إنه من رحمة الله تعالى على عباده أن يسّر لهم أبواب التوبة وطلب المغفرة، حتى يعود العاصي إلى ربه ويتوب من ذنوبه مهما كانت عظيمة، فينبغي على الإنسان العاقل أن ينظر إلى ذنوبه وأخطائه التي حددتها الشريعة الإسلامية، وأن يحاسب نفسه دائماً على جميع أقواله وأفعاله وأحواله، وألّا يستهين بالمعاصي والذنوب التي تقع منه.

وقد ذكر الله تعالى التوبة وحضّ عليها في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، فقال سبحانه: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ [الزمر: 54]، ووعدهم بقبولها منهم مهما عظُمت الذنوب: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 110]. وربط المواظبة على التوبة إلى الله بالفلاح في الدارين، فقال سبحانه: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31].

ولذلك جعل الله تعالى باب التوبة مفتوحاً للتوابين حتى قيام الساعة، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يَبسُط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويسبط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)). بل إن الله تعالى يقبل توبة العبد العبد مهما تكرر ذنبه ومهما عظم، وذلك بشرط إخلاصه في التوبة وصدقه في عدم الرجوع إلى المعصية، قال صلى الله عليه وسلم: (إن عبدًا أصاب ذنبًا فقال: رب أذنبت، وربما قال: أصبت فاغفر لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ به غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا – أو أذنب ذنبًا – فقال: رب أذنبت أو أصبت آخر، فاغفره، فقال: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفرُ الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا وربما، قال: أصاب ذنبًا قال: رب أصبت، أو قال: أذنبت آخر فاغفره لي، فقال: أعلِم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ به، غفرتُ لعبدي ثلاثًا، فليعمل ما شاء).

وإن الله تعالى حرّم اليأس من رحمته ومغفرته، وبشّر عباده بقبوله للتوبة مهما عظمت الذنوب وحتى إن ارتكب عبده الكبائر، فالله تعالى يقبل التوبة عن عباده وهو التواب الرحيم، قال سبحانه: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].

وللتوبة فضل عظيم ومحاسن كثيرة، فهي فوق كونها مطهّرةً للذنوب والسيئات، فإنها تبدّل السيئات إلى حسنات وترفع درجة المؤمن عند ربه، قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 70]، وهي الطريق لنيل مرضاة الله تعالى ومحبته، قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222].

بل إن الله تعالى يفرح بتوبة عباده التائبين، وقد ورد ذلك في حديثٍ يروي الأفئدة ويزرع في قلوب المؤمنين التفاؤل والأمل الكبير برحمة الله، ويدفعهم للإسراع إلى التوبة وطلب المغفرة في كل حين، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ، قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله معلّقاً على هذا الحديث في كتابه مدارج السالكين: (وَلَمْ يَجِئْ هَذَا الْفَرَحُ فِي شَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ سِوَى التَّوْبَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِهَذَا الْفَرَحِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي حَالِ التَّائِبِ وَقَلْبِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْرَارِ تَقْدِيرِ الذُّنُوبِ عَلَى الْعِبَادِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَنَالُ بِالتَّوْبَةِ دَرَجَةَ الْمَحْبُوبِيَّةِ، فَيَصِيرُ حَبِيبًا لِلَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ .. فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْعَبْدِ خَيْرًا؛ أَلْقَاهُ فِي ذَنْبٍ يَكْسِرُهُ بِهِ، وَيُعَرِّفُهُ قَدْرَهُ، وَيَكْفِي بِهِ عِبَادَهُ شَرَّهُ، وَيُنَكِّسُ بِهِ رَأْسَهُ، وَيَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنْهُ دَاءَ الْعُجْبِ، وَالْكِبْرِ، وَالْمِنَّةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى عِبَادِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الذَّنْبُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ طَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الدَّوَاءِ؛ لِيَسْتَخْرِجَ بِهِ الدَّاءَ الْعُضَالَ).

إن من يسمع هذه البشائر والفضائل التي تخصّ التوبة النصوح والخالصة لله تعالى حريٌّ به أن يسارع لطلبها، فيقلع عن ذنوبه ومعاصيه ويجاهد نفسه على الإقلاع عنها، كما ينبغي عليه الإكثار من الطاعات والعبادات بأداء الفروض ومختلف النوافل، لأن مجرد التوبة دون العمل المترتب عليها لا يكفي لتحقيق شروط التوبة المنشودة والتي تستجلب رضا الله تعالى ومغفرته. فقد اقترنت التوبة بأداء العمل الصالح في الكثير من الآيات القرآنية، كما في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 146]. وقوله سبحانه: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 70]. فالحمدلله الذي شرفنا بالعبودية ومنَّ علينا بالهداية ونعمة الإسلام، وأكرمنا بأداء العبادات والطاعات، ورحمنا بأن فتح لنا باب التوبة لكي نتوب إليه سبحانه من ذنوبنا وسيئاتنا التي لا تحصى، إنه هو التواب الرحيم.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

المصدر: عين ليبيا

كلمات دلالية: قال سبحانه الله تعالى إن الله

إقرأ أيضاً:

حياة يوحنا المعمدان.. من البشارة إلي الاستشهاد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

ولد يوحنا المعمدان من ابوين هما زكريا الكاهن وأليصابات، وقد بشر به قبل ولادته ، ووصف بأنه كان مكرسًا لله منذ صغره ، و اشتهر يوحنا بدعوته إلى التوبة والتجديد الروحي، وكان يعمد الناس في نهر الأردن كعلامة على التوبة ،و يعتبر يوحنا السابق للمسيح، حيث أعلن عن مجيء يسوع المسيح وعرَّفه للجماهير. قال: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطايا العالم".

و عاش يوحنا حياة بسيطة، كان يرتدي جلود الحيوانات ويتغذى على الجراد والعسل البري. عُرف بتواضعه وقوة إيمانه ، و تم اعتقاله بسبب انتقاده للملك هيرودس بسبب زواجه من هيروديا، وتعرض للقتل، حيث أُعدم بقطع رأسه.
 

و يعتبر يوحنا المعمدان رمزًا للتوبة والإيمان، ويحتفل به في العديد من الطوائف المسيحية. يُعتبر أيضًا قديسًا في الإسلام، حيث يُشار إليه باسم "يحيى".


ويعتبر رمزًا للعبور من الموت إلى الحياة الروحية، ودعوته للتغيير تدعو الناس للعودة إلى الله.

وتجسد حياة يوحنا المعمدان أهمية الإيمان والتوبة، وتظل رسالته تلهم الكثيرين حتى اليوم.

مقالات مشابهة

  • محافظ الطائف يكرّم الطالب المالكي الفائز في مسابقة الملك عبدالعزيز الدولية لحفظ القرآن الكريم
  • محافظ الخرج يرعى توقيع اتفاقية تعاون بين جمعية تحفيظ القرآن الكريم بالخرج وأوقاف الراجحي
  • حياة يوحنا المعمدان.. من البشارة إلي الاستشهاد
  • لماذا سمى الله سيدنا جبريل بالروح القدس في القرآن الكريم؟
  • رئيس جامعة سوهاج يكرم 2000 طفل من حفظة القرآن بمدرسة القرآن الكريم
  • وصف النبي في القرآن.. صدر مشروح وقلب أقوى من الجبال
  • من هو أول نبي قال الله أكبر؟.. ذُكر 69 مرة في القرآن الكريم
  •   الشيخ ياسر السيد مدين يكتب: لتُخرج الناس من الظلمات إلى النور
  • واعظ بالأزهر: الله ذم الإسراف والتبذير في كثير من آيات القرآن الكريم