#موقف_عمومي
د. #هاشم_غرايبه
في المفاهيم المعاصرة التي رسختها المبادئ الليبرالية، أنه لا توجد قيمة للقيم المعنوية مثل الإنسانية والرحمة وإغاثة الملهوف وما إلى ذلك من مصطلحات الخير، فالمبدأ الأساس حرية جمع المال، ولا شيء مقدس يعلو على الربح والكسب.
قد يجادل البعض بأن هنالك أعمال خيرية وتبرعات يقدمها أشخاص ليبراليون، كما تقدم بعض الدول الرأسمالية مساعدات إنسانية للمنكوبين أو لمنظمات تطوعية، لكن عند التعمق في كل عمل على حدة، نجد أن الدوافع ليس الكرم ولا ابتغاء وجه الله، بل جني مكاسب اكثر مثل التبرع بقصد الإعفاء من الضرائب، أو الدعاية الإنتخابية، أو تشجعها الدول الاستعمارية المانحة بهدف التأثير على الدول المستضعفة لترسيخ تبعيتها لها وفرض شروطها عليها، كما أننا نجد دائما وعند التقصي عن سبب التبرعات السخية لبعض الأثرياء، أن هنالك دوافع خفية منها حالة الثريّ النفسية، عندما يشعر أن أمواله الطائلة ستؤول الى ورثة لا يحبهم، فيفضل أن يحرمهم ويكسب بثروته صيتا وسمعة.
طبعا كل ذلك مرتبط بغياب الإيمان ورفض تطبيق ما شرعه الله من أحكام اقتصادية تحقق عدالة اجتماعية، فلا توصل المرء أصلا الى الغنى الفاحش ولا الى الفقر المدقع، بل تضمن للمحتاج حياة كريمة، وللثري حياة هنيئة تخلو من الضنك والشقاء.
رغم كل ما أسلفنا من غياب قيم الخير الخالص من الرياء والمصلحية، إلا أن ما فطر البشر عليه من قيم أخلاقية جمالية، ومبادئ الميل الى الخيرية، لازالت في أعماق نفوس البشر، تسعدهم وتضيء عتمة الشقاء الذي ولدته قيم التصارع الليبرالية للإستئثار بالمنافع، والتي تبرر الطمع بمسمى النجاح، وتسوغ الجشع بمسمى الطموح.
من ضمن هذه النقاط المضيئة التي يحاولون الإجهاز على ما تبقى منها، هو مفهوم أن الطب مهنة أنسانية، ومن يمتهنونها ذوو نفوس سوية وأخلاق كريمة.
لذلك حدثت هزة وجدانية في نفوس الكثيرين لدى نشر خبر أن مدير مركز ” ميموريال سلون كيترنج” الأشهر في أمريكا لمعالجة السرطان، تبين أنه مرتبط بعلاقات تجارية مع شركات أدوية، مما يسيء الى الأمانة الطبية.
قبل ذلك حامت الشكوك حول قرار مؤسسة الغذاء والدواء الأمريكية، عندما حكمت بسلامة استخدام أحد مسكنات الألم الذي ثبت وجود مضاعفات له، ليتبين أن عشرة من الثلاثة والثلاثين عضوا لهم علاقة مالية مع الشركة المصنعة.
من جهة أخرى بينت دراسة أن 60 % من رؤساء الأقسام في المستشفيات التعليمية تربطهم علاقات مالية مع الشركات المصنعة للأدوية، كما أن 40 % من الباحثين قد تلقوا هدايا منها.
قد يتقبل المجتمع الفساد في كثير من المواقع، لكنه غير مقبول أبدا في القطاع الطبي، فالاستثمار المربح متاح لطالبي الثراء في كل الميادين، لكن يجب أن يكون متوافق عليه أن الاستثمار في صحة الإنسان: ألمه وشفائه أمر خارج المكاسب والأطماع، لأنه يتناول صحة الإنسان وسلامته، والذي يجب أن لا يكون عرضة للتسويق التجاري، لأن ذلك سيجعله عرضة للدعايات الترويجية المؤدية للتدليس، لأن العلاقة بين المريض والطبيب مبنية أصلا على الثقة التامة، بأن الطبيب يبذل قصارى جهده، وبغض النظر عن العائد المادي المتحقق للطبيب، فلا يقبل أن يكون شفاء المريض وسلامته خاضعة لموازين الربح والخسارة.
لكن الرأسمالية المتوحشة المتقنعة بصورتها التجميلية (الليبرالية)، لم تترك مجالا للإستثمار فيه إلا ودخلته، وأكثر ما وجدت فيه ربحاً هو الطب والمداواة، ولأنها لا تلتزم بأية ضوابط أخلاقية فقد حولت الطب الى تجارة بصحة الإنسان، وحولت المداواة التي ظل حكماء البشر منذ القدم يعتبرونها خدمة مجانية، الى استثمار بحياة البشر، فقد ثبت أن كثيرا من الأمراض الوبائية الوبيلة مثل (الأيدز والسارس وانواع الإنفلونزا المختلفة..الخ) هي من صنع مؤسسات صنع الأدوية والأمصال العالمية العملاقة، ولكي تسوق علاجاتها الغالية الثمن.
من هنا نجد أن تقديم أن الخدمة الطبية (على الأقل) يجب أن تكون مستثناة من الخضوع للقيم الليبرالية العامة، وأن تبقى أساسيات رعاية الإنسان بمنأى عن منطق جني الأرباح للمستثمرين الجشعين، وليتركوا صحة الإنسان وحياته التي هي منحة من الله للبشر، بعيدة عن أطماعهم.
يقول مثل فرنسي: “أكثر الناس حظا هم الأطباء، الله هو الذي يشفي وهم يقبضون الثمن”!. مقالات ذات صلة القسام تنفذ عملية مركبة ضد قوات الاحتلال في جباليا وتوقع عددا من الجنود قتلى وجرحى 2024/10/06
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: موقف عمومي هاشم غرايبه
إقرأ أيضاً:
أمين الإفتاء: مجتمع بلا رحمة يفقد صلته بالله
شدّد د. عمرو الورداني، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، على أن الرحمة ليست مجرد قيمة أخلاقية، بل هي الأساس الذي يُبنى عليه أي مجتمع إنساني سوي.
وأوضح أن المجتمع الذي يغيب عنه التراحم لا يمكن وصفه بالمجتمع الرباني، لأنه فقد أحد أهم المعاني التي أرادها الله في خلقه.
وقال الورداني في تصريح له، إن بداية تكوين الإنسان نفسه تنطلق من الرحمة، مستشهدًا بأن كلمة "الرحم" التي يولد منها الإنسان مشتقة من "الرحمة"، وهو ما يجعل الرحمة جزءًا أصيلًا من تكوين المجتمع من لحظة الميلاد.
وأضاف: "كما يبدأ القرآن الكريم بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، ينبغي أن يبدأ المجتمع أيضًا بالرحمة كمنهج وسلوك".
وأكد أن القرآن الكريم هو كتاب من كتب الرحمة، والمجتمع بدوره يجب أن يكون كتابًا آخر تتجلى فيه معاني الرحمة والمودة، مستشهدًا بقول الله تعالى: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب"، مشيرًا إلى أن المجتمع الذي يسير في طريق الله لا يقوم إلا على المحبة والتآلف.
وتطرق الورداني إلى التحديات التي تواجه العالم المعاصر، من تدهور في القيم إلى قسوة في العلاقات الإنسانية، معتبرًا أن هذه المظاهر علامات على سقوط حضارات لم تجعل الرحمة ضمن بنيانها.
وقال إن الحضارات التي تنسى البعد الإنساني مصيرها الزوال، مهما بلغت من تقدم مادي.
كما لفت إلى أن التحديات الكبرى مثل الأزمات البيئية والصراعات لا ينبغي أن تفصل الإنسان عن رحمته، بل هي فرص لإعادة اكتشاف معنى الرحمة في السلوك اليومي والمواقف الجماعية.
وأضاف: "الكون ليس ملكًا لنا وحدنا، بل هو لله، ونحن لسنا بمفردنا فيه.. الله معنا، وسبقت رحمته كل شيء".
وختم كلماته بالتأكيد على أن ما يدفع الإنسان للخير والدعاء والمساندة ليس إلا شعورًا داخليًا نقيًا بالرحمة، وهي التي تمنحه الكرامة، وتربطه بخالقه، وتمنعه من الانجرار خلف القسوة، قائلًا: "بدأنا من عند الله، وبدأنا بالرحمة، فهي التي تُبقي على إنسانيتنا حيّة".