على بُعد بضعة أمتار من المبنى الذى استهدفته إحدى الغارات الإسرائيلية فى مدينة خان يونس جنوبى قطاع غزة أواخر شهر سبتمبر الماضى، كان الصحفى العشرينى صالح الجعفراوى يحمل كاميرته الخاصة بينما يمشى بخطى متسارعة ليقتحم سُحب الدخان وألسنة اللهب، قبل أن تلتقط عدسته مشاهد لأشلاء عائلة «الزرد»، التى مزَّقتها صواريخ طائرات الاحتلال الإسرائيلى.

قبل أن يعود الشاب صاحب الـ26 عاما إلى خيمته فى ساحة مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح وسط القطاع والمعروفة بـ«خيمة الصحفيين»، ويجلس أمام جهاز الحاسب الآلى لينقل الصور التى توثق حجم المجزرة التى تعرّض لها المدنيون، ليقوم عقب ذلك بنشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعى وتحديداً تطبيق «إنستجرام»، فى محاولة منه لإيصال رسالة إلى العالم، بعد مرور عام على العدوان الإسرائيلى، مفادها: «لا تعتادوا المشهد فنحن ما زلنا نُقتل».

«الجعفراوى»: أصبحنا نتخلى عن «الدرع الصحفى» لأنه مصدر تهديد وذريعة لاستهدافنا

يقول «الجعفراوى»، الذى وُجد فى الميدان منذ السابع من أكتوبر الماضى، إن تلك المرة ليست هى الأولى فى توثيقه لأحداث العدوان على القطاع، ولكنها الأصعب والأخطر، ويتابع: «لا يوجد أى مكان هنا فى غزة من شمالها إلى جنوبها آمن، وبالتالى الجميع مستهدف، وخاصة الصحفيين أو كل من يقوم بفضح جرائم وانتهاكات الاحتلال، وهو أمر غير جديد، ولكن أصبح ممنهجاً فى تلك الحرب، ولذلك استشهد هذا العدد الكبير من الزملاء الصحفيين».

وعلى الرغم من كون الدرع الصحفى الشهير هو الأساس بالنسبة لمن يقوم بتغطية أخبار الحروب من على الأرض، ليكون بمثابة حصن أمان بأن من يرتديه لا يشكل خطراً عسكرياً على الطرف الآخر، إلاّ أنّه بالنسبة للصحفيين فى قطاع غزة إشارة خطر وذريعة كافية لطائرات الاحتلال لاستهدافه: «صرت أخلع الدرع لما أطلع لتغطية أى استهداف لأنه ممكن يتم قصفى لكونى صحفياً، وذلك فى محاولة للاحتلال لتكميم أفواه الفلسطينيين ومنع أى صوت أو صورة تفضح الجرائم التى يرتكبها فى حق الشعب الأعزل الذى يتم ذبحه منذ عام».

«إسماعيل»: «كل مرة بغطى فيها القصف بشيل روحى على كفى»

لا يختلف الأمر بالنسبة للصحفى إسماعيل جود، 28 عاماً، الذى نزح رفقة عائلته من شمال مدينة غزة، واستقر وسط القطاع، إذ يبدأ يومه فى السادسة صباحاً لتأمين حصة من المياه الصالحة للشرب، قبل أن يبحث عن الغذاء والدواء لوالده المسن، وفى وسط تلك الأمور التى تستغرق وقتاً طويلاً ومجهوداً مضاعفاً، يهرع «إسماعيل» بمجرد سماع صوت الطائرات الحربية إلى المكان المستهدف، ليباشر عمله الصحفى الذى حصد أرواح زملائه فى المهنة: «فى الحقيقة لم أكن أتصور أن أصبح مصوراً صحفياً فى يوم من الأيام، ولم أتخيل أن تصبح عدستى التى كانت شاهدة على صور الأفراح والبهجة هى ذاتها التى توثق مشاهد الدم والأشلاء والقتل والدمار»، إلا أن الحرب فرضت قوانينها على الصحفى العشرينى، وتابع: «بدأت أتجه للتصوير الصحفى بعد نزوحى من مدينة غزة، وذلك بعد شهر تقريباً من بداية العدوان، والأمر ليس سهلاً أبداً، فى كل مرة أطلع فيها على مكان القصف بكون شايل روحى على كفى، وما بكون متأمل إنى أرجع عايش لأهلى».

«نوفل»: «خروجى من تحت أنقاض منزلنا كان هو الدافع لممارسة العمل الصحفى»

إبراهيم نوفل، شاب لم يبلغ عامه الثلاثين، إلا أن خروجه من تحت أنقاض منزله بمخيم جباليا، شمال قطاع غزة، فى بداية العدوان الإسرائيلى، أواخر شهر أكتوبر الماضى، جعله يبدو كمُسن لديه خبرة فى الحياة لا يُستهان بها، ليكون ذلك الحدث هو الدافع الأساسى له فى مباشرة العمل الصحفى، سواء بالكتابة أو التوثيق بالصور، يقول: «والدى رياض نوفل كان من أوائل الناس الذين امتلكوا استديوهات تصوير فى غزة ونشأت وأنا بحب التصوير وكان عندى كاميرا أوقات أستخدمها فى المناسبات العائلية عشان تكون عندى صور للذكرى، بس بعد ما تم قصف دارنا واستشهاد خالتى والعشرات من عائلتى قررت أكون مصور صحفى ونجوت عشرات المرات من الموت، وأتمنى إنى أضل عايش لحد ما أحضر نهاية هاى الحرب المدمرة».

«كساب»: «المشاهد تجعلنا ننهار.. ولكن لا بد من استعادة قوتنا لأننا صوت الضحايا»

وحول طريقة توثيق جرائم الاحتلال وتغطية الحرب على القطاع يقول محمد كساب، صحفى ثلاثينى، يقطن بمدينة دير البلح، إنه يمتلك كاميرتين، ويعمل فى المجال الصحفى منذ سنوات، وبالتالى لديه المهارة لمعرفة الأوقات التى يستخدم فيها الكاميرا الكبيرة أو كاميرا الهاتف المحمول لتغطية الحدث، ويتابع: «العمل الصحفى محفوف بالمخاطر، ولا بد من معرفة متى يمكن استخدام الكاميرا أو الاكتفاء بالتقاط الصور بالجوال، وبشكل شخصى فأنا أفضِّل دائماً أثناء التغطية أن أذهب إلى الأماكن التى استهدفتها غارات الاحتلال بعد مرور ساعة على القصف، وذلك للتأكد من أن المكان أصبح آمناً إلى حد ما، لأنه فى أوقات كثيرة تقوم الطائرات بتجديد الغارات والقصف مرة أخرى، وهذا أحد أساليب تأمين النفس، لأنه من المهم جداً أن يكون الصحفى هو مصدر نقل الخبر وليس الخبر بحد ذاته»، وأضاف: «طبعاً فى كثير من الأحيان ننهار من المشاهد، خاصة للأطفال وكبار السن، ولكن لا بد من أن نستعيد قوتنا مرّة أخرى لأننا صوت لهؤلاء الضحايا المستضعفين».

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: عام على حرب غزة

إقرأ أيضاً:

الفاجعة

إنها النوائب التى حلت بلبنان بعد أن سلطت عليها اسرائيل حربا شرسة أبادت البشر والحجر. إنها لبنان الدولة التى عرفت الحروب أكثر من أى دولة أخرى، ولا تريد المزيد منها. فهي لا تزال تحمل ندوب الحرب الأهلية من 1975 إلى 1990، والحرب بين إسرائيل وحزب الله في 2006. بيد أن التصعيد الأخير مع إسرائيل يعد أسوأ من الحروب السابقة، فلقد تكبدت البلاد عددا هائلا من الخسائر البشرية فى انفجار الأجهزة الإلكترونية وأجهزة الاتصال اللاسلكية، وفى موجة الاغتيالات التى استهدفت قادة عسكريين فى حزب الله، وفى غارات جوية مدمرة بالقنابل الخارقة للتحصينات التي أودت بزعيم حزب الله "حسن نصرالله" في السابع والعشرين من الشهر الماضى. ولهذا فإن ما يحدث اليوم يعد الأسوأ الذى تشهده البلاد.

الحزن ساد أرجاء لبنان بسبب الصدمة التى مُنى بها الجميع من جرّاء العدد الهائل من الضحايا المدنيين، والصدمة الأكثر وقعا من جراء صمت المجتمع الدولى وكأن ما يحدث على الأرض اللبنانية لا يعنى أى شىء. وهو ما دعا محافظ بيروت إلى أن يقول: بأنه "صُدم من عدد الضحايا المدنيين، ومن صمت المجتمع الدولى الذى ترك العنان لإسرائيل كى تمارس جرائمها على مرأى من العالم دون أن يحرك أحد ساكنا". عائلات عديدة قضت الليالى فى العراء هربا من الغارات الإسرائيلية فى الضاحية الجنوبية معقل حزب الله. ولا يعرف هؤلاء ما إذا كانوا سيعودون إلى بيوتهم بسلام أم سيتم اجتثاثهم ليصبحوا تحت الأنقاض من جراء عاصفة الغارات التي تشنها إسرائيل على لبنان.

انتشر اللبنانيون فى ساحة العراء خارج منازلهم هربا من القصف الإسرائيلي الذي أباد البشر والحجر. ظهرت بيروت فى مشهد جديد مأساوى.. متاجر أبوابها مغلقة، الشقق تبدو فارغة، أعمدة الدخان ترتفع فى سماء الضاحية، الطائرات المسيرة فى السماء تمارس الانقضاض، أناس فى الساحات يعتريهم الخوف من أن يطالهم دمار الإبادة. حزب الله لم يراقب تحركات المواطنين الذين انتشروا فى الشوارع. انصب تركيزه أكثر على الخطر على حدوده.

لقد تحول لبنان إلى منطقة حرب. وما يخشاه الكثيرون أن تتوسع هذه الحرب لتشمل الشرق الأوسط كله. أسئلة كثيرة تطرح نفسها. ما الذي سيحل بالمنطقة الآن؟ وما هي التطورات التي قد تحدث فى لبنان؟ هل سيرد حزب الله على إسرائيل بقوة؟ وهل يستطيع ذلك؟ هل تتدخل إيران أم أنها مع ما تبدو عليه حتى الآن ليست فى عجلة من أمرها للرد؟ هل سيتحرك أعوان إيران الآخرون فى العراق وسوريا واليمن فى محاولة للمشاركة والرد على جرائم إسرائيل المستمرة؟ لا أحد يعلم ما الذى قد يحدث بعد هذه الفاجعة التي حلت بالدولة اللبنانية.

ولا شك أن مقتل "حسن نصر الله" المفاجئ فى السابع والعشرين من الشهر الماضى قد شكل نقطة تحول جيوسياسية مدمرة، بل وقد يؤدى إلى تعميق الأزمة فى المنطقة، أو يمثل بداية نهايتها وهذا سيعتمد على الحكمة التي تتصرف بها حكومات الدول خلال الأيام القليلة المقبلة لاسيما حكومة الرئيس الأمريكى "جو بايدن". ومن الممكن أن يؤدى عرض القوة الأمريكية، إلى جانب تحذير إيران، والضغط الدبلوماسى الأمريكى على إسرائيل إلى إرساء الأساس لإنهاء الأعمال العدائية، وإطلاق سراح رهائن حماس فى غزة، وزيادة المساعدات الإنسانية للفلسطينيين.واليوم تعقد الآمال على أن تكون الضربات الإسرائيلية على حزب الله قد مثلت انتصارا كافيا لرئيس وزراء إسرائيل "بنيامين نتنياهو"، وأن تقتنع الأطراف بأنه لا يوجد ما يمكن اكتسابه من استمرار القتال، ولكن هناك الكثير لتخسره.

مقالات مشابهة

  • محمد علي حسن يكتب: على هذه الأرض ما يستحق الصمود
  • الفاجعة
  • اقرأ في عدد «الوطن» غدا.. «السيسي»: نصر أكتوبر سيبقى نقطة فارقة في تاريخ مصر
  • عام على حرب غزة وما زال النزيف مستمرا (ملف)
  • «القاهرة الإخبارية»: ارتفاع حالات الانتحار بين جنود الاحتلال خلال العدوان على غزة
  • يفضلون الموت بعيدا عن ساحات المعارك.. ارتفاع حالات الانتحار بين جنود الاحتلال
  • عصابة فوق القانون!
  • غزة عام الحرب والمقاومة
  • الشاطر حسن