عبد العاطي صائد الدبابات.. ضرب البطل محمد عبد العاطي مثالا في الشجاعة والتضحية في حرب أكتوبر 1973م، حيث لقب بـ"مدمر الدبابات" بعدما نجح في تحطيم 23 دبابة إسرائيلية خلال المعارك.

وجسد الرقيب أول مجند محمد عبد العاطي، بمواقفه البطولية روح المقاومة والتفاني في الدفاع عن الوطن، ليصبح اسمه محفورا في ذاكرة المصريين كأحد أبطال الحرب التي غيرت مجرى التاريخ.

مولد وبداية محمد عبد العاطي صائد الدبابات

ولد محمد عبد العاطي في 15 ديسمبر عام 1950م بقرية شيبة قش بمركز منيا القمح بمحافظة الشرقية والتحق بكلية الزراعة عام 1961م وعمل مهندسا زراعيا في مركز منيا القمح تزوج وأنجب 3 أولاد وبنت وسمى ابنه الأول بوسام ويأتي ذلك اعتزازا بــ بوسام نجمة سيناء وحصل عليها قبل مولد ابنه الأول بعامين.

الرقيب أول مجند محمد عبد العاطي صائد الدبابات رصيد البطل محمد عبد العاطي القتالي

امتلك البطل الرقيب أول مجند محمد عبد العاطي، اسما تاريخيا في جميع الموسوعات الحربية باسم أشهر صائد دبابات في العالم بعدما نجح في تحطيم 23 دبابة إسرائيلية خلال المعارك، وجسد معنى روح المقاومة والتفاني في الدفاع عن الوطن.

مراحل حياة عبد العاطي

G

التحق البطل محمد عبد العاطي صائد الدبابات بالقوات المسلحة في 15 نوفمبر عام 1969م بعدما أنهى دراسته وإمتاز بتخصصه في الصواريخ المضادة للدبابات بعدما انتقاله إلى سلاح المدفعية.

ووقتها كانت الصورايخ المضادة للدبابات هي صواريخ «فهد» التي كانت وقتها من أحدث الصواريخ المضادة للدبابات وكانت بأيدي الجيش المصري، ويصل مدى الصاروخ إلى 3 كم، وكان يمتلك قوة تدميرية هائلة.

صاروخ «فهد» لم يكن كأي صاروخ عادي يمكن للجنود قذفة على العدو بل كان يحتاج إلى جندي ذو نوعية خاصة من حيث المؤهلات ومدى الاستعداد والحساسية وقوة التحمل والأعصاب.

ويأتي ذلك بسبب أن الصاروخ يحتاج سرعة بديهة وحساسية تعطي الضارب قدرة على التحكم منذ لحظة إطلاقه وحتى وصوله إلى الهدف بعد زمن محدود للغاية، ولذلك كانت التدريبات على قاذف صواريخ فهد شاقة للغاية على الجنود وقلما ما تجد جنودا يتمكنون من استخدام صاروخ فهد استخداما صحيحا دون أخطاء.

محمد عبد العاطي صائد دبابات حرب أكتوبر 1973م

قبل الانتهاء من تدريب البطل عبد العاطي بالمرحلة النهائية انتقل إلى الكيلو 26 بطريق السويس للعمل على أول تدريب له بإلقاء الصواريخ، وذلك ضمن 5 كتائب وكان ترتيبه الأول على جميع الرماة.

تم اختيار عبد العاطي لأول بيان عملي على هذه الصواريخ أمام قائد سلاح المدفعية اللواء محمد سعيد الماحي وحقق عبد العاطي نجاحا باهرا أمام قائده والتحق بعدها بالفرقة 16 مشاة في منطقة بلبيس التي كانت تدعم الفرقة بأكملها في مهامها العسكرية بالحرب وبعد عمليته الأخيرة أدى عبد العاطي نجاحا باهرا أمام الجميع لتتم ترقيته إلى رقيب مجند.

ماذا حدث مع الرقيب أول مجند محمد عبد العاطي قبل الحرب؟

إلتقى عبد العاطي بقائد كتيبته المقدم عبد الجابر أحمد علي يوم 28 سبتمبر 1973م وطلب منه المقدم عبد الجابر أحمد العودة من الإجازة بعد 38 ساعة فقط، ليعود عبد العاطي لمنطقة فايد في أول أكتوبر ليستعد مع الجنود ببدء التحرك من أجل نداء الحرب.

حرب 6 أكتوبر 1973م

بدأ الجيش بالتقدم على مقربة من القناة بحوالي 100 متر يوم 6 أكتوبر 1973م بدأت الأرض بالإشتعال بعدما توجهت الضربة الجوية الساحقة نحو إسرائيل لم يصدق أحد أن المصريين قد عبروا الضفة الشرقية للقناة بالفعل ليكون أول من تسلق الساتر الترابي لخط برليف هو البطل عبد العاطي.

وبعد لحظات صغيرة من تسلق الساتر الترابي قام الطيران الإسرائيلي بغارات منخفضة ظنا منهم أنهم سيرهبون الجنود المصرية وكأن مشهد 1967م سيتكرر من جديد ولكن ما حدث غير متوقع لهم حيث قام الجنود المصريون بإسقاط أربع طائرات إسرائيلية بالأسلحة الخفيفة ليتمكن اللواء 112 مشاة من تحقيق هدفه نحو التقدم للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من داخل أرض سيناء واستطاع اللواء 112 مشاة أن يصل إلى الطريق الإسفلتي العرضي من القنطرة إلى عيون موسى بمحاذاة القناة بعمق 70 كيلومترا في اليوم الأول من المعركة.

وفي صباح 8 أكتوبر 1973م المجيد اليوم الذي يصفه البطل عبد العاطي بأنه كان لحظة انتصار للواء 112 مشاة والكتيبة 35 مقذوفات انطلقت القوات المصرية في هجوم مباغت ضد القوات الإسرائيلية التي تحركت على بعد 80 كيلومترا باللواء 190 المدرع المدعوم بغطاء جوي.

ورغم صعوبة الظروف أظهر عبد العاطي براعة استثنائية عندما أطلق أول صاروخ بدقة متناهية ليتجنب الجبال ويصيب دبابة العدو الأولى وتوالت النجاحات مع زميله بيومي، حيث تمكنا من تدمير 13 دبابة خلال نصف ساعة مما أجبر القوات الإسرائيلية على الانسحاب.

هذه المعركة كانت نقطة تحول كبيرة في الحرب وأدت إلى اختيار عبد العاطي ضمن أفراد قيادة العميد عادل يسري في ميدان المواجهة حيث أتيحت لهم رؤية تمتد لأكثر من 30 كيلومترا في عمق العدو.

الرقيب أول مجند محمد عبد العاطي صائد الدبابات

وفي يوم 9 أكتوبر 1973م والذي شكل علامة فارقة في مسيرة البطل عبد العاطي فوجئ بقوة إسرائيلية مدرعة تتقدم لمهاجمة القوات المصرية على الطريق الأسفلتي الأوسط وتكونت القوة من مجنزرة وعربة جيب وأربع دبابات في تلك اللحظة سأله قائد المدفعية مدحت: "بماذا ستبدأ يا عبد العاطي؟" فرد عبد العاطي بثقة: "خسارة الصاروخ في السيارة الجيب سأبدأ بالمجنزرة."

ببراعة شديدة أطلق عبد العاطي الصاروخ الأول فدمر المجنزرة بمن فيها ومع محاولة الدبابة التالية الابتعاد أطلق عليها صاروخا آخر ليدمرها هي أيضا.

ومع تقدم السيارة الجيب ومحاولة الدبابات الانتشار استمر عبد العاطي في اصطياد الدبابات واحدة تلو الأخرى، محققا رقما قياسيا في هذا اليوم بتدمير 17 دبابة مسجلا صفحة جديدة من بطولاته في حرب أكتوبر.

وفي 10 أكتوبر 1973م تلقى مركز القيادة استغاثة عاجلة من القائد أحمد أبو علم قائد الكتيبة 34 بعد أن تمكنت ثلاث دبابات إسرائيلية من اختراق مواقعهم وكان البطل عبد العاطي المعتاد على الاستعداد التام قد جهز مجموعة من الصواريخ بجواره في لحظة حاسمة وجه ثلاثة صواريخ بدقة نحو الدبابات المعادية فدمرها جميعا.

ولم تتوقف بطولاته عند هذا الحد ففي 15 أكتوبر 1973م تمكن من اصطياد دبابة إسرائيلية أخرى كانت تحاول التسلل وفي 18 أكتوبر 1973م أضاف إلى رصيده دبابتين وعربة مجنزرة، ليصل مجموع ما دمره إلى 23 دبابة و3 مجنزرات مسجلا اسمه بين أعظم الأبطال في تاريخ المعارك.

وفاة البطل عبد العاطي

رحل عن عالمنا صائد الدبابات البطل محمد عبد العاطي في 24 رمضان 1422ه/ يوم 9 ديسمبر 2001م لكن ستظل ذكراه بأذهان الجميع وبطولاته خالده إلى الأبد.

اقرأ أيضاًبالزي العسكري.. أشرف عبد الباقي يحتفل بالذكرى الـ 51 لانتصارات أكتوبر (صورة)

شيرين عبد الوهاب عن ذكرى حرب أكتوبر: انتصارات بتجدد فينا روح العزة والفخر

وزير الداخلية يهنئ الرئيس السيسي بانتصارات أكتوبر: العبور العظيم سيظل مبعثا للفخر والاعتزاز

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: مصر القوات المسلحة إسرائيل سيناء قناة السويس خط برليف الساتر الترابي 7 أكتوبر حرب 7 أكتوبر 1973 م حرب أکتوبر

إقرأ أيضاً:

ليست مجرد حكاية عن أب وابنته.. «البوابة نيوز» تنشر حكايات من المتوالية القصصية "بنت أبوها" للكاتبة غادة عبدالرحيم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تنشر «البوابة نيوز» بضع حكايات من المتوالية القصصية “بنت أبوها” للكاتبة والأكاديمية الدكتورة غادة عبد الرحيم على؛ والصادر حديثا عن “صفصافة للنشر”.

تتناول حكايات الكتاب علاقة الابنة الكبرى «فريدة» بوالدها، والذي طالما لقبّها بـ «بنت أبوها»، واحتلت في نفسه مكانة خاصة، بينما ظل منذ وعت عيناها الدنيا يعني بالنسبة إليها كل شيء، ما أثّر إيجابا على سلوكها وسير حياتها.

طفولة مختلفة

منذ طفولتها، كانت فريدة مختلفة عن الجميع، لم تكن مجرد فتاة تكبر وسط عائلة تقليدية، بل نشأت في عالم يملؤه الحب والدفء؛ حيث لم يكن والدها مجرد أب، بل كان صديقها، ظلها الذي لا يفارقها، ومرشدها الأول في الحياة.

كان دائمًا يقول لها:

"إنتي أغلى حاجة عندي. مش بس بنتي، إنتي روحي اللي بتمشي على الأرض". 

بالطبع، وكأية طفلة، لم تكن تدرك في البداية كم كان هذا الحب استثنائيًّا. لكن كلما كبرت، بدأت تلاحظ أن علاقاتها بوالدها لم تكن مثل الجميع. وبينما كانت زميلاتها في المدرسة يتحدثن عن آبائهن بطريقة رسمية، كانت هي تحكي عنه كما لو كان صديقها المفضل.

الدكتورة غادة عبد الرحيم علىكانت تقول:

- بابا عمره ما رفض لي طلب.. بس الأهم إني عمري ما طلبت حاجة تافهة.

وتضيف بعفوية دون أن تقصد إغاظة أي منهن:

- بابا بيحترم رأيي حتى لو كنت صغيرة.. وبيسمعني كأن كلامي مهم.

لكن -شيئًا فشيئًا- بدأت تشعر بأن هذا الأمر يثير دهشة الآخرين! لكن بالنسبة لها، كان ذلك الحب هو الغلاف الرقيق الذي يحميها من العالم، فبدا لها -قبل أن تدرك حقائق الحياة القاسية- أن كل هذه المحبة مثل ماكينة لا تكف عن الهدير من أجل إسعادها.

أول وقود تلك الماكينة كان صباحات مليئة بالحب. كل صباح كان والدها يدخل غرفتها برفق، يزيح الستائر قليلًا، ثم يهمس بابتسامة:

- صباح الفل على أحلى بنوتة في الدنيا.

كان هذا المشهد يتكرر يوميًّا، لكنه لم يكن مجرد روتين، بل كان طقسًا خاصًّا، لحظة دافئة تبدأ بها يومها بطاقة تستمدها من هذا الرجل المتفاني في إسعادها.

لكن والدتها كانت ترى الأمور بشكل مختلف!

ذات صباح، بينما كانت فريدة تحتضن والدها بعد استيقاظها، قالت والدتها بنبرة حازمة:

-   فريدة، لازم تعتمدي على نفسك أكتر، مش معقول تفضلي طفلة طول عمرك.

عندها شعرت فريدة بالانزعاج، وكأن هناك ضربة بمطرقة ثقيلة هوت على قدمها. وقضيت بقية يومها تتساءل: لماذا ترى والدتها علاقتها بوالدها بهذه الطريقة؟ وهل كانت مخطئة في شيء؟ ولِمَ لا تترك أيامها تسير كما هي؟

لكن حتى عندما أدركت حقيقة كلمات أمها، كان ظلّ أبيها لا يفارقها، كان حاضرًا في كل تفاصيل حياتها، من حفلات المدرسة، إلى قراراتها الكبيرة والصغيرة. كان يشعر بالفخر بها، وكان يرى فيها انعكاسًا له. فقط، عندما التحقت بالجامعة، بدت لها كلمات الأم حقيقية أكثر من اللازم، وبدأت تشعر بأن العالم ليس مثاليًّا كما كانت تعتقد، وكانت الحياة تستعد لخمش جدار الهدوء الذي يحيط بعالمها.

في إحدى المرات، بينما كانت تجلس مع زميلاتها في قاعة المحاضرات، قالت ندى -إحدى زميلاتها- بسخرية:

- فريدة لسه عايشة في فقاعة باباها، مش عارفة إن الدنيا مختلفة!

عندها شعرت فريدة بالارتباك، فهي لم تكن معتادة على أن يكون قربها من والدها موضع سخرية، لكنها فضّلت ألا ترد. لكن بعد المحاضرة، واجهتها ندى مباشرة:

-   إنتي لازم تبدئي تفكري لوحدك، مش كل حاجة ترجعي لباباكي.

وكان هذا أول تحدٍّ حقيقي تواجهه فريدة، شيء لم تفكر فيه من قبل.

كانت فريدة تعشق الإذاعة المدرسية، فلم تكن تخشى الوقوف أمام الجميع، بل على العكس، كانت تحب صوتها وهو يملأ ساحة المدرسة، وكان لديها شغف بالكلمات والقصائد، وأحبت نقل المشاعر من خلال صوتها؛ لذلك لم تكن مجرد طالبة تؤدي فقرتها الصباحية، بل كانت تشعر أن صوتها يحمل رسائل، يبث الدفء والإحساس في نفوس زميلاتها ومعلميها.

ذات ليلة، بينما كانت تحضّر لفقراتها الصباحية لليوم التالي، اقترب منها والدها حاملًا ورقة بين يديه، فنظر إليها بحب وقال مبتسمًا:

-   حبيبتي، دي أول قصيدة أكتبها ليكي، نفسي تلقيها في الإذاعة.

نظرت إليه فريدة بدهشة ممزوجة بالسعادة، أخذت الورقة بحماس، وبدأت تقرأ الكلمات:

مَنْ يا عصفورةَ قلبي

يهديكِ الآنَ الوردة؟!

من يمنحكِ الحُلْم،

يتغنَّى باسمكِ في الطرقاتْ

يُطعمك السُّكَّرْ!

"فالشاعرُ ماتْ"

لم يبقَ سوى الإنسانِ المطروحِ

بعرضِ الشارعْ!!

تتقاسمه الأرجلُ والعرباتْ!!

ظلٌّ يتأبَّطُ كلَّ مسافاتِ الوجعِ الليليِّ

يسير..

خلف غزالٍ يَشْردُ،

يتوجَّسُ هذا الدرب

من يجثو الآنَ ليرفعَكِ على كتفيْهِ

"فالحلمُ تكسَّرْ"

لنْ تَرَيِ الآنَ سوى رَهَجِ الترحالْ

على الكتفيْن!

قال صديقي:

الشاعرُ لم يَعُدِ الآنَ نبيًّا

يعرفُ كلَّ الأسرار

صارَ الشاعرُ ظلًّا للوهَجِ المنبعثِ من البركانْ

قلتُ: العمرُ يجيءُ

ولا أعرف غيرَ نبيٍّ يأتي من عينيْها

حين تحاولُ أن ترفعَ جفنْيها

كي تبعثَ فيَّ الخوفْ

قال: الشعرُ حروفٌ من نارْ!

قلتُ: عيونُك يا "بنتي" يسبح فيها

وجهُ الله!

لم تكن مجرد أبيات شعر، بل كانت رسالة حب من والدها، تعبيرًا عن فخره بها وعن مكانتها في قلبه. شعرت أنها تعبر عنها تمامًا، وكأنها كُتبت بروحها قبل أن تخرج من قلمه.

وفي اليوم التالي، عندما ألقتها في الإذاعة المدرسية، كانت تشعر بارتجاف طفيف في صوتها، ليس بسبب الخوف، بل بسبب التأثر العميق. أيضًا كان هذا ما جعلها أبدعت في الإلقاء، حتى إن الجميع صمت تمامًا ليستمع إليها. كان إحساسها عاليًا، وعيناها تلمعان بنشوة النجاح. بعد انتهاء فقرات الإذاعة، اقتربت منها صديقتها إنجي وقالت بدهشة:

-   إزاي باباكي يكتب لك قصيدة؟ ده إحنا حتى حبايبنا مش بيكتبوا لنا كده!

ضحكت فريدة، لكنها لم تكن بحاجة للرد، فقد كان حب والدها مختلفًا عن أي حب آخر، وهو ما جعلها تشعر أنها ليست بحاجة إلى اهتمام أي شخص آخر، فحب والدها كان كافيًا لملء قلبها تمامًا. وكان هذا يتجلى خلال الاحتفال بعيد الحب. فكل عام في يوم الحب، كانت تذهب إلى المدرسة حاملة وردة حمراء، لم تكن من زميل معجب أو من صديقة، بل كانت من الأب الحنون المحب. وكان هذا طقسهما السنوي. في الصباح، قبل أن تخرج من المنزل، يمد يده ليعطيها وردة، ويقول لها بابتسامته الدافئة:

-   كل سنة وإنتي حبيبتي الأولى.

كانت تأخذ الوردة معها بفخر، تضعها في حقيبتها طوال اليوم، وعندما تسألها زميلاتها عن مصدرها، كانت تجيب بفخر:

-   من بابا.

وكان الأمر غريبًا بالنسبة لهن، فمعظم الفتيات كن يحلمن بأن يحصلن على وردة من شاب، بينما كانت فريدة ترى أن حب والدها هو الأهم، فهو الحب الذي لا يخيب، ويدوم إلى الأبد. وكانت الوردة دليلًا على أنه مهما كبرت، فستظل طفلته المدللة، وسيفضلها على الجميع.

ومن هذا الحب، ورثت فريدة حب الشعر من أبيها. وذات يوم دخل الأستاذ أسامة -مدرس اللغة العربية- إلى الفصل بحماس، وقال بصوته الجهوري:

-   في مسابقة لإلقاء الشعر على مستوى المحافظة، واللي عندها الجرأة والثقة في نفسها منكم ممكن تشارك!

كانت فريدة متحمسة، لكنها كانت تخشى تلك الفكرة "المنافسة على مستوى المحافظة"، فلم يعد الموضوع مقصورًا على المدرسة فقط. لكنها في المساء أخبرت والدها عن مخاوفها، ابتسم الرجل بحنان وقال:

- إنتي أقوى من أي مسابقة، وبكرة هتشوفي بنفسك.

في اليوم التالي، اختار لها الأستاذ أسامة قصيدة "إذا الشعب يومًا أراد الحياة" لأبي القاسم الشابي، وقال لها بحماس:

- أنت قوية وشاطرة وهتقدري تتغلبي عليهم كلهم على المسرح.

تدربت على القصيدة لساعات حتى باتت تحفظها عن ظهر قلب. وفي يوم المسابقة صعدت على خشبة المسرح، وقبل أن تبدأ ألقت نظرة سريعة على والدها الجالس بين الحضور، كان هناك جالسًا يبتسم لها بثقة. أغمضت عينيها وبدأت في الإلقاء، كان صوتها قويًّا، مشبعًا بالمشاعر. وحين انتهت، دوّى التصفيق في القاعة. نظرت إلى لجنة التحكيم فرأت في أعينهم إعجابًا واضحًا، أدركت حينها أنها انتصرت، ليس فقط في المسابقة، ولكن على مخاوفها أيضًا.

وفي اليوم التالي، عندما دخلت معلمة اللغة العربية إلى الفصل وأعلنت أن موضوع التعبير في هذا اليوم عن القدوة، وطلبت من كل فتاة أن تكتب عن شخص تعتبره قدوتها في الحياة، كان بطلها حاضرًا. لم تفكر فريدة كثيرًا، أمسكت قلمها وبدأت تكتب عن والدها، الرجل الذي منحها القوة والأمان في هذه الدنيا. كتبت عن دعمه لها، وثقته فيها، وعن حبه غير المشروط. وعندما انتهت من الكتابة، شعرت بالفخر بكل كلمة. لكن لم تكن تتوقع رد فعل المعلمة، التي -بعد أن قرأت موضوعها- نظرت إليها وقالت بسخرية:

-   هو أنا كل ما أطلب منك تكتبي، هتكتبي عن باباكي؟ في بنات باباها متوفي، وبتجرحيهم بكلامك.

شعرت فريدة بالحرج أمام الفصل كله، لكنها تماسكت وقالت بهدوء:

-   أنا لم أقصد أن أجرح أي حد، لكني عبرت عن مشاعري.

ساد الصمت للحظات، ثم همست إنجي بجانبها:

-   ولا يهمك.. اللي كتبتيه جميل جدًّا.

مع هذا، ظلت كلمات المعلمة تؤلمها، وجعلتها تتساءل: هل من الخطأ أن تحب والدها بهذا الشكل؟!

ولم تكن وحدها التي تفكر في الأمر. ففي "الفسحة"، وعندما كانت فريدة تجلس مع إنجي، فجأة سألتها صديقتها:

- فريدة، هو ليه علاقتك بباباكي قوية كده؟

تنهدت فريدة وقالت:

-   عارفة يا إنجي، أنا اتولدت وقعدت ٨ سنين طفلة وحيدة مدللة قبل ما تيجي أختي. كنت بحس إن بابا هو العالم كله، كنت وأنا طفلة أستناه في الشباك، حافظة حتى صوت كحته! كان لازم يأكلني بإيده، وكنا بنلعب مع بعض لعبة تثير فزعه، كنت أمسك إيده وأغمض عيني وأرمي راسي كأني مُت، وأول ما هو يخاف ويحاول يصحيني، أفتح عيني وأضحك من فرحتي بلهفته عليا.

ابتسمت إنجي بحزن وقالت:

-   أبوكي مختلف عن بابا… بابا كان شديد، كل حاجة أوامر، عمري ما حسيت إني قادرة أتكلم معاه. حتى لبسي هو اللي بيختاره، عمري ما حسيت بالحرية زيك.

نظرت فريدة إليها بحزن، وأدركت أنه ليس كل الآباء مثل والدها. شعرت للمرة الأولى أن ما تملكه ليس مجرد حب أبوي، بل كنز حقيقي لا يقدر بثمن.

وهكذا ظل حب والدها يملأ حياتها، يمنحها القوة والثقة، ويجعلها تشعر دائمًا أنها ليست بحاجة إلى أي شيء آخر. فالحب الأول في حياتها لم يكن قصة عابرة، بل كان أساسًا متينًا بنى شخصيتها، وصنع منها الفتاة التي لا تحتاج غير نظرة واحدة من والدها، لتشعر أنها قادرة على مواجهة العالم بأسره.         

رجل لا يشبه أحدًا

كانت فريدة تعيش في عالمها الخاص، عالم كان فيه والدها كل شيء. لم تكن فقط ابنته، بل كانت حبيبته الصغيرة، وكان يعاملها كما لو كانت طفلة رغم مرور السنوات. لم يتغير شيء، ما زال يجلسها على حجره ويداعب خصلات شعرها، ويقول لها بحب:

-   حبيبتي، إنتي أجمل بنت في الدنيا.

وكانت تشعر بأن حب والدها لها مختلف، ليس فقط لأنه كان أبًا رائعًا، بل لأنه كان يعرف كيف يحتويها، كيف يكون حضنًا دافئًا تلجأ إليه عندما تضيق بها الحياة. لكن الطبيعة الأنثوية القلقة جعلتها في أحد الأيام، وكانت تجلس بجانبه في المساء تشاهد التلفاز وهو منشغل بقراءة الجريدة، تلتفت فجأة إليه وتسأله بصوت خافت:

-   بابا، هو أنا هفضل بنتك المدللة حتى لما أكبر؟

وضع الجريدة جانبًا، ونظر إليها بابتسامة دافئة، وقال بثقة:

-   طبعًا، مهما كبرتِ، إنتي في عيني حبيبتي الصغيرة.

لكنها لم تكن تدرك حينها أن هذه الأيام الجميلة لن تدوم للأبد، وأن علاقتها بوالدها ستواجه اختبارًا لم تعتقد يومًا أنه سيأتي.

أبي.. الصحفي والشاعر

كان والدها عاشقًا للشعر منذ صغره، يكتب القصائد والنثر، وكانت مكتبته مليئة بالكتب، ودواوين الشعر، والروايات العتيقة. كان يعتبر الكلمات نافذته للعالم، والطريقة التي يرى بها الحياة. وكثيرًا ما كان يقرأ لها بصوت عالٍ. لكنه -رغم كل هذا العشق- لم يسلك الطريق التقليدي للأدباء. في الحقيقة، كان يحلم بدخول كلية الهندسة، لكنه لم يتمكن من ذلك، فانجرف نحو الصحافة، وهناك وجد نفسه.

كان والد فريدة شخصية متميزة في مجال الكتابة والصحافة؛ حيث أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات المتخصصة في الإسلام السياسي. تميزت أعماله بعمق التحليل وسلاسة الأسلوب؛ مما جعلها محط اهتمام القراء والباحثين على حد سواء. ونظرًا لأهميتها، تمت ترجمة بعض هذه المؤلفات إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية؛ مما وسّع دائرة انتشارها وأتاح لغير الناطقين بالعربية الاستفادة من رؤاه وأفكاره.

كان شغوفًا بعمله، مكرِّسًا جلّ وقته للكتابة والبحث، مؤمنًا بدور الكلمة في إحداث التغيير والتأثير في المجتمع. لم يقتصر نشاطه على الكتابة فحسب، بل خاض تجربة إعلامية مميزة من خلال تقديم برنامج تلفزيوني وحيد. ورغم أنها كانت تجربته الأولى في هذا المجال، فإنه نجح فيها بامتياز، حيث كان البرنامج محط أنظار الجميع، من أبسط المواطنين إلى أكثرهم ثقافة. تميز بأسلوبه الفريد، بدءًا من لهجته البسيطة التي تخترق القلوب بسهولة، وصولًا إلى مصداقيته وشفافيته في تناول المواضيع.

وعندما قرر خوض غمار الانتخابات البرلمانية، حظي بدعم شعبي كبير؛ مما أهّله ليكون النائب الأول والأعلى تصويتًا. فقد أحبّه الناس لبساطته وقربه منهم، فقد كان يجسّد دور الأخ والأب والابن البار، بملامح الصعيدي الشهم الشجاع. تميّز بنزاهته وصدقه، وكان دائمًا قريبًا من هموم المواطنين، مكتبه مفتوح للجميع، يستمع لمشاكلهم ويسعى لحلها بكل إخلاص.

كذلك، خلال فترة رئاسته لتحرير إحدى الصحف كان قريبًا من الصحفيين، يدعمهم ويناصرهم، مؤمنًا بأهمية دورهم في نقل الحقيقة وتوعية المجتمع. كان مديرًا حنونًا وعادلًا، لا يخذل موظفيه، ويؤمن بأن الإدارة بالحب والعطاء هي السبيل لتحقيق النجاح والتميّز.

لذلك، لم يكن غريبًا في طفولتها عندما كانت كل مرة يُطلب منها كتابة موضوع تعبير عن شخصية مهمة أو رمز تكتب عن أبيها، حتى إن المعلمة سألتها مرة ساخرة: هو كل مرة هتكتبي موضوع عن والدك.. هو سعد زغلول يا بنتي؟!

وفي إحدى الليالي، وبينما كانت فريدة تقلب في أحد دفاتره القديمة، سألته بفضول:

-   بابا، أنت كنت بتحب الهندسة. ليه دخلت الصحافة؟!

ضحك والدها وهو يشبك يديه خلف رأسه، وقال:

-   الدنيا مش دايمًا بتدي لنا اللي إحنا عايزينه، بس أوقات بتدينا حاجة أحسن.

-   بس إنت كنت بتحلم تكون مهندس!

-   صحيح، لكن لقيت نفسي في الكتابة أكتر. ولما بدأت أكتب، حسيت إني بعرف أفهم الدنيا وأحكيها بطريقة مختلفة.

ظلت كلماته محفورة في ذهنها، ورغم أنها لم تكن تفكر في أن تصبح كاتبة، فإنها أدركت كم كان شغفه بالكلمات يشكل جزءًا من حياته. وفيما بعد، صار جزءًا من حياتها أيضًا.

أحلام مؤجلة

كانت فريدة تحلم بالسفر، أرادت أن ترى العالم خارج حدود مدينتها، أن تخوض مغامرات بعيدة عن الروتين المعتاد. كثيرًا ما كانت تجلس أمام شاشة الكمبيوتر، تبحث عن أماكن سياحية، تشاهد الكثير من مقاطع الفيديو عن السفر، وتقرأ تجارب أشخاص سافروا وحققوا أحلامهم.

وذات مساء جمعت شجاعتها وسألت والدها:

-   بابا، لو نجحت بمجموع عالي، ممكن تسيبني أسافر لوحدي في رحلة صيفية؟

نظر إليها والدها بتركيز، وكأنه يزن كلماتها، ثم قال بجدية:

-   السفر مسئولية كبيرة يا فريدة، مش مجرد فسحة، لازم تكوني مستعدة فعلًا.

أومأت برأسها بحماس:

-   أنا مستعدة! ها أثبت لك إني قد المسئولية.

راق له حماسها، لكنه ابتسم بحنان وربّت على رأسها:

-   نشوف، خلينا الأول ننجح بمجموع عالي.

ولم تكن تعلم أن هذا الوعد سيصبح عقدة في حياتها لاحقًا.

أول خلاف!

في الواقع، لم يكن كل شيء مثاليًّا! فقط هذه هي الحياة، لا يمكن أن تسير على وتيرة واحدة.

جاءت اللحظة التي شعرت فيها فريدة أن والدها غاضب منها لأول مرة في حياتها. كانت في الثانوية العامة، وكانت أحلامه لها أن تدخل كلية الإعلام لتصبح مذيعة مشهورة، لكنها تهاونت في دراستها، اعتقدت أن الأمور ستكون سهلة، لكنها صُدمت عندما حصلت على مجموع أقل من المتوقع.   

عندما علم والدها، نظر إليها بعيون مليئة بخيبة الأمل. قال بصوت هادئ لكنه مؤلم:

-   أنا كنت واثق فيكي.. سبت لك كل الحرية، لكنكِ خذلتيني.       

شعرت فريدة وكأن العالم قد انهار من حولها. لم يكن الأمر مجرد درجات فقدتها ومسيرة سوف تتغير خططها، بل كان إحساسها بأنها خيّبت ظن والدها لأول مرة في حياتها. وبعد أسابيع من التفكير، قررت أن تغير كل شيء. بدأت تضع جدولًا صارمًا لنفسها، تعيد تنظيم وقتها، وتبحث عن طرق لتحسين مهاراتها. انضمت إلى دورات تدريبية، بدأت في قراءة كتب تطوير الذات، واهتمت بتحسين مهاراتها في مجالات مختلفة، ليس فقط من أجل دراستها، بل لأنها أرادت أن تكون أفضل، أن ترى الفخر في عينَيْ والدها مرة أخرى.

مقالات مشابهة

  • صلاح الدين عووضه.. ميني حكاية: الرجل الذي فقد نفسه!!….
  • نحو 450 صائماً يستفيدون من مطبخ فريق حكاية شغف الخيري بحماة
  • أوصى أن يُدفن في هذا الدير.. حكاية الأنبا باخوميوس وجبــل القلالى
  • إبطال سحر رُمي في نهر عراقي.. حكاية أمهات السحورة وسباح أنقذ عائلة
  • ليست مجرد حكاية عن أب وابنته.. «البوابة نيوز» تنشر حكايات من المتوالية القصصية "بنت أبوها" للكاتبة غادة عبدالرحيم
  • «عبد العاطي» يؤكد رفض مصر لأية تحركات تمس أمن وسلامة الشعب اللبناني الشقيق
  • أمانة الشباب المركزية بحزب الجبهة الوطنية تستعرض خطتها للتواجد في الشارع
  • أمانة الشباب بـالجبهة الوطنية تستعرض خطتها وفعالياتها للتواجد بالشارع
  • أمانة الشباب بحزب الجبهة الوطنية تستعرض خطتها وفعالياتها للتواجد بالشارع
  • عبد العاطي يؤكد موقف مصر الداعي لاحترام سيادة ووحدة وسلامة أراضي السودان