يمانيون – متابعات
أكد سعادة السفير عبدالله علي صبري أن السابع من أُكتوبر قد حفر سرديةً عميقةً على جدار التاريخ المعاصِر، تعمَّدت بالدم والصمود وكل أشكال التضامن مع القضية الفلسطينية.

وأضاف السفير صبري أن (طوفان الأقصى) طوت صفحة تصفية القضية الفلسطينية وضربت الردع الصهيوني في الصميم.

وأشَارَ إلى أن جبهة الإسناد اليمنية من أكثر جبهات محور المقاومة فاعلية وتأثيرًا، وخَاصَّةً على الصعيد العسكري.

إلى نص الحوار:

– مع حلول ذكراها السنوية الأولى كيف تقيِّمون معركةَ (طُوفَان الأقصى) بشكل عام، وكيف تقيِّمون دور اليمن بشكل خاص؟

معركةُ (طوفان الأقصى) شكّلت انعطافةً مهمَّةً في تاريخ الصراع العربي الصهيوني؛ إذ طَوَتْ صفحةَ تصفيةِ القضية الفلسطينية، وضربت الردع الصهيوني في الصميم، وأمكن لمحور المقاومة أن يعبِّرَ بشكل عملي عن الثوابت والمبادئ المتعلقة بالقضية الفلسطينية؛ ما جعل الفرزَ واضحًا وسهلًا بين مشروعَينِ:- أحدهما يقاوم وينتصر لفلسطين بعطاء الدم رغم شحة الإمْكَانات، ومشروع خانع ذليل، بل ومتآمر على حقوق الشعب الفلسطيني، وتابع للهيمنة الغربية برغم أنه يمتلك كُـلّ الأموال والفرص التي توفر له شيئًا من الاستقلالية والكرامة لو أنه سلك طريق الأحرار والشرفاء الذين يدعمون فلسطين -شعبًا وقضية ومقاومة-. وبات بالإمْكَان القول إن السابع من أُكتوبر قد حفَرَ سرديةً عميقةً على جدار التاريخ المعاصِرِ، تعمَّدت بالدم والصمود وكُلِّ أشكال التضامن مع القضية الفلسطينية.

واليمن كان -بفضل الله- رُكنًا من أركان هذا المتغير الاستراتيجي المهم في مسيرة الصراع مع الكيان الصهيوني، الذي كان وسيبقى صراع وجود لا حدود، وقد اختارت اليمن السير على نهج المقاومة وفاءً لفلسطين؛ وانطلاقًا من الواجب الديني والمسؤولية الأخلاقية والإنسانية، وهذا ما أكّـد عليه السيد عبدالملك الحوثي “حفظه الله” في أكثر من خطاب.

وكانت جبهة الإسناد اليمنية من أكثر جبهات محور المقاومة فاعليةً وتأثيرًا، وخَاصَّةً على الصعيد العسكري، حين أمكن للقوات المسلحة اليمنية أن تحقّقَ انتصاراتٍ متواليةً في معركة البحار؛ ما أَدَّى إلى إغلاق وإفلاس ميناء أم الرشراش “إيلات”، وتكبيد العدوّ الصهيوني خسائر كبيرة في اقتصاده القومي، كما إن طائرة يافا المسيَّرة ضربت في عمق كيان الاحتلال أكثر من مرة، ووصلت صواريخنا البالستية إلى مواقعَ وأماكنَ مهمةٍ داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وخَاصَّة صاروخ فلسطين2 الفرط الصوتي، الذي ضرب هو الآخر في وسط يافا “تل أبيب”؛ ما دفع الملايين المغتصبين إلى الهروب واللجوء للأماكن المحصَّنة، فيما كانت وسائل الإعلام تنقل مشاهد الهلع الذي أصاب الصهاينة، مع الحرائق التي اشتعلت من حولهم.

ولا ننسى الخروج المليوني الأسبوعي في العاصمة صنعاء وعشرات الساحات اليمنية؛ تضامُنًا مع فلسطين، وتفويضًا للسيد القائد والقوات المسلحة في عمليات الإسناد. وبالمجمل فقد بات لليمن دوره الإقليمي الذي لا يمكن تجاهله أَو تجاوزه مستقبلًا.

– إلى أي مدى أثّرت عملية استهداف واغتيال قيادات حزب الله والأمين العام الشهيد حسن نصر الله على وَحدة الساحات ومحور المقاومة، وفي هذا السياق كيف تقرأون الرد الإيراني الأخير؟

من المؤسف أن الأُمَّــةَ العربية الإسلامية فقدت في هذه المعركة عددًا كبيرًا من الشهداء القادة كالشهيد إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، والشهيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله. وقد اعتقد كيان الاحتلال أنه باستهداف السيد نصر الله قد قضى على قوة حزب الله، خَاصَّة أنه تمكّن قبلها من إرباك المقاومة الإسلامية اللبنانية، من خلال ما يُعرَفُ بغزوة “البيجر”، ثم باغتيال عدد كبير من القادة العسكريين في حزب الله. وكل ذلك بدعم ومباركة أمريكية وغربية.

بالَغَ المجرمُ نتنياهو في تقدير الموقف، ورفع من سقف أحلامه المريضة وأوهامه السخيفة، بزعمه أن المنطقة تتجه نحو “شرق أوسط جديد” متجاهلًا قدرات حزب الله الروحية قبل العسكرية، وغافلًا عن ترابط ساحات المقاومة من غزة إلى طهران، فجاء الرد الإيراني المزلزل، حَيثُ تعرض هذا الكيان لهجمة صاروخية هي الأكبر والأقسى في تاريخه؛ الأمر الذي أعاد توازن الردع والرعب الذي كان قائمًا وظن القادة الصهاينة أنه بات مختلًّا لصالحهم. وبالتزامن رأينا كيف اشتعلت عمليات حزب الله العسكرية على مستوى الصواريخ الثقيلة، وعلى مستوى المواجهة البرية من المسافة صفر. ولم تتأخر الضربات الحيدرية من اليمن والعراق، بل ومن داخل غزة أَيْـضاً.

– بنظرك، هل تنحو المواجهة مع الكيان الصهيوني إلى مزيد من التصعيد، أم أن الأحداث تتجه نحو تسوية ما؟

حَـاليًّا نستطيعُ القولَ: إن المواجهة على مفترق طرق، وهي إن كانت أقرب للتسوية؛ نظرًا لكثير من العوامل؛ فَــإنَّ نقطة التحول مرتبطة بالرد المرتقَب من قبل كيان الاحتلال على الرد الإيراني.. طبيعة ومستوى هذا الرد سترسم صورة الحرب على المدى المنظور؛ فإذا أقدم العدوّ على حماقة كبيرة، فلا مناصَ من الحرب الإقليمية الشاملة التي لا يمكن التنبُّؤُ بتداعياتها ومآلاتها. أما إن جاء الردُّ الصهيوني متوازِنًا وفي الإطار المقبول -وهذا ما أرجِّحُه– فَــإنَّ الطريق سيكون متاحًا إلى تسوية تقوم على أَسَاس إيقاف إطلاق النار في غزةَ ولبنانَ، ثم البحث في التفاصيل الأُخرى.

علمًا أن ثمة عواملَ قد تدفعُ بالكيان الصهيوني إلى المزيد من المماطلة والمراوغة، كما هو معروفٌ عنه، ومن هذه العوامل الانتخاباتُ الرئاسية في أمريكا وانتظار نتائجها، وكذلك المستقبل السياسي للمجرم نتنياهو وخشيته من المحاسبة داخليًّا على فشله وهزيمته العسكرية، إضافَةً إلى ملاحقته كمجرم حرب من محكمة العدل الدولية.

– بالعودة إلى جريمة اغتيال السيد حسن نصر الله، ما دلالة استخدام قنابلَ أمريكية تزن ألفَي رطل في عملية الاستهداف؟ وماذا عن الدور الأمريكي في العدوان على فلسطين ولبنان؟

استخدامُ السلاح الأمريكي في هذه الحرب العدوانية يشكِّلُ الفَارِقَ في القدرات العسكرية لصالح هذا الكيان الغاصب وهذا ليس بجديد، هذا العدوُّ يحوزُ على قوة غاشمة وفتَّاكة، ويتصرَّفُ دون أية ضوابطَ أَو خطوطٍ حمراءَ، وهو فوق ذلك مدعومٌ بالسلاح والمال الأمريكي وبالغطاء السياسي والإعلامي الغربي، وهو في الأصل كيانٌ وظيفتُه خدمةُ الأجندة الغربية التي كانت بريطانيةً إبان الحرب العالمية الأولى، ثم أصبحت بريطانية أمريكية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولا نبالغ إن قلنا: إن الولاياتِ المتحدةَ الأمريكيةَ شريكٌ كاملٌ في جريمة القرن والمجازر الوحشية وكل انتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين ولبنان.

– عربيًّا، لماذا وقفت غالبيةُ الأنظمة العربية والإسلامية على الحياد، وإلى متى هذا الصمتُ المخزي؟

لا يمكنُ تفسيرُ ولا تبرير المواقف العربية الرسمية المخزية تجاه العدوان على غزة واستباحة الدماء وتشريد عشرات الآلاف وتجويعهم وحصارهم؛ فهم وإن كانوا عاجزين عسكريًّا، فقد خذلوا فلسطين سياسيًّا وإنسانيًّا، بل وأخلاقيًّا؛ إذ لا يخفى تآمُرُ الكثير من الأنظمة العربية على المقاومة الفلسطينية، وما تخفيه قلوبُهم تفضحُه ألسنةُ أبواقهم في وسائل الإعلام المتصهينة. والأشدُّ إيلامًا أن هذه المواقفَ الرخوةَ انسحبت على الشارعِ العربي الذي لم يتحَرّك حتى الآن بالشكل المطلوب، بالرغم أن الأحرار في الشعوب الغربية كانت لهم مواقفُ مشهودة، وقد خرجت عشراتُ التظاهرات المتضامنة مع الشعب الفلسطيني في تلك العواصم وفي جامعاتها، بينما كان الشارع العربي يتحَرّك على إيقاع “الجامعة العربية”. ومع ذلك ما زلنا نتطلَّعُ ونعوِّلُ على دور الأحرار في أمتنا، بعد أن سقطت كُـلّ القناعات وانكشفت الحقائق جليَّةً ودامِغَةً لكل ذي لب وبصيرة.

– كيف تقرأون دورَ اليمن مستقبلًا، في إطار تداعيات المواجهة بين محور المقاومة والكيان الصهيوني، وفي إطار العدوان الأمريكي البريطاني على اليمن؟

سبق وأشرنا إلى الدور اليمني في معركة الإسناد، ويمكن أن نضيفَ بشيء من التفصيل، أن اليمنَ تحَرّكت في هذا الموقف دونَ أية حسابات سياسية، ولم تفكر القيادةُ السياسية والثورية في أية مصلحة من وراء هذا الإسناد العسكري تحديدًا، بل على العكس كان المشفِقون من الأصدقاء يتوقَّعون سيناريوهات مشؤومة؛ نظرًا للتهديدات الأمريكية، التي تحوَّلت إلى عمل عسكري عبرَ ما يسمى “تحالف الازدهار”، والعدوان الأمريكي البريطاني على اليمن الذي لا يزال قائمًا.

غير أن تطورات المواجهة كانت في صالح اليمن بحمد الله؛ الأمر الذي يمنح بلادَنا أفضليةً ليس في إطار محور المقاومة فحسب، بل على الصعيد الإقليمي والدولي، خَاصَّةً في ظل إحكام السيطرة على باب المندب واستعادة السيادة الوطنية على مياهنا الإقليمية في البحرَينِ الأحمر والعربي، والاستفادة من الموقع الجيوستراتيجي لليمن في معركة “الفتح الموعود والجهاد المقدَّس”

– برأيكم، ما مستقبل المفاوضات اليمنية السعوديّة، وهل تتوقعون عودةَ الحرب من جديد؟

صحيحٌ أن المفاوضاتِ اليمنيةَ السعوديّة قد تعثرت؛ بسَببِ تداعيات المعركة القائمة؛ وبسبب التدخلات والضغوط الأمريكية الوقحة على الجانب السعوديّ، وبرغم التوترات التي رافقت الضغوطَ الاقتصادية إلا أن حالَةَ خفض التصعيد ما تزال صامدةً.

لكن حالة اللاحرب واللاسلم لن تطول كَثيراً، وهذا ما حَــذَّرَ منه رئيسُ الجمهورية المشير مهدي المشَّاط في كلمته الأخيرة بمناسبة الذكرى العاشرة لثورة 21 سبتمبر الفتية، حين قال بكل وضوح: إن “صبرَ شعبنا على سياسة الإفقار والتجويع وتشديد الحصار الاقتصادي وعرقلة صرف مرتبات موظفي الدولة لن يطولَ، وَإِنَّ اليمنَ قد يضطرُّ إلى انتزاع حقوقه بالقوة المشروعة.

وبالطبع، فَــإنَّ هذا الموقفَ غيرُ منفصل عن القدرات العسكرية المتنامية لقواتنا المسلحة، التي كان لها اليد الطُّولى في المواجهة مع الأمريكي والبريطاني على مدى الأشهر الماضية، وبحسب خطاب فخامة الرئيس، فاليمن حريصة على تحقيق السلام العادل والمشرِّفِ لما فيه من مصلحة للجميع.

وعليه فالكُــرَةُ في مرمى الطرف السعوديّ ومرتزِقة العدوان، ويمكنُ البناءُ على خارطة الطريق لإنجاز اتّفاقٍ معلَنٍ يضمنُ حقوقَ شعبنا ويفتحُ الطريقَ أمام حوار سياسي يمني- يمني؛ مِن أجلِ تقريرِ مستقبَلِ اليمن على أَسَاسِ الوَحدةِ والسيادة والشراكة الوطنية.
——————————————-
المسيرة – حاوره عباس القاعدي

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: القضیة الفلسطینیة الکیان الصهیونی محور المقاومة حزب الله نصر الله

إقرأ أيضاً:

طوفان الأقصى: السياسي والإيديولوجي


يمكننا، كما استخلصنا بعض السمات التي أفرزها طوفان الأقصى من جانب تعامل الطغمة الصهيونية والأمريكية معه، نريد التوقف على الجانب العربي بهدف النظر في كيفية تعاطيه مع القضية الفلسطينية عموما، وحدث 7 تشرين الأول/ أكتوبر بصفة خاصة.

 لقد تصرف العرب عموما مع الحدث، وكأنه بعيد عن انشغالاتهم وهمومهم بالقدر الذي يتطلبه هذا الحدث العظيم. ولم يطرأ التغيير في مواقفهم منه إلا بعد أن طرح ترامب مسألة تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن، حيث بدأت القضية لديهم تأخذ مسارا آخر. فكان الإجماع الذي افتقدته القضية منذ مدة طويلة.

 قد تتعدد تفسيرات الواقع العربي، حكومات، وشعوبا، وأحزابا والتحولات التي أدت إلى المواقف من القضية الفلسطينية عكس ما وقع مثلا في 1973. لكني أريد الذهاب إلى البحث في الذهنية التي تتحكم في التصور العربي، ولا سيما لدى من ظلت القضية الفلسطينية تمثل لديهم أولوية في الصراع ضد الاستيطان، والهيمنة الأمريكية. وأقصد بصورة خاصة الأحزاب المعارضة، والنقابات، والمثقفين على اختلاف طوائفهم وألوانهم. وللقيام بذلك سأميز بين الإيديولوجيا والسياسة لأنني أرى هذا التمييز المدخل الطبيعي والضروري لفهم وتفسير ما جرى.

أعتبر السياسة فن إدارة وتدبير الوجود البشري لتحقيق المكاسب. أما الإيديولوجيا فنشر أفكار، والدفاع عنها باستماتة بهدف كسب الأنصار. إن الإيديولوجي الذي يمارس السياسة يعمل بدون وضع الزمن وتحولاته في نطاق ممارسته. إن ما يهمه بالدرجة الأولى هو تقديم تصوره الإيديولوجي الذي يتبناه ويظل يدافع عنه. والعرب لم يكونوا يمارسون السياسة ولكن الإيديولوجيا. إن الإيديولوجيا العربية، أيا كانت منطلقاتها ومقاصدها، هي ما يمارسه العرب في علاقتهم فيما بينهم، فتجد الفرقة بينهم تتخذ بعدا دينيا وطائفيا (سنة، شيعة)، وجغرافيا وحدوديا (شمال وجنوب، وغرب وشرق)، وسياسيا (حكومات وحركات). وكل منهم يرى أن إيديولوجيته هي التي تمتلك الحقيقة، والآخر ضال. وفي ضوء هذا التمايز تتخذ المواقف ضد أو مع ما يجري في الساحة العربية داخل كل قطر عربي، وبين الأقطار العربية. وهذه المواقف هي التي تتحدد في العلاقة مع الصهيونية وأمريكا خارجيا، حيث الرضوخ لهما بدعوى التحالف أو اتخاذ الحياد السلبي، أو التصريحات المجانية.

يبدو لنا ذلك بجلاء في المواقف الفلسطينية أولا من طوفان الأقصى. لقد اعتبرته السلطة الفلسطينية خطأ لأنه أعطى لإسرائيل الذريعة لتدمير غزة، وشاركتها الدول العربية الموقف عينه بصورة أو أخرى، وهو الموقف الذي اعتمده الغرب أيضا، وهو يصطف إلى جانب الأطروحة الصهيونية ــ الأمريكية. لقد تم التعامل مع الحدث على أنه عمل حركة إرهابية هي حماس ضد دولة معترف بها عالميا، ولم يكن التعامل معه باعتباره وليد صيرورة من الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي. وأنه لم يأت إلا ضد ما كانت تمارسه السلطات الصهيونية ومستوطنوها في القدس، وما ظلت تقوم به لتصفية القضية نهائيا، وخاصة منذ ولاية ترامب الأولى التي دعا فيها إلى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، مدعيا جعلها عاصمة أبدية لإسرائيل، متنكرا بذلك لكل القرارات الأممية حول القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية، وحل الدولتين.

أمام عدم انخراط الضفة الغربية في طوفان الأقصى، وهو ما كانت تخشاه إسرائيل، ملأت جبهات الإسناد الساحة، وقامت بدورها في دعم المقاومة في غزة، فبدا طوفان الأقصى وكأنه وليد إملاءات إيرانية، فاستغل هذا عالميا، وخاصة من لدن إسرائيل وأمريكا لتحوير الحرب الحقيقية من كونها قضية وطن إلى حرب بالوكالة لفائدة إيران التي صارت قطب «محور الشر». فكانت الاغتيالات لهنية في طهران، وبعد ذلك لرموز حزب الله وحركة حماس ليست نهاية لطوفان الأقصى بل لتأجيجه ودفعه في اتجاه مناقض لما كانت تحلم به إسرائيل التي توهمت أن القضية الفلسطينية ليس وراءها سوى إرهابيين يكفي القضاء عليهم لإنهاء القضية وإقبارها إلى الأبد.

لكن الصمود الوطني الأسطوري للمقاومة دفعها إلى القبول بوقف إطلاق النار في جنوب لبنان، وبعد ذلك في غزة. وخلال هدنة تبادل الأسرى والمختطفين تفرغت الآلة الجهنمية الصهيونية للضفة الغربية مستهدفة تهجير المواطنين وتدميرها كما فعلت في غزة. ومع التحول الذي عرفته سوريا، ونهاية «الممانعة» التي كانت تمنع من المواجهة مع العدو، ها هي إسرائيل تهدد أمن بلد خرج للتو من كابوس مرعب بدعوى السيمفونية النشاز: حماية أمنها القومي؟ إسرائيل شعب الله المختار عليه أن يحافظ على أمنه الذي عليه تكدير أمن «جيرانه» غير المحتملين، وتنغيص الحياة عليهم. هذه هي السياسة الصهيونية التي تنبني على إيديولوجية التسلط والهيمنة.
يبدو لنا ذلك بجلاء في المواقف الفلسطينية أولا من طوفان الأقصى. لقد اعتبرته السلطة الفلسطينية خطأ لأنه أعطى لإسرائيل الذريعة لتدمير غزة، وشاركتها الدول العربية الموقف عينه بصورة أو أخرى، وهو الموقف الذي اعتمده الغرب أيضا،
إن كل هذا نتيجة الخلاف الإيديولوجي بين مكونات المقاومة الفلسطينية الذي ظلت إسرائيل تغذيه وتفرضه طيلة كل عقود الصراع. ولا فرق في ذلك من يحمل السلاح لأنه إرهابي، ومن يخضع للهيمنة الصهيونية باسم سلطة لا حق لها في ممارستها. فكلاهما غير مرغوب فيه لأن إسرائيل للإسرائيليين وليست لأي عربي. هذا الدرس لم يفهمه بعض الفلسطينيين والعرب الذين اتخذوا مواقف مضادة من طوفان الأقصى. وهو الدرس الأكبر الذي يقدمه الطوفان لمن لم يريدوا فهم طبيعة الكيان الصهيوني وأسطورته الإسرائيلية، وهو ما يبدو حاليا بشكل أجلى منذ انتخاب ترامب في ولايته الثانية. وهو ما ظل يصرح به أبدا سموتريتش وبن غفير بوقاحة وجرأة وطغيان وعنصرية مقيتة.

يمارس الفلسطينيون بمختلف تياراتهم واتجاهاتهم السياسة، ومعهم كل الأحزاب والمنظمات الحقوقية والأهلية العربية من منظور حركات التحرر العالمية في الستينيات، أي في ضوء تصورات إيديولوجية معينة. ومواقفهم من بعضهم البعض تتأسس على قاعدة: من ليس معي، فهو ضدي. إنها القاعدة التي لا يتولد منها سوى الحقد الإيديولوجي، والاقتتال الداخلي، والصراع المستدام. إنهم لا يميزون بين التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية. بل إن ما هو ثانوي يصبح لديهم أساسيا، وفي المستوى الأول، بينما التناقض الرئيسي يقبع في الخلفية. ولذلك نجدهم يُرهِّنون تناقضاتهم الداخلية الخاصة، وتحتل المكانة الكبرى أمام ما تمثله تناقضاتهم مع عدوهم الخارجي التي تصبح وكأنها غير موجودة. يغذي العدو هذه التناقضات، ومن مصلحته إدامتها لبسط هيمنته، وإدارته الصراع بما يخدم مصلحته.

تبدأ ممارسة السياسة لدى الفلسطينيين إذا ما جمدوا تناقضاتهم الداخلية، ووجهوا التناقض نحو العدو المشترك. في هذا التجميد يكمن الحس الوطني الحقيقي في بعده الديمقراطي والوحدوي الذي تهمه قضية الوطن عبر وضعها فوق أي اعتبار. أما تبادل الاتهامات وادعاءات تمثيل الشعب الفلسطيني فليس سوى خطابات جوفاء لا قيمة لها لأنها تعبير عن إيديولوجيا زائفة.

إن الدرس الأكبر الذي نستنتجه من الحدث الأكبر طوفان الأقصى، والذي هو في الحقيقة حلقة من حلقات ما يمكننا تعلمه من تاريخنا الحديث في صراعنا مع الآخر، أي من الاستعمار التقليدي إلى الجديد يدفعنا إلى تأكيد أن ما قلناه عن الفلسطينيين ينسحب على العرب حكومات وشعوبا وأحزابا ومنظمات مختلفة. إن التناقض الرئيسي ليس مع من يختلف معنا، ويعارضنا، إنه ضد التبعية، والتخلف، والتفرقة، والتأخر عن العصر الذي نعيش فيه. إنه ضد الآخر الذي يسعى لإدامة التفرقة بين الدول والشعوب، وإشاعة الفتنة، ونهب ثروات وخيرات البلاد العربية، والحيلولة دون تقدمها. إنه ضد الطائفية والعرقية والظلامية، ومع حرية المواطن وكرامته وعزته في وطنه، ووحدة الأوطان، وتعزيز التعاون والتقارب بينها لما فيه الخير للجميع.

إذا لم تكن السياسة فن إدارة التدبير من أجل الحياة الكريمة فإنها ليست سوى إيديولوجيا توليد التناقضات وتفريخ الصراعات، وإشعال النزعات وإشاعة النزاعات، ويكفي النظر إلى ما يمور به واقعنا لتأكيد أن الإيديولوجي مهيمن في حياتنا على السياسي.

لقد كشف طوفان الأقصى حقيقة واقعنا مع ذاتنا ومع الآخر. فإلى متى يظل يلدغ المؤمن من الجحر مرتين؟

مقالات مشابهة

  • مواقف المملكة الثابتة من القضية الفلسطينية تنبثق من مشكاة الملك عبد العزيز
  • لوموند: كيف أثر السيسي على الدور الذي كانت تلعبه مصر في القضية الفلسطينية؟
  • هل تنجح قمة القاهرة في مواجهة مخططات تصفية القضية الفلسطينية؟
  • فتح: إسرائيل تواصل تنفيذ مخططات التهجير ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية
  • مصابو غزة من القاهرة: الرئيس السيسي رجل عظيم وقف ضد تصفية القضية الفلسطينية
  • صنعاء.. انعقاد المؤتمر الدولي “فلسطين: من النكبة للطوفان – أهمية دور المقاومة الفلسطينية في منع التهجير”
  • صنعاء.. انعقاد المؤتمر الدولي “فلسطين: من النكبة للطوفان – أهمية دور المقاومة الفلسطينية في منع التهجير”
  •   صنعاء : انعقاد المؤتمر الدولي فلسطين: من النكبة للطوفان - أهمية دور المقاومة الفلسطينية في منع التهجير
  • طوفان الأقصى: السياسي والإيديولوجي
  • شيخ الأزهر: القضية الفلسطينية كادت أن تنسى والكيان تعرض للهزيمة من وجهة نظري