في عالم يُواجه تحديات اقتصادية مُتزايدة، تظل الزراعة واحدة من الركائز الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة. ومن خلال دراسة تجارب الزراعة الناجحة، نجد أن الابتكارات الزراعية تلعب دورًا حاسمًا في التغلب على الأزمات الغذائية وتعزيز الأمن الغذائي. يُعد كتاب "Transforming Agriculture in Africa & Asia: A Success Story" من تأليف العالم الأمريكي نورمان بورلوج، الحائز على جائزة نوبل للسلام، مرجعًا مهمًا لفهم تجارب زراعية أسهمت في تجاوز الأزمات خلال الفترة ما بين 1960 و1990.

يركز الكتاب على كيفية استفادة عدة دول في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية من التجارب الزراعية التي قادها بورلوج، حيث يعرض كيف يمكن للإصلاحات الزراعية أن تعيد تشكيل أنظمة الإنتاج وتحقق نتائج إيجابية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.

في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، واجهت العديد من الدول النامية تحديات مثل نقص الغذاء وسوء التغذية والفقر المدقع. وخلال الستينيات، انطلقت ثورة خضراء بقيادة بورلوج، حيث عمل على تطوير أنواع جديدة من المحاصيل التي كانت أكثر مقاومة للأمراض والجفاف. ومن خلال تحسين سلالات القمح والأرز، استطاع بورلوج رفع إنتاجية المحاصيل بشكل كبير.

تعتبر الثورة الخضراء، التي بدأت في الهند في منتصف الستينيات، واحدة من أبرز الأمثلة على تأثير الابتكارات الزراعية في تجاوز الأزمات الاقتصادية. بدأت هذه التجربة عندما تم إدخال سلالات جديدة من القمح بساق أقصر، مما أدى إلى زيادة إنتاج الحبوب بشكل هائل. وامتدت هذه الجهود إلى باكستان ودول أخرى، حيث تم تحسين الإنتاج الزراعي من خلال تطبيق تقنيات الزراعة الحديثة.

وفي إفريقيا، عمل بورلوج على تطوير محاصيل مثل الذرة في دول مثل ملاوي وكينيا. في ملاوي، أدت الجهود المبذولة لتحسين إنتاج الذرة إلى زيادة الإنتاج المحلي، مما ساعد البلاد على مواجهة أزمات الغذاء. وفي كينيا، ساهمت الابتكارات الزراعية في رفع مستوى المعيشة للفلاحين وتحسين الأمن الغذائي. وبفضل التحسينات في تقنيات الزراعة، تمكن المزارعون من تحقيق عوائد أعلى وزيادة دخلهم، مما أدى إلى تحسين ظروف الحياة في المجتمعات الريفية.

تُظهر تجربة بورلوج أهمية التعاون الدولي في تحقيق النجاح في التنمية الزراعية. فقد ساهمت منظمات مثل منظمة الأغذية والزراعة (FAO) والبنك الدولي في دعم الدول النامية من خلال تقديم التمويل والتدريب والخبرة اللازمة لتعزيز قدراتها الزراعية.

وُلد نورمان بورلوج بولاية آيوا الأمريكية في الخامس والعشرين من مارس عام 1914، ودرس الزراعة والعلوم الزراعية. وحصل على جائزة نوبل للسلام عام 1970 تقديرًا لجهوده في تحسين الإنتاج الزراعي وتطبيق تقنيات جديدة ساعدت على زيادة المحاصيل الغذائية. وقد توفي في الثاني عشر من سبتمبر عام 2009، وترك إرثًا ضخمًا من الابتكارات الزراعية التي ساهمت في تعزيز الأمن الغذائي في مختلف أنحاء العالم. كان من أهم إنجازاته تطوير أصناف قمح جديدة تتميز بمقاومتها للأمراض وزيادة إنتاجيتها. في الستينيات، ساهمت هذه الأصناف في رفع إنتاج القمح في الهند وباكستان، حيث أصبحت الدولتان قادرتين على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب.

أسهمت جهود بورلوج في الهند في رفع إنتاجية القمح بنسبة 50% خلال فترة قصيرة، مما ساعد على تجنب المجاعات التي كانت تهدد البلاد.كما لعبت هذه الجهود دورًا كبيرًا في تحسين الأمن الغذائي في باكستان ودول أخرى، وساهم أيضًا في نشر المعرفة الزراعية من خلال تعليم وتدريب المزارعين على تبني تقنيات زراعية جديدة لتحقيق الأمن الغذائي ومحاربة الجوع في العالم.

يُظهر كتاب "Transforming Agriculture in Africa & Asia" لنورمان بورلوج كيف أن الابتكارات الزراعية ليست مجرد حلول لتحديات الإنتاج، بل هي أدوات استراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة والتغلب على الأزمات الاقتصادية. ويصبح تعزيز هذا القطاع من خلال البحث والتطوير والاستثمار هو مفتاح تحقيق الأمن الغذائي والنمو الاقتصادي المستدام.

أكد نورمان بورلوج عددًا من المفاهيم والأفكار المهمة للاستفادة من الزراعة في تحقيق تنمية مستدامة، ودعا إلى إلغاء السياسات السعرية المعادية للزراعة، وقال: إن "الزراعة تبدأ في التقدم عندما تزيل الدول السياسات التي تعاقب القطاع الزراعي لكي تنجح التحولات الزراعية في العديد من الدول". كما أشار إلى أن الاستثمارات العامة في البحث الزراعي، وخدمات الإرشاد، والكهرباء، والري مهمة للغاية، لكن نوعية هذه الخدمات قد تكون أكثر أهمية من كميتها. وهذا يتطلب تحسين الجودة بدلاً من مجرد زيادة الكمية ويجب أن يكون هناك تنسيق دقيق بين الاستثمارات والسياسات الزراعية، وتحديد الاحتياجات التنموية بالنظر إلى كمية الأراضي الزراعية المتاحة، ومعدل النمو السكاني لتحديد احتياجاتها التنموية الخاصة.

ورغم النجاحات التي حققها بورلوج وغيره من العلماء والباحثين للاستفادة من الابتكارات الزراعية في تحقيق تنمية مستدامة ومواجهة الأزمات الاقتصادية، فإن التحديات لا تزال قائمة، ومنها التغير المناخي الذي يمثل تهديدًا كبيرًا للإنتاج الزراعي ويزيد من حدة الأزمات الغذائية، لذا، من الضروري الاستثمار في تقنيات جديدة مثل الزراعة المستدامة والزراعة العضوية، التي تحافظ على الموارد الطبيعية وتقلل من تأثير الزراعة على البيئة، ويجب أيضًا تعزيز برامج تعليم وتدريب المزارعين لتمكينهم من تبني تقنيات جديدة، مما يزيد من قدرتهم على مواجهة التحديات المستقبلية.

في النهاية، يُظهر تراث نورمان بورلوج كيف يمكن للإرادة والتعاون الدولي، جنبًا إلى جنب مع الابتكارات الزراعية، أن تسهم في التغلب على الأزمات الاقتصادية وتعزيز الأمن الغذائي العالمي وتبقى الدروس المستفادة من تجربته ليست مجرد نصائح نظرية، بل تجارب عملية ينبغي أن يستفيد منها صناع السياسات والباحثون والمزارعون في كل أنحاء العالم، لضمان مستقبل زراعي مستدام وآمن.

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: الأزمات الاقتصادیة الأمن الغذائی الزراعیة فی من خلال

إقرأ أيضاً:

احتفالات أكتوبر بين دروس الماضي وتحديات الحاضر والمستقبل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

اعتدنا في ذكرى الاحتفال بانتصارات السادس من أكتوبر "العاشر من رمضان"، من كل عام، أن نتذكر بكل فخر واعتزاز هذا الحدث العظيم في تاريخ مصر والامة العربية. اعتدنا أن نحتفل وسط أجواء بهيجة ممزوجه بالثقة في النفس، أن هذه الأمة قادرة علي مواجهة أعتي التحديات والأزمات والتغلب عليها.

هذا العام، تأتي ذكرى السادس من أكتوبر وسط العديد من الأزمات الطاحنة، والتي تنذر بنشوب حرب إقليمية موسعة، قد تشمل إيران وأتباعها من ناحية، وإسرائيل وحلفائها من ناحية أخرى. كل مانخشاه هو أن تتطور الأمور ونجد أنفسنا وسط دائرة ملتهبة، خاصة بعد تدمير قطاع غزة، واحتلال الشريط الحدودي بين سيناء وغزة  (محور فيلادلفيا) الواقع داخل منطقة رفح الفلسطينية، وهو ما يخالف اتفاقات السلام. 

ومع استمرار الغطرسة الفجة من قوات الاحتلال، واغتيال هنيه في إيران، ثم حسن نصر الله وقادة حزب الله في جنوب لبنان، والرد الإيراني (ضعيف التأثير) بضرب إسرائيل بالصواريخ، والتهديد الإسرائيلي بالرد علي ايران، واحتلال الشريط الحدودي مع لبنان، تعود المنطقة إلى أجواء الحرب الموسعة، بين محور إيران وأذرعها في المنطقة، ومع إسرائيل وداعميها من الغرب خاصةً الولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا. ومع الصمت المريب من المجتمع الدولي والفشل الذريع من المؤسسات الدولية (مجلس الأمن)، يجب علينا أن نتحلي بأعلي درجات ضبط النفس وأن نتعلم من أخطاء الماضي، وأن نستعد لتحديات الحاضر والمستقبل.

الاستفادة من أخطاء الماضي، 

في الحروب التي خضناها، خاصةً حرب يونيو ١٩٦٧؛ نجحت إسرائيل في استفزاز القيادة المصرية، والوقيعة بين مصر والدول الغربية، ونجحت في إلحاق الهزيمة بالجيوش العربية. ولذا يجب أن نتعلم من دروس الماضي وأن نتحلي بأعلي درجات ضبط النفس وعدم الاستجابة لأى استفزاز من هنا أو هناك. وهذا ماتنتهجه القيادة المصرية الحالية مع تجنب إرسال القوات المسلحة المصرية خارج الحدود إلا لدواعي الأمن القومي المصري. 

الاستعداد لتحديات الحاضر والمستقبل، 

يجب علينا أن نحافظ علي جاهزية الجيش المصري تدريبًا وتسليحًا، ليكون جاهزًا طوال الوقت إذا اقتضت الضرورة لتدخله لحماية حدود مصر، وهذا هو ما تحرص عليه القيادة المصرية. كذلك يجب أن تكون الجبهة الداخلية صلبة في مواجهة التحديات، وأن نحافظ علي علاقات دولية متزنة. لذا يجب علينا الاصطفاف حول القيادة السياسية، وتقوية الجبهة الداخلية، والإتفاق على ثوابت الأمن القومي المصري. وكذلك يجب الإستعداد العسكري لأي تطور قد يحدث علي حدودنا. فكما قلنا "لاصوت يعلو فوق صوت المعركة" بعد ١٩٦٧، يجب أن نقول حاليًا، "لاصوت يعلو فوق صوت الأمن القومي المصري". ويجب كذلك تقوية علاقاتنا مع الأشقاء العرب والحفاظ علي جبهة عربية موحدة.

ربما نكون قد اعتدنا كل عام، على الاحتفال بهذه المناسبة العظيمة، ونتذكر روعة التخطيط ودقة التنفيذ وبطولة الجندي والضابط والقادة في القوات المسلحة المصرية. ولكن، هذا العام، عاودنا الحديث عن الحرب وعودة الأزمات الي المنطقة.

لقد بات واضحًا أن المنطقة التي نعيش فيها، ماتكاد تستقر حتي تعود إلى الاضطراب من جديد. وعلينا أن نكون دائمًا على استعداد لمواجهة المخاطر التي تحيط بنا من كل اتجاه.

حفظ الله مصر وأهلها من كل مكروه، وكل أكتوبر وحضراتكم جميعًا بخير.

مقالات مشابهة

  • 5 مرتكزات أساسية ضمن "مختبر الأمن الغذائي" لتعزيز الفرص الاستثمارية وتعظيم العوائد الاقتصادية
  • زراعة الشرقية تعقد اجتماعا لمتابعة الجمعيات الزراعية وصرف الأسمدة المدعمة
  • وزير الزراعة: كامل الدعم لمزارعي سيناء لضمان نجاح التنمية الزراعية
  • لـOCP يعزز ضمان الأمن الغذائي بدعم فلاحي غرب أفريقيا ودول الساحل
  • مركز الملك سلمان للإغاثة يواصل تنفيذ المرحلة الرابعة من مشروع دعم الأمن الغذائي للاجئين السوريين في مخيم الزعتري بالأردن
  • وزير الزراعة: أكثر من 6.7 مليون طن صادرات مصر الزراعية خلال 9 أشهر
  • “إغاثي الملك سلمان” يواصل تنفيذ مشروع دعم الأمن الغذائي للاجئين السوريين بمخيم الزعتري بالأردن 
  • تونس تنتخب الأحد: استحقاق رئاسي وسط غياب المنافسة وتصاعد الأزمات الاقتصادية
  • احتفالات أكتوبر بين دروس الماضي وتحديات الحاضر والمستقبل