوست -في أحد تقاريرها- أن حركة المقاومة الإسلامية ما زالت راسخة في مواقعها بعد مرور عام من الحرب الإسرائيلية التي أعلنت أن القضاء على حماس أهم أهدافها.

ولا يمكن بحال من الأحول غض النظر عن الهوس الإسرائيلي بما يمكن أن تفعله المقاومة في ذكرى الطوفان و7 أكتوبر/تشرين الأول، فقد زاد الجيش الإسرائيلي تحصين مواقعه داخل القطاع خاصة محوري فيلادلفيا (جنوب) ونتساريم (وسط) ومنذ أيام تعمل قوات الاحتلال على توسيع المحور لمواجهة أي طارئ قد يحدث في ذكرى 7 أكتوبر/تشرين الأول.

وتأتي عملية الاحتلال شمال القطاع، ليلة الخامس من الشهر الجاري، لتشير بوضوح إلى تمكن المقاومة الفلسطينية من كي الوعي الإسرائيلي، وتؤكد أن الحديث عن هزيمتها والقضاء عليها مجرد تصريحات لكي يطمئن الجمهور الإسرائيلي، ولكن الميدان يثبت عدم دقتها.

وما زالت الحرب في أوجها وهي بعيدة عن الحسم حاليا، وكلما طال أمدها زاد احتمال اتساعها وهو ما يحدث حاليا، ولكن هناك العديد من المؤشرات لصالح المقاومة خاصة في ظل أسلوب الاستنزاف الذي تتبعه المقاومة مع الاحتلال.

دحرجة الرؤوس

يجمع العديد من المراقبين على أن حماس أفشلت مخطط إسرائيل، فقد اتخذت قرارا بشن حرب خاطفة ومدمرة على القطاع المحاصر، وجاء هجوم المقاومة ليخلط كافة الأوراق ويجر اسرائيل للدخول في مربع رد الفعل والاستنزاف المتراكم والمتدحرج بشريا وعسكريا واقتصاديا، وفق ما يرى المحلل السياسي عزام أبو العدس.

ويمكن رصد الخطة الإسرائيلية من خلال تصريحات مسؤولين إسرائيليين، في أبريل/نيسان 2023، عندما قال وزير الأمن إيتمار بن غفير إن "الوقت قد حان لتتدحرج الرؤوس في قطاع غزة".

وذكر بن غفير أن "الحكومة التي أنا عضو فيها يجب أن ترد بقوة على إطلاق الصواريخ من غزة. صواريخ حماس تحتاج لرد يتجاوز قصف الكثبان الرملية ومواقع غير مأهولة، حان الوقت لتتدحرج الرؤوس".

وبعدها بثلاثين يوما، توعد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بـ"احتمال إعادة احتلال قطاع غزة، كحل جذري للاشتباكات المتكررة مع الفصائل الفلسطينية في القطاع".

وأشار سموتريتش في حينها أنه "من المحتمل أن يأتي الوقت للعودة إلى داخل غزة وتفكيك حماس ونزع سلاحها".

وبعد أشهر من الطوفان الفلسطيني تدحرجت رؤوس كثيرة بمواقع القيادة في إسرائيل، وقدم العديد منهم استقالاتهم للفشل الذي مني به الاحتلال ذلك اليوم، فقد استقال رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) أهارون هاليفا، واللواء يوسي شارييل قائد وحدة الاستخبارات الإسرائيلية 8200. كما استقال عدد كبير من المسؤولين بمكتب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي. ومن المنتظر استقالة آخرين ما أن تضع الحرب أوزارها.

وعلى الجانب المقابل، نقلت صحيفة واشنطن بوست عن قادة في حركة حماس قولهم إن رئيس المكتب السياسي يحيى السنوار "لم ينجُ فحسب بعد مرور عام على 7 أكتوبر/تشرين الأول، بل إنّه يضع أيضا الأساس لإعادة ظهور حماس".

صور عرضها الاحتلال لأول مرة لمركز شرطة سديروت في السابع من أكتوبر (مواقع التواصل) الاستمرار بالقتال

هدفت المقاومة من خلال معركة الطوفان تحرير الأسرى ورفع الحصار عن القطاع ووقف الاعتداءات على الحرم القدسي، لكن مسار الحرب تطور لتصبح حربا وجودية. فالمقاومة لن ترضخ لمطالب الاحتلال وتسعى للبقاء وتحقيق أجندتها، بينما يسعى الاحتلال -لضمان بقائه وعدم زواله وضمان أمنه في ذات الوقت- ويرى أنه لن يتحقق له ذلك إلا من خلال حرب الإبادة التي يمارسها بغزة.

وتظهر تصريحات المسؤولين الإسرائيليين نظرتهم لغزة والتعامل معها، فبعد أيام قليلة من طوفان الأقصى، أعلن وزير الدفاع يوآف غالانت أنه لابد من حصار غزة لمحاربة "الحيوانات البشرية"، وقال "لا كهرباء ولا طعام ولا وقود"!

وأواخر أكتوبر/تشرين الأول 2023، استشهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بنص من التوراة أثناء إعلانه عن العدوان على غزة، قائلا "يجب أن تتذكروا ما فعله العماليق بكم".

بينما ذهب وزير التراث عميحاي إلياهو، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، للحديث عن إسقاط قنبلة نووية على القطاع الفلسطيني كـ"أحد الاحتمالات" في الصراع الحالي.

لذا، فلن تحسم الحرب بين الطرفين إلا بعدم قدرة أحدهما على الاستمرار فيها وقبول شروط الطرف الآخر.

 

قد مسه الجنون

اعتمد الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 2006 نظرية رئيس هيئة الأركان في حينه دان حالوتس وهي الاستخدام المفرط للقوة ولمزيد من القوة العسكرية بطريقة تشي للعدو بأن "صاحب البيت قد مسه الجنون"، ضاعف الاحتلال بعد معركة طوفان الأقصى من استخدام هذه النظرية، لذلك فقد قصف القطاع بشكل لا يتخيله العقل، وسعى لإفهام المقاومة أنه ممكن أن يذهب لأبعد من ذلك.

كلن نظرية الجنون لم تجدي نفعا مع المقاومة في غزة، ويمكن القول إنها اردت على الاحتلال، إذ لم يعد لدية أوراق يساوم بها المقاومة بعد ما أظهره من شراسة في العدوان على القطاع.

بدأت إسرائيل حربها على قطاع غزة معتقدة أنها قادرة على إنهاء وجود حركة حماس هناك وفرض شروطها ورؤيتها على القطاع ومستقبله.

وما لم تضعه إسرائيل في حسبانها هو اتساع نطاق الحرب ودخول عدة أطراف فيها، مما قد يحولها لحرب إقليمية ستؤثر على إسرائيل ومستقبلها لعدة سنوات.

ولئن بدت الضفة هادئة وغير مشاركة في معركة طوفان الأقصى، فإنه على الرغم من إجراءات السلطة الفلسطينية وإسرائيل منع أي عمل مقاوم فإن المقاومة هناك اشتد ساعدها واستوت على سوقها وبدأت تأخذ أبعادا جديدة وتشارك بفعالية في المقاومة، وهي جبهة مرشحة للانفجار في أي وقت وهي أصعب الجبهات على الاحتلال وسياسته.

فقد بدأ حزب الله بدعم المقاومة في غزة مستخدما إستراتيجية التنقيط التي هجرت سكان شمال إسرائيل، ودفعت نتنياهو وحكومته لاتخاذ قرار شن الحرب على  لبنان.

ورغم ما قد بدا نصرا سريعا لقادة إسرائيل في لبنان بعد تفجيرات أجهزة النداء و"توكي ووكي" واغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله والعديد من الصف القيادي فإن الحزب ما زال قادرا على إمطار إسرائيل بالصواريخ وقد اتسع مداها لاحقا لتصل إلى حيفا وتل أبيب، ولم يعد سكان الشمال بعد.

كما تمكن الحوثيون من منع الملاحة في البحر الأحمر دعما وإسنادا لغزة المحاصرة، والتأثير على ميناء إيلات الإسرائيلي. ولم يقتصر موقف الحوثيين على إغلاق طريق الملاحة بل هاجمت إسرائيل بمسيرات وصواريخ وصلت تل أبيب والتي تعد قدس أقداس إسرائيل.

ومع ذكرى انقضاء عام على بدء هذه المعركة، يقف العالم على قدم واحدة بانتظار الرد الإسرائيلي على القصف الإيراني ودخول الحرب طورا جديدا سعت كافة الأطراف لتجنبه، إلا أن المنطقة قد نزلت إلى أتون حرب قد تتسع أكثر مما هو متوقع.

ولا يمكن بحال من الأحوال إغفال أن إسرائيل حكومة وجيشا يتحركون تحت ضغط الوقت وأنهما يسعيان إلى تقديم صورة نصر للإسرائيليين بعد عام من أطول حرب تخوضها إسرائيل منذ نشأتها عام 1948.

ويرى مراقبون أن إسرائيل قد تختار ذكرى معركة الطوفان للرد على إيران "في محاولة لكي يكون هذا التاريخ فرصة لتحقيق إنجاز كبير يغطي على الفشل الذي منيت به إسرائيل".

ويرى المحلل السياسي سعيد زياد أن هجوم الاحتلال على شمال قطاع غزة يوم 5 أكتوبر/تشرين الأول الجاري وتنفيذ هجوم برى يهدف إلى صنع "صورة رمزية للمجتمع الإسرائيلي بأنه جيشه يقاتل في الشمال والجنوب، ولا يزال بعد عام كامل يستطيع الحضور في أكثر مناطق غزة رمزية وتاريخا".

إبداع المقاومة

رغم كل ما قامت به إسرائيل من تدمير وقتل في غزة فإن العام ينقضي وما زالت المقاومة في القطاع الفلسطيني قادرة على خوض المعركة وتكبيد العدو المزيد من الخسائر.

وقد عبر عن ذلك قائد ما تسمى فرقة غزة سابقا اللواء الإسرائيلي غدي شمني بقوله "الوضع في غزة معقد وصعب.. أهداف الحرب لم تتحقق ولم يتم إخضاع حماس ولم نتمكن من إعادة الأسرى".

وفي اليوم المتمم لعام من الحرب الإسرائيلية على غزة ما زالت المقاومة قادرة على تفجير دبابات وخوض معارك مع جنود الاحتلال وتفجير منازل مفخخة بقوات الاحتلال وقصف مستوطنات غلاف غزة.

ولئن قال أحد مساعدي نتنياهو إنه يشعر بأنهم "منتصرون" وفقا لموقع أكسيوس الأميركي، فإن للشارع الإسرائيلي رأيا مختلفا. فقد أظهر استطلاع للرأي قامت به هيئة البث الإسرائيلية أن 73% من الإسرائيليين يعتقدون بالفشل أمام حماس.

بينما قال 86% من الإسرائيليين إنهم غير مستعدين للعيش في مستوطنات غلاف غزة بعد انتهاء الحرب.

إضافة لذلك، فبعد عام على الطوفان بات جيش الاحتلال يعاني من نقص القوى البشرية، وقد حذّر تقرير لهيئة الأركان العامة في مارس/آذار الماضي من نقص حاد في الموارد البشرية، بسبب مقتل مئات الجنود وإصابة الآلاف غيرهم، وقال إن هناك حاجة إلى 7 آلاف جندي لنقلهم إلى جبهات القتال.

لذا فقد تفجرت قضية تجنيد الحريديم خلال الحرب على غزة، واضطر الجيش الإسرائيلي لتجنيد طالبي اللجوء الأفارقة في صفوفه، وفقا صحيفة هآرتس.

ويمكن القول إن النقص في عدد الجنود يعيق مخططات إسرائيل في غزو لبنان والقتال بالضفة، لذا يلجأ الاحتلال للاعتماد على الغارات الجوية لكنها لا تحسم حربا.

وهو الأمر الذي لم تعانِ منه المقاومة فهي قادرة على تعويض خسائرها البشرية وتجنيد مقاومين جدد وهو ما ظهر في فيديو لكتائب القسام قبل شهر حين ذكر أحد مقاتليها أنه من دفعة تجنيد عام 2024، ولئن كانت حماس المحاصرة في قطاع غزة قادرة على تجنيد مقاتلين فلن تجد قوى المقاومة بالضفة مشكلة في تجنيد مزيد من المقاتلين في صفوفها.

وترى "واشنطن بوست" أنّ حماس "تركز بلا هوادة على تحقيق الاكتفاء الذاتي" من التسلح، وتشير إلى أنّ هذا يشمل "القدرة على إنتاج الأسلحة والمتفجرات الخاصة بها، وتنفيذ عمليات معقدة تشمل الآلاف من المشاركين، مع الحفاظ على السرية التامة".

وتقول الصحيفة الأميركية إنّ حماس "أنفقت سنوات في إتقان آلة حرب قادرة على تصنيع ذخائرها الخاصة، واتخاذ قرار تنفيذ العمليات داخليا".

وهذا الوضع يجعل المقاومة في غزة قادرة على خوض معركة طويلة تستنزف فيها الاحتلال الذي شكا في بعض مراحل الحرب من نقص الأسلحة لديه عندما قيل إن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عطلت بعض شحنات الأسلحة.

كما أن تقييد بعض الدول الأوروبية بعض الصادرات لإسرائيل -في محاولة منها لمجاراة الضغط الشعبي عليها- دفع نتنياهو لمهاجمة هذه الدول واعتبرها داعمة "للإرهاب".

الحاضنة الشعبية

لا يمكن بحال من الأحوال عقد مقارنة بين الحاضنة الشعبية للاحتلال والحاضنة الشعبية للمقاومة، ويعد وجود حاضنة شعبية أثناء الحرب ركنا أساسيا في الحرب وإدارتها ورفع معنويات الجنود والمقاتلين.

فمنذ طوفان الأقصى شهد المجتمع الإسرائيلي انقساما حاد بين مكوناته باتت تنعكس على موقفهم من الحرب وكيفية إنهائها. وقد عبرت الصحافية الإسرائيلية آيلانا دايان بالقول "الذكرى السنوية الأولى لأحداث السابع من أكتوبر تمر في ظل انقسام كبير بالشارع والدليل أن تخليد الذكرى يجرى في مسارين مختلفين".

وقد كشف استطلاع داخلي للرأي أن نحو ربع الإسرائيليين فكروا في الهجرة للخارج خلال العام المنصرم، بسبب الأوضاع السياسية والأمنية الراهنة بعد طوفان الأقصى.

وأظهر هذا الاستطلاع -الذي أجرته قناة "كان" التابعة لهيئة البث الرسمية الإسرائيلية- أن 23% من الإسرائيليين فكروا خلال العام المنصرم (منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتى أكتوبر/تشرين الأول 2024) في المغادرة بسبب الوضع السياسي والأمني الراهن.

وفي سبتمبر/أيلول الماضي، كشفت معطيات رسمية -صدرت عن دائرة الإحصاء المركزية- عن تزايد ملحوظ في ظاهرة هجرة الإسرائيليين للخارج، حيث غادر أكثر من 40 ألفا خلال الأشهر السبعة الأولى من 2024.

وعام 2023، هاجر نحو 55 ألفا و300 إسرائيلي، مقارنة بـ38 ألفا هاجروا عام 2022.

وذلك على خلاف الحاضنة الشعبية في غزة وفلسطين عموما، فلم يقبل الآلاف من سكان قطاع غزة ترك منازلهم والنزوح كما طالبهم جيش الاحتلال وهو الأمر الذي أفسد على الاحتلال مخططه بإفراغ شمال القطاع والسيطرة عليه.

كما أن سنوات الاحتلال ومقاومته جعلت الفلسطيني أكثر تمسكا بأرضه ومقتنعا بخطاب المقاومة وخيارها.

فقد أظهر استطلاع للرأي في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، ارتفاع نسبة تأييد العمل المسلح لمواجهة الاحتلال، حيث يرى أكثر من 60% من الفلسطينيين الذين شملهم الاستطلاع أن "المقاومة هي الطريق الأمثل لإنهاء الاحتلال".

وأعربت الأغلبية العظمي من المستطلعة آراؤهم بالضفة وغزة أن قرار طوفان الأقصى كان صحيحا، وقال 72% ممن شملهم الاستطلاع إنهم يؤيدون هذه العملية.

وقد تستمر الحرب عدة أشهر أخرى ويتمكن الاحتلال من تدمير المزيد من القطاع والضغط على حاضنة المقاومة، إلا أن ذلك سيدفع "جحافل من الشباب إلى أحضان حماس" كما تقول صحيفة واشنطن بوست التي نقلت عن مسؤول استخباراتي عربي تأكيده أن "الناس الذين فقدوا عائلاتهم لديهم دافع واحد هو الانتقام".

وإزاء ذلك كله تتحول حماس "إلى مرحلة جديدة من الصراع، يمكنها فيها أن تستفيد بسهولة أكبر من طاقات أعضائها الجدد" كما ترى الصحيفة الأميركية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الجامعات أکتوبر تشرین الأول طوفان الأقصى المقاومة فی واشنطن بوست على القطاع قادرة على العدید من قطاع غزة عام على ما زالت فی غزة

إقرأ أيضاً:

هندسة الانتصار.. كيف خطّطت حماس لمشاهد ما بعد الحرب؟

لطالما ملأت هوليود رؤوسنا بحكاياتها عن أبطال الغرب؛ فترى أحدهم منقذا للعالم من غَزو فضائي في إحدى الحكايات، وفي أخرى، نشاهد بسالة البطل وقدراته الخارقة في مواجهة هجمات الأشرار (من الشيوعيين أو النازيين أو غيرهم)، التي كادت تُهلك العالم لولا حضور المنقذ الأبيض. ودائمًا ما يواجه هذا البطل صراعًا مريرًا، يتأرجح خلاله بين النصر والانكسار، ويكون الصمود مفتاحا لغلبته في الأخير، بما يأذن بمشهد ختامي مؤثر تتقن هوليود إخراجه.

يحدث ذلك في الأفلام وفق سيناريو محسوب ومحدد مسبقًا على الورق، وليس مقبولًا بأي حال أن يحيد طاقم العمل عن خطوطه الأساسية، فمن شأن ذلك أن يفسد ذروة الختام. ولكن في مقابل تلك الصورة السينمائية المحبوكة والمغلفة بالبروباغندا، غالبا ما تكون مشاهد البطولة الحقيقية على الأرض أكثر بساطة وواقعية.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2القسام في شوارع غزة من جديد.. ما دلالات عروض النصر؟list 2 of 2أبو عبيدة في خطاب النصر.. البلاغة من فوهة البندقيةend of list

أحد تلك المشاهد بلا شك هو ما رأيناه في قطاع غزة، في الساعات الأولى لسريان وقف النار من جانب المقاومة الفلسطينية وشعبها في غزة، وهو مشهد على واقعيته لم يخل من ملحمية واضحة. خرج مقاتلو كتائب القسام بكامل عتادهم العسكري مرتدين زيهم الأخضر الشهير، نظيفا ومرتبا وزاهيا، وكأنهم متوجهون إلى مهرجان أو احتفالية، وسرعان ما انتشر هؤلاء المقاتلون في جميع أنحاء غزة ببراعة ودقة وتنظيم فائقَين، وظهرت معهم سيارات الدفع الرباعي البيضاء ناصعة.

إعلان

بالنظر إلى أن ذلك كله حدث مباشرة بعد 470 يوما من حرب الإبادة التي لم تتورع فيها إسرائيل عن استخدام طريقة مهما كانت لإخضاع شعب غزة ومقاومتها، يبدو ذلك المشهد سينمائيا بامتياز. وللحقيقة، من الواضح أن حركة حماس والمقاومة الفلسطينية تعمدت إظهاره بتلك الصورة لتمرير رسائل مبطنة إلى العالم وبشكل أكثر تحديدا إلى الإسرائيليين، رسائل حول قوة وصلابة مقاتليها بعد هذه الجولة من القتال المطول، وحول حجم التفاف الشعب الغزي حولها رغم إمعان إسرائيل في التنكيل به لدفعه لنبذ المقاومة، وأخيرا حول حيوية وكفاءة تنظيمها الذي أدار المشهد بحرفية بالغة، وعناية مثيرة للانتباه بأدق التفاصيل وأصغرها.

كما هي العادة.. التخطيط والاهتمام بأدق التفاصيل

في الحقيقة كان الاهتمام بالتفاصيل دائما أحد السمات المميزة لحركة حماس، وفي القلب منها جناحها العسكري، كتائب عز الدين القسام. ويرجع ذلك إلى إدراكها أن الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وكما أنه صراع حول الأهداف والقضايا الكبرى، فهو أيضا صراع حول السردية والرواية وحتى التفاصيل الصغيرة. تلك التفاصيل، التي تظهر في الصور ومقاطع الفيديو والرسائل الموجهة وغيرها، غالبا ما تكون قادرة على مخاطبة مخاوف الإسرائيليين وغرائزهم واللعب على أوتار انقساماتهم، مما يعكس فهما "مزعجا" من قبل الفلسطينيين لطبيعة خصمهم ودوافعه ومحركاته الأساسية.

وإذا ما عدنا زمنيا إلى الوراء، بإمكاننا أن نعثر على شواهد عدة على ذلك الاهتمام بالتفاصيل ليس فقط في المشاهد والرسائل الإعلامية ولكن في تنظيم الفعل المقاوم نفسه. من ذلك على سبيل المثال، اللمسات النهائية التي وضعتها المقاومة على عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، في وقت كانت فيه إسرائيل تتخبط داخليا على خلفية توترات وانقسامات سياسية طويلة، بسبب مجموعة التشريعات التي دفع بها رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو ضمن خطته "للإصلاح القضائي" التي قابلت رفضا واسعا من قبل الكثير من الإسرائيليين.

إعلان

وكان من شأن هذه الاضطرابات الداخلية أن توفر ما يشبه "الضوضاء الخلفية"، التي عملت على تشتيت انتباه الاستخبارات وأجهزة الأمن الإسرائيلية عن نية حماس وتحركاتها.

سبق ذلك استثمار حماس في البنية التحتية للأنفاق عبر إنشاء شبكة واسعة من الممرات تحت الأرض، تمكّنها من شنّ هجمات مفاجئة، ومن المؤكد أن هذه المرافق ساهمت في إخفاء الاستعدادات وتعزيز عنصر المباغتة، سواء خلال هجوم طوفان الأقصى أو فيما تلاه من المعارك الحضرية داخل القطاع.

كما اتضحت قدرة المقاومة، خلال شهور الحرب، على استغلال بيئة المعركة وتعقيداتها على النحو الأمثل، رغم فارق القدرات بين الطرفين، وهو أمر لا يتأتى إلا من خلال الاستعداد الدقيق بعيد المدى، وفق ما يشرح زميل معهد واشنطن، مايكل نايتس، مشيرا أن حماس أعدت على مدار 15 عاما دفاعا عميقا يدمج التحصينات تحت الأرض وفوقها، فضلًا عن تجهيز حقول الألغام المحتملة والعبوات الناسفة المرتجلة والألغام المضادة للدروع والمباني المفخخة، كما نجحت في تعقيد بيئة العمليات بصورة أكبر بعد احتجازها لأسرى إسرائيليين، مما دفع الداخل الإسرائيلي إلى حالة انقسام بشأن مصير هؤلاء الأسرى طوال مدة الحرب.

حماس أعدّت على مدار 15 عاما دفاعا عميقا يدمج التحصينات تحت الأرض وفوقها (الجزيرة) الحرب كوجه للسياسة

وعلاوة على الشق العملياتي، أدركت المقاومة الفلسطينية منذ اليوم الأول أن الاحتلال سوف يرد بشراسة على هجوم طوفان الأقصى، وتجهزت للصمود أمامه دون نسيان تحقيق أكبر استفادة سياسية ممكنة لقضيتها حتى وهي تخوض الحرب الأكثر شراسة في تاريخها.

وفي هذا الصدد، تمكنت المقاومة والمتعاطفون معها في الخارج من تحقيق إنجازات على محاور عدة، منها النجاح في ضرب سياج من العزلة الدولية حول إسرائيل، واكتساب التعاطف الشعبي خاصة بين الفئات الأصغر عمرا في الغرب، والتي سوف تشكّل الكتلة الانتخابية الأكبر في بلدانها في غضون السنوات القادمة، ومن المرجح أن يكون لها دور في الحد من الدعم الغربي غير المشروط لدولة الاحتلال في المستقبل في حال تحول هذا التعاطف الشعبي إلى قرار انتخابي يوجّه قرار الناخب.

إعلان

كما يمكن ملاحظة أثر الطوفان في إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة المناقشات العربية والدولية.

لقد كان كل يوم، بل كل ساعة، من الصمود للمقاومة وشعبها في غزة يسقط المزيد من الأصباغ عن وجه إسرائيل ويكشف المزيد من الحقائق على معاناة الفلسطينيين وعدالة قضيتهم. وهو ما يشير إليه "جون ألترمان"، مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن، منوهًا أن حماس لا ترى النصر في عام واحد أو 5 أعوام، بل من خلال الانخراط في عقود من النضال، الذي يزيد من التضامن الفلسطيني ويزيد من عزلة إسرائيل.

وبتعبير آخر، يمكن القول إن ما قامت به المقاومة، يتقاطع مع مفاهيم المنظّر البروسي الشهير "كلاوزفيتز"، الذي رأى في الحرب وجها آخر للسياسة أو شكلا من أشكال العمل السياسي (ونعني هنا العمل السياسي بمفهومه الشامل وليس بمفهومه الحزبي الضيق)، وتمكنت بذلك من إعادة توجيه القوة المفرطة التي يوجهها الاحتلال ضد قطاع غزة كي تعمل ضده، مستغلة تخبط القيادات الإسرائيلية وافتقارها إلى الرؤية بشأن هدفها من الحرب، وافتقادها القدرة على تحقيق ما تريد.

ورغم امتلاك إسرائيل اليد العليا من حيث التقنيات والأسلحة والدعم الغربي غير المشروط، فإنها كانت تتحرك في الأخير على الرقعة التي صنعتها المقاومة الفلسطينية وصممتها بنفسها. وكأن ما دار هو لعبة شطرنج بين خصمين، تمكّن خلالها أحدهما من توجيه الآخر نحو نقلات إجبارية ودفعه إلى التحرك وفق ما يريد.

وكان الختام لذلك، هو قبول إسرائيل بوقف الحرب وتبادل الأسرى مرغمة لا طائعة بعد أشهر من رفضها الصفقة نفسها، تلك الصفقة التي وُصفت بـ"صفقة الاستسلام" من قبل بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية وقادتها الذين اعتبروها إعلان هزيمة لإسرائيل، فاستقال على أثرها الوزير اليميني المتطرف إيتمار بن غفير وحزبه من الحكومة والكنيست الإسرائيلي، فيما اعتبرها وزير المالية اليميني بتسلئيل سموتريتش صفقة "كارثية".

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (وسط) ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، ورئيس الأركان هرتسي هاليفي (وكالات) رسائل حماس

نخلص من ذلك إلى أن قوة حماس تمثلت بشكل أساسي في تقديرها وحسابها لكل خطوة، واعتبارها أن ما هو فرعي يقع على الدرجة نفسها من الأهمية التي يحظى بها الرئيسي، وكان ذلك سبيلها لتحقيق التوازن (بل والتفوق النسبي) بشكلٍ ما أمام فارق القوة بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، مما يدفعنا بالضرورة إلى إعادة النظر في المشاهد التي أعقبت وقف إطلاق النار في غزة، واعتبارها أيضًا جزءًا ضمن أهداف حماس وإستراتيجيتها طويلة النفس لمجابهة دولة الاحتلال.

إعلان

وفيما يبدو، أرادت المقاومة -في المقام الأول- أن تثبت لإسرائيل، أن ما أعلنه نتنياهو في وقت سابق، حول القضاء على حماس وتدمير قدراتها العسكرية، باعتباره هدفا لحربه الضارية على القطاع ومسوغا لتدميره، هو أمر لم يتحقق، والدليل، تمكّن أفراد حماس من استعادة السيطرة على القطاع في غضون دقائق من إعلان وقف إطلاق النار، وظهورهم بالزي الموحد البرّاق والمركبات العسكرية والنشاط الجمّ، وكأنهم لم يتأثروا بخوض هذه الحرب الطويلة بتاتا، وفي ذلك رسالة إلى عدوهم بأنهم على استعداد لتحمل حرب أطول إذا ما اقتضت الظروف.

كما حملت هذه المشاهد نوعا من استعراض القوة، الذي يحطم أي ادعاء نصر يزعمه نتنياهو أمام شعبه، كما يساهم في تدني الروح المعنوية لعدوهم الإسرائيلي، الذي استُهلك ماديا وبشريا ونفسيا على مدار هذه الشهور، دون تحقيق أي من أهدافه الرئيسية. وفي السياق ذاته، ينفي ظهور أفراد القسام في وسط غزة واستقبالهم بهذه الحفاوة من قبل الأهالي، الشائعات التي تداولتها بعض وسائل الإعلام الغربية، والتي زعمت خلالها أن أهالي القطاع يحمّلون المقاومة وزر تعرضهم للقصف الإسرائيلي على مدار هذه الشهور، كما يُبطل ذلك أي محاولات للوقيعة بين القسام وبين حاضنتها الشعبية في غزة.

أكثر من ذلك ينطوي مشهد غزة الموحدة -على ذلك النحو- على رسالة أخرى للاحتلال، مفادها أن قوة القسام البشرية قابلة للتجدد والتعويض بل وللزيادة مما يبدد اعتقاد الاحتلال في إمكانية القضاء على المقاومة، عبر إسقاطه أكبر عدد من الشهداء وسط صفوفها. وأكثر من ذلك تُظهر الترتيبات والتحركات المنظمة من أفراد الحركة داخل القطاع، أن المقاومة الفلسطينية نجحت ولو نسبيا في تجديد هيكلها القيادي بعد اغتيال الاحتلال لعدد من قادتها البارزين وعلى رأسهم إسماعيل هنية ويحيى السنوار، وهو ما يهدم نظرية تقويض الحركة من خلال استهداف قادتها.

إعلان

وفي الختام، جاء تسليم الأسرى، ليتوج رسائل حماس السياسية في مشهد النصر. ظهرت الأسيرات الإسرائيليات الثلاث في أفضل هيئة ممكنة، بثياب نظيفة وضفائر معقودة بعناية ووجوه مطمئنة لا توحي إطلاقا بقضائهن 15 شهرا كاملة في الأسر تحت وطأة القصف والحصار والتجويع. ناهيك بالهدايا التي وزعّها عليهن رجالُ القسّام وشملت خريطة لقطاع غزة وشهادة إفراج وصورا تذكارية من فترة الأسر.

يشير ذلك المشهد أن الأسيرات حظين بأفضل معاملة ممكنة وفق الظروف المتاحة، تماما كما تأمر الشريعة الإسلامية الغراء. تتناقض تلك الصورة تماما مع صورة الأسيرة الفلسطينية المفرج عنها من سجون الاحتلال خالدة جرار، إذ بدت مذهولة ومنهكة بشكل واضح وبحاجة إلى من يتناول يدها ويسندها خلال سيرها. وتكفي هذه المقارنة كي تبرهن للعالم على الفارق الإنساني والأخلاقي بين الطرفين، لمن أراد أن ينتبه أو يعتبر.

مقالات مشابهة

  • تأملات في أبرز محطات معركة “طوفان الأقصى”.. من ساعة الصفر حتى إعلان الانتصار
  • سخرية وحزن في إسرائيل من وعد نتنياهو بالنصر المطلق في غزة
  • هندسة الانتصار.. كيف خطّطت حماس لمشاهد ما بعد الحرب؟
  • إبراهيم الأمين: حماس قدمت نموذجا جديدا في المقاومة خلال طوفان الأقصى
  • صدمة في إسرائيل بعد استعراض المقاومة بسيارات حديثة وجديدة، لا أحد يعلم أين كانت!
  • أبو عبيدة: معركة طوفان الأقصى أشعلت شرارة تحرير فلسطين
  • طوفان الأقصى: هل كان كارثيا؟ اتفاق غزة يجيب «2-2»
  • أبو عبيدة:”تضحيات ودماء شعبنا لن تذهب سدى ولها ما بعدها”
  • حماس تعلن أسماء الدفعة الأولى من محرري صفقة طوفان الأقصى
  • خبراء إيرانيون يقيّمون طوفان الأقصى بعد اتفاق غزة