لماذا نقوم بالعادات؟
م. #أنس_معابرة
هذا هو المقال الأول في سلسلة سأتحدث فيها عن #العادات، وتأثيرها على حياتنا، وستجد أن كل مقال يحمل فكرة منفصلة عن الأخرى، ولكن تكامل كل تلك الأفكار سيجعل منك انساناً مختلفاً، وستمتلك المعرفة اللازمة لاكتساب عادات حسنة، أو لتتخلى عن عادات سيئة.
اما بالنسبة للسؤال المهم وهو: لماذا نقوم بالعادات؟ فإن الجواب على هذا السؤال يحتاج منا إلى أن ندرك معنى العادة، وآلية عمل الدماغ.
أولاً: العادة سلوك نقوم به عدداً كبيراً من المرات بحيث يصبح القيام به عملية أتوماتيكية، لا تحتاج إلى تفكير.
ثانياً: يشكّل الدماغ ما نسبته 2% من كتلة جسم الانسان، ولكنه يستهلك ما متوسطه 20% من الطاقة التي يستهلكها الجسد بشكل عام.
ولو عدنا بالزمن إلى الانسان البدائي، لوجدنا انه كان يعتمد في طعامه على الصيد، وعندما يتناول وجبة؛ لا يعلم متى ستكون الوجبة التالية، فهو يشعر بالتهديد الغذائي طوال الوقت. وهنا برزت أهمية المحافظة على الطاقة، وتقليل معدل الاستهلاك منها، وهنا بالذات؛ يأتي دور العقل الباطن.
فالعقل يتكون من قسمين افتراضيين، العقل الباطن والعقل الواعي، فالباطن لا يحتاج إلى استهلاك الطاقة، وهو سجل كبير لجميع العادات المبرمجة ألياً بداخله، ولا نحتاج إلى التفكير عند استعماله. أما العقل الواعي؛ فهو الجزء الذي يستهلك الكثير من الطاقة عند استخدامه، ويتم ذلك عند المبادرة باتخاذ قرار، أو التفكير في سلسلة من العمليات التي تحتاج إلى تدبّر وتمحيص.
أي أن التفكير بالعادات يتم من خلال العقل الباطن، ولا نحتاج إلى التركيز من أجل القيام بعادة، وهو تماماً ما حصل معنا عندما قدنا السيارة لأول مرة، كنا بحاجة إلى التركيز على معايرة الكرسي والمرأتين الجانبيتين، والنظر إلى ما حول السيارة، بل ربما أطال البعض منا النظر إلى الدواستين لحين ما أدركت قدماه كيفية التفريق بينهما. ولكن كل ذلك انتهى بعد أن أصبحت القيادة عادة لدينا، فنجلس بالسيارة ونعاير الكرسي والمرايا ونشغل السيارة ونبدأ بالقيادة دون أن يأخذ ذلك حيزاً من تفكيرنا.
إن جواب السؤال المطروح في بداية المقال هو أننا نقوم بالعادات لكي تصبح حياتنا أسهل، ولكي يكون الدماغ مرتاحاً بشكل أكبر، ولكي نوفر الطاقة التي يستهلكها العقل الواعي، فهو يزيح عن كاهله عناء التفكير في تفاصيل العملية التي نود القيام بها في حال كان عادة مكتسبة.
هنا تكمن صعوبة تغيير عادة سلبية، لأن الدماغ يقاوم هذا التغيير، ولا يريد أن يعود إلى وضع الاستعداد والتفكير من جديد، فعندما تريد الإقلاع عن التدخين، أنت بحاجة إلى اخراج تلك العادة من العقل الباطن، ووضعها في العقل الواعي للتفكير في التبعات السلبية للتدخين مع كل سيجارة، هذا بالإضافة إلى التبعات السلبية وأعراض الانسحاب على الأجزاء الأخرى من الجسد.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: العقل الباطن
إقرأ أيضاً:
المشروع الفكري للراحل محمد عابد الجابري.. بنيته النقدية وسياقاته التاريخية
البنية العميقة لمشروع المرحوم محمد عابد الجابريرغم أني قد شاركت في الملف الذي خصص للكلام عن أهمية كتاب المرحوم المفكر المغربي محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي فإني قد عزمت على تقديم محاولة شاملة لبيان ما فهمته من عمل المرحوم كله اعتمادا على ما اطلعت عليه اطلاعا شبه كامل على مصنفاته لبيان موقفي وجوابي حول الأسئلة التالية:
1 ـ هل معيار الثالوث المستعمل: أي البيان والعرفان والبرهان كاف لتأسيس مشروع المرحوم، أي ما يسميه بنقد العقل العربي؟
2 ـ هل النقد التاريخي لأبعاد الحضارة كلها قابل لأن يكون بهذه البساطة لردها كلها إلى التأسيس على هذا الثالوث وذلك في:
3 ـ مستوى النظر والعقد (فلسفة المعرفة أو الابستمولوجيا) أو الفلسفة النظرية والمنطقية: موضوع العلم.
4 ـ ومستوى العمل والشرع (فلسفة القيمة أو الأكسيولوجيا) أو الفلسفة العملية والخلقية: موضوع السياسة.
5 ـ وكيف يمكن جبر الكسر بين الحضارتين الإسلامية والغربية بمعيار يقتصر على 1 و2 للجواب على أسئلة 3 و4 ؟
لذلك فإن الكلام في المعلوم من أعمال المرحوم محمد عابد الجابري لأني أريد الانتقال السريع لما وراءها أعني بنيتها الخفية من حيث هي مشروع كل فكره وأصل دافعه الذي جعله يصبح ممثلا لأزمتي النهضة العربية الإسلامية فكريا وسياسيا وخلقيا أي:
1 ـ في فلسفة النظر والعقد: مع ملاحظة أني أجمع بين النظر والعقد لأن العقد ليس مقصورا على الأديان بل الفلسفة النظرية تقول به بمعنى أن العلم طلب للحقيقة وثمرته الاعتقاد في ما يوصل إليه العقل من معرفة عقلية.
2 ـ وفي وفلسفة العمل والشرع: نفس الملاحظة أي أني أجمع بين العمل والشرع لأن الشرع ليس مقصورا على الأديان بل الفلسفة العملية تقول به بمعنى أن العمل لا بد فيه من طلب القيمة وثمرته السنن والقوانين الخلقية بحيث إن ما يوصل إليه العمل هو تحقيق القيمة المطلوبة؟
كان يكفي تغيير مفهوم نقد العقل وتعويضه بمفهوم نقد 'العقلية" أي الأساليب المميزة للفروق بين استعمالاته لكي يصبح مشروع الجابري متناسقا. وقابلا لأن يمثل مرحلة ضرورية في تاريخ فكر أي حضارة تريد استئناف دورها بإعادة تقييم ماضيها في المجالات التي أنجز فيها محاولته.3 ـ فتكون فلسفة الاجتماع والأخلاق هي ما يصل بينهما أي طلب الحقيقة الواقعة فعلا في النظر العلمي وطلب القيمة الواقعة فعلا في العمل والشرع ليكون لهما تاريخ قابل للتمييز بين حقبقه المتوالية والمتفاعلة لأن الكلام فيهما ذو صلة بها من حيث هي سياق فكر المؤلف.
4 ـ وذلك في البيئة الذاتية للحضارة الإسلامية كما وردت في رؤية المؤلف الذي أبحث عن بنية عمله العميقة.
5 ـ وأخيرا في البيئة المشتركة بين الحضارتين الإسلامية والغربية في الظرفية التاريخية الراهنة التي انطلق منها الجابري. وخاصة إذا كان الدافع الأعمق لمحاولتي قراءة عمله أعني جبر الكسر بين المشرق والمغرب داخليا (دحض المقابلة بين مغرب عقلاني ومشرق عرفاني) و والحد من حصر منزلة العقلانية بين الحضارتين العربية والأوروبية في دور ابن رشد وخاصة في بعدي النهوض الفكري والسياسي كمما تعينا في علاقة المشرق بالمغرب أولا وفي علاقة الإسلام بالغرب ثانيا.
فهذان الهدفان يمثلان شرطي ما سأحاوله لجبر الكسرين بين الفكر اليوناني والشرقي ماضيا والفكر الفرنسي والسكسوني حديثا. فهما الغاية المطلوبة في قرائتي النقدية لمشروع الجابري ككل وذلك باتجاهي التأثير والتأثر بينهما وإمكانية تجاوز هذه الأزمة الداخلية والخارجية في الحقبتين من تاريخ حضارتنا.
فيمكن اعتبار ذلك السياق التاريخي هو الذي جعل عمل الجابري يكون عملا يهدف إلى محاولة درس تاريخ الحضارة الإسلامية بمنطق هذه العلاقات التي قد تحقق شروط توحيد رؤيتها الفكرية والوجودية.
الفصل الأول.. عرض وجيز لمنجزات الجابري الفلسفية النقدية
1 ـ كيف يمكن أن نعرض الأعمال المنجزة بمقتضى عرض تصنيفي بصورة تبين استحالة ردها إلى الثالوث الذي اعتمده الجابري، أي إنه اهتم بفلسفة النظر وطبق عليها هذه الرؤية ثم بفلسفة العمل وطبق عليها رؤية ينسبها إلى ابن رشد أي تأسيس العلمانية الغربية أو قراءته لفصل المقال.
2 ـ التعليق على ما غاب من فكر ابن خلدون وصلته بقراءة لفكر ابن رشد. مقومات الفكر السياسي وعلاقة الشرعية بالشوكة التي تغني عن الكلام على العلمنة التي لا يكمن أن تتخلص منها من دون أن يؤصلها لأن فصل المقال لا تؤصلها.
3 ـ التعليق على الثالوث الفكري الفلسفي والسياسي والخلقي وعدم التمييز بين مفهوم العقل بوصفه نظام فعل الفكر ومفهوم "العقلية" باعتباره أسلوبه المعين لفعل العقل بمقتضى نظامه المحدد لطبيعة التفكير وليس بأسلوب استعماله المتعدد والمتعين في اختلاف أساليبه من حيث التكيف الوظيفي الذي هو "عقلية" وليس عقلا أو مجالات تطبيق فعل العقل التي نحدد في ضوئها اختلاف العقليات سواء في وصف أسلوب الفكر عند الفرد أو عند الجماعة دون تعميم الأول على الثاني.
4 ـ التعليق على علاقة الدين بالسياسة بصورة كونية كما حددها ابن خلدون وهي ثورة مختلفة تماما عما ينسب إلى ابن رشد وتأثيره في علمنة الغرب.
5 ـ وإذن فما مدى عكس ثالوث الجابري المصنف لفعالية العقل للوضعية الذاتية لحضارتنا ولا للوضعية الغربية في الانتقال إلى العلمانية، هل فكره يعكس حقيقة الوضعية التاريخية في الحالتين والوضعية الفكرية في الحضارة الإسلامية والغربية؟
وبإجمال هل ما قدمه المرحوم يكفي الثالوث الفكري الذي هو جوهر نقده للعقل لفهم الظاهرة الحضارية المعقدة التي تشمل المجالات الثلاثة التي كتب فيها نقده أم إن له أسس إضافية لنقد السياسة والأخلاق اللتين يعسر أن نقبل ردها إلى خصائص شعبين (العرب والفرس) داخليا فضلا عن أن يكونا مقبولين عالميا؟
ومن ثم فهي ليست حلا حقيقيا لإشكالية جبر الكسر بين الماضي والحاضر عندنا ولا بين الشرق والغرب لأن شعوب الأمة ليسوا العرب والفرس وحدهما بل لعل شعوبا أخرى أسهمت بما قد لا يبقي على جعل التاريخ الفكري والحضاري للأمة مقصورا على مبارزة بين العرب والفرس. وإذن فالحضارة الفكرية والسياسية والخلقية فيهما لا يمكن أن ترد إلى هذين الشعبين لكأن غيرهما لم يكن له دور في البنية المعقدة للحضارة الإسلامية التي لها مرجعية شديدة التعقيد هي دور الإسلام في جعلها شبه سمفونية هي التي تجعله لا يرد إلى روح الشعب العربي وروح الشعب الفارسي ولا تؤمن بأرواح الشعوب وبالرؤية الفلسفية الأرسطية والرشدية والهجلية.
الفصل الثاني .. بنية عمله العميقة وشروط تطويرها
لذلك فما سأقدمه في محاولة فهم عمل الرجل الفكري بحث في هذه الإشكالية المعقدة، وهو موقف من فكره عامة يثبت أن مشروعه ليس مقصورا على هذا الثالوث بمحاولة الوصل بينه وبين ما مكنه من الكلام في السياسة والأخلاق والدين ما يبين سر انفتاحه على قبول التعدد الفكري الذي حرره من المعارك الزائفة مع نقاده.
لذلك فلن أطيل في عرض أعماله التي كلنا يعلم أنها معلومة للجميع وأنها مكتوبة بأسلوب في متناول القارئ العادي لخلوها من كثرة التكلف الإصطلاحي غير الضروري.
ما سأتكلم فيه هو النظر في بنية فكره العميقة ودوافعه التي جعلته يعالج تلك القضايا بالذات طلبا لما يوحده في تكوينية بعدين يغلبان عليها:
1 ـ طلب نسق الأساليب التي سادت في فكر الحضارة العربية الإسلامية التي حصرت في دور شعبين العرب والفرس.
استعمال المقابلة بين العقل من حيث هو عاقل والمعقول من حيث هو ثمرة فعليه كما جاء في مؤلف معجم الفلسفة الفرنسي لا يمكن أن يطابق بين عاقلية العقل ومعقولية المعقول لأن الأولى هي جوهر فعله وقوانيه وهي المنطق. والثانية ثمرة فعله التي هي حكم على مدى الاستجابة لشروط قوانين المنطق فيكون المنطق كافيا لضمان العلمية حصرا فيه دون شروط ميتافيزيقية..2 ـ وتصيد ما يعتبره قد أثر في الفكر الغربي جبرا للكسر بين فكرنا الحالي وفكرنا الذي آل بالأمة إلى الانحطاط. وذلك في المجالات التي عالجها المرحوم:
3 ـ فلسفة النظر والعقد أو نقد العقل النظري: علاقة العقل من حيث هو عاقل والمعفول من حيث هو معقول. هل تعدد الثاني يعني تعدد الأول فيكون العقل متعددا مثل المعقول ردا للعقل إلى "العقلية" أو الأسلوب المظنون غالبا في حضارة من الحضارات؟
4 ـ فلسفة العمل والشرع أو نقد العقل العملي: نقد السياسة هي نقد السياسات المتعددة يعني قوانين السياسة متعددة أم هي كما بين ابن خلدون ذات قوانين كونية وإن كان تحقيقها متغيرا بحسب الظرفيات التي تمدها بشروط إمكان تطبيق قوانينها؟
5 ـ فلسفة الأخلاق أو نقد أم القيم: هل يمكن رد الأخلاق التي يتصف بها الفرد الإنساني إلى رؤية جماعية للأخلاق فتكون مجرد عادات الجماعة وليس دلالتها الروحية التي لا تكون إلا فردية لأن السرائر بعدد الأنفس. كيف تكون أخلاق العرب واحدة وكذلك الفرس بحيث يصف الجابري كلتيهما بما يجعل ما في إحداهما عاما والخلو مما في الأخرى؟
ويمكن أن نعتبر البدائل التي مارسها الجابري في أعماله الثلاثة لأن تفسيره للقرآن وهو عمله الرابع مستمد من هذه الرؤية: فما هي البدائل وهي لا تقبل كلها الرد إلى العلم البرهاني وتكون منقوصة في العرفاني والبياني؟
وأخيرا فإن النتيجة التي توصل إليها في أعماله الكاملة عدم تعلقها بالفلسفة الغربية الحديثة المسكوت عنها في فكره إلا في محاولة هامشية لا يصدقها تاريخ النهضة الغربية بحصر دور الحضارة الإسلامية فيها في ما ينسبه إلى ابن رشد لجبر الكسر بين الثقافتين العربية الإسلامية والغربية المسيحية حصرا في دور ابن رشد في التحديث الفاصل بين الديني السياسي. فلا نجد أدنى مقارنة مع تجارب غربية تبين المشترك بين الحضارات إذا سلمنا بأن لها هي بدورها قوانين كونية، وهو تسليم بنى عليه ابن خلدون نظريته في المقدمة كما تتضح من عنوانها ناهيك عن بنيتها رغم غلبة التمثيل لنظريته بالتاريخ الإسلامي ليس حصرا فيه بل لأن كل حضارة يمكن أن تكون معين التمثيل لأن الكلام يدور حول الكلي المشترك في الحضارات من حيث هي موضوع علم.
الفصل الثالث.. طريقة النقد في المجالات الخمسة التالية
فيكون المرحوم بذلك تلميذ ابن خلدون دون منازع ولكن باختزال فلسفته بصورة جملية في نظرية العصبية. وفي ذلك ربط يصل بين أطروحته وأعماله التي تعتمد النقد التاريخي للحضارة العربية الإسلامية بهدف الكشف عما يعتبره علة الانحطاط الذي يريد بيان السبل للخروج منه. وبهذا المعنى فعلاجه ليس للفكر النظري فحسب بل كذلك للفكر السياسي والخلقي. وهو من ثم لكأنه يصل بين ابن رشد والحداثة الغربية في الفكر الفلسفي النقدي الغربي وبين ابن خلدون والحداثة الغربية في الفكر السياسي النقدي الغربي.
لكن تأثره بالفكر الغربي جعله يميل إلى نهج هيجلي مع يسارية معتدلة جعلته بنحو ما يبتعد عن الخلدونية التي يبدو وكأنه يقصرها على العصبية. لكن ابن خلدون يؤمن بأرواح الشعوب بل بظرفياتها الطبيعية التي تحدد ما يسميه بنحل العيش(المناخ والغذاء خاصة) في حين الجابري كما بين من المقابلة بين المشرق والمغرب وبين العري الفارسي يقول بأرواح الشعوب. والجابري نهجه يعتمد على التفسير في كل تصوراته بأرواح الشعوب ما جعله يخلط بين "العقل الذي هو فعل الإنسان من حيث هو ناطق غير ثمرته التي هي حصيلة مستواه في النطق وفي دوره في عادات الجماعة وتلك هي العقلية" لكأننا نتكلم على وحدة المنطق وتعدد الألسن فيكون العقل ذا منطق واحد والعقلية تعين ثقافي متعدد بتعدد الألسن.
فالفرق بين العقليات من جنس الفرق بين نحل العيش الخلدونية وعاداتها لأنها متعلقة بالتكيفات مع الظرفيات الطبيعية والثقافات الناتجة عنها بخلاف الفرق بين العقول إن سلمنا به يجعل الفرق في طبيعة العلاقة بين المنطق واللسان ومن ثم مطابقة لما يسميه هيجل أرواح الشعوب. ومن ثم فعمله يبقى مناسبا للأزمة الحضارية الإسلامية إذا أرجعنا قصده بالعقل "العقلية" أي عادات استعمال العقل إذا تسامحنا فلم نميز بين العقل المجرد وصورته منطقية واستعماله العيني وصورته لسانية.
وصحيح أن اليونانية تسميهما بنفس الاسم لكن أرسطو يميز بين العقلي واللساني بجعل ما يوصف بكونه عقليا من صفات الإنسان من حيث هو ناطق هو تحرير المفهومات التي يعمل بها العقل قد تقال باللسان لكنها لا تقال به إلا بعد تحريره من المرجعية المعجمية التي تختلف عن المرجعية المنطقية التي لا بد أن يكون القول اللساني للمنطق وحيد الدلالة بخلاف القول الطبيعي متعددة. وذلك هو حسب تعريفاته مدخل السوفسطائة.
وما ذكرت هذه المعاني إلا لأنها كانت منطلق علاقتي به وثقتي في تفتح الجابري وقبوله للاختلاف.. ورغم أني قد نقدته بصرامة لم أتهيب من طلبي أن يكون عضوا مقررا في مناقشة رسالة الدكتوراه لكي يكون عضوا في لجنة تقييم عملي لأني كنت أثق في أمانته العلمية وموضوعيته التي تجعلني أطمئن لتحكيمه مع زميل فرنسي مختص في الكندي خاصة والفلسفة العربية عامة.
والغالب عليه موقفه من نقاده الذي يتجنب الرد عليهم وهو دليل واضح على أنه لا لا يفعل هروبا من الرد أو ازدراء للمخالف بل إيمانا منه بالتعددية الفكرية بمعنى أنه لا يطبق عليهم ثالوثه ولا يفرضه على أحد جوهر مشروعه الذي يراه وصلا معقولا بين الماضي والحاضر لجبر الكسر في تاريخنا الفكري والسياسي.
فيكون الأساس العميق لعلاجه هو سياق الفكر التاريخي في الحضارة العربية الإسلامية الذي تعلق بها فكر المرحوم وانتاجه النقدي الفلسفي النظري والسياسي والخلقي.
الفصل الرابع
وحصره في الشعارين: من صاحب البضاعة الفكرية المؤثرة في تاريخ الفكر في الحضارة الإسلامية أولا ثم في علاقتها بالحضارة الغربية ثانيا. ويمكن وصف النقد بكونه كان رد فعل على شعارين:
1 ـ أحدهما خاص بالثقافة العربية الإسلامية وتحديد علاقة المشرق بالمغرب: شعار المشرق في رؤيته للمغرب: بضاعتنا ردت إلينا بدور ابن رشد في تمثيل الحضارة الإسلامية ككل لدى الغرب.
2 ـ والثاني يتعلق بالثقافة الغربية المسيحية بالثقافة وهو من جنس بضاعتنا ردت إلينا أي إن نفس الشعار يتأسس على الدور الذي ينسبه إلى ابن رشد في النهضة الغربية. فتكون وظيفة الشعار بيان فضل دور للمغرب العربي في المشرق أولا وفي الغرب ثانيا.
فالشعار كان شعارا مشرقيا وهو محاولة رد النهضة الغربية إلى تأثير الحضارة العربية عامة لكن الجابري جعله مغربيا حصريا بتوسط العقل الرشدي والمدرسة المغربية حتى في الفكر الكلامي والمقاصدي، لكأن الهدف هو بيان فضل العقل في المغرب الإسلامي هو المؤثر في العقل الغربي الحديث فيعمق الفجوة بين بين مشرق الحضارة الإسلامية ومغربها الفكر العربي الإسلامي برؤية هيجلية لتاريخ الفلسفة وتاريخ علاقتها بالإصلاح الديني والسياسي في الغرب.
وهو أمر مناف للحقيقة التاريخية لأن الرشدية ليست مستقلة عن مسار الفكر الفلسفي العربي بل هي بنته إذ إن المشائية والاقلاطونية بميتافيزيقاها ومنطقها ودورها في العلوم والرؤى الوجودية للفلاسفة المشرق. يصح ذلك أكثر في مجال الفكر الديني إذ إن ابن حزم وابن العربي المتكلم وحتى المقاصدية فهي مشرقية المنبع.
وطبعا فلا يمكن أن يرد عمله إلى مجرد رد فعل على شعار يحدد رؤية المشرق للمغرب في الحضارة الإسلامية قبل الاتصال بالغرب ثم بعده: "نظرية هذه بضاعتنا ردت إلينا" ومحاولته تجاوزها في مستوى النظر والعقد والعمل والشرع بطريقة مختلفة عن الطريقة الخلدونية رغم كونه مختصا في فكر ابن خلدون:
1 ـ فالطريقة الخلدونية عالجت هذا الشعار بالبحث في علتها وشروط تجاوزها بوصلها بالعمران البشري والاجتماع الإنساني فجعلها مسألة كونية وليس خاصة بالحضارة العربية الإسلامية. فيكون علاجا كونيا ولا يتعلق بنقد العقل بل بنقد نحلة العيش.
(انظر الفصل الثاني من الباب السادس بعنوان في أن تعليم العلم من جملة الصنائع حيث يعلل الفرق بين المشرق والمغرب فيرده إلى مسألة تخلف العمران بعد سقوط الأندلس وتخلف نظام التعليم في المغرب الإسلامي ردا على من ظنه ناتجا عن فرق طبيعي ذي صلة بالتمايز في القدرات العقلية: إذ حتى لو صح ثالوث الجابري فإنه لا يفسر الأمر لأنه ينطبق على المغربي الإسلامي انطباقه على المشرق الإسلامي).
2 ـ لكن المرحوم الجابري أهمل الحل الخلدوني للإشكالية وأراد تجاوزها برؤية عائدة إلى الماضي اليوناني والعربي انطلاقا مما ظنه قد حصل حتى قبل ابن خلدون عند ابن رشد: أي الرشدية الأرسطية التي أثرت في الغرب ومن ثم بالشعار انقلب منذ ابن رشد فوجب اعتبار أصحاب البضاعة هم أهل المغرب الإسلامي وليس المشرق الإسلامي.
لكن الوقائع التاريخية تثبت العكس حتى في ما طرأ بفضل الحضارة الغربية إذ أن التأثر بالغرب في المغرب جاء عن طريق المشرق بمعنى أنه بقي مؤثرا حتى في الثقافة الحديثة ـ لأنه هو نفسه وأحد نقاده الأستاذ طه عبد الرحمن كلاهما شيوخهما من المشرق وصلتهما المباشرة بالغرب تالية عن تكونهما الأساسي وهما يشتركان في القول بالتثليث وإن بترتيب مختلف ـ الأعلى عند الجابري هو البرهاني والأعلى عند عبد الرحمن هو العرفاني- أي إن شعار بضاعتنا ردت إليها بقيت مشرقية وليست مغربية مع تأثر بالهيجلية في تصنيف الحضارات وتفسيرها بأرواح الشعوب والخصوصيات العرضية. وإذن فسياق الفكر التاريخي لا يكتفي بالعلاقة بين المشرق والمغرب الإسلاميين بل هو يضيف إليهما الوصل بين الماضي والحاضر في استعمال الشعار في الاتجاهين جيئة وذهابا بين شقي الحضارة الإسلامية وبين الحضارتين في الماضي وفي الحاضر. إنه السياق الفلسفي في النظر والعقد وفي العمل والشرع وهو فلسفة النظر وفلسفة العمل ويتعلق بالنظر والعقد وبالعمل والشرع أي الفلسفة والدين كما أصبحا في الغرب بعد العلاقة بين النقد الكنطي ونقده الهيجلي.
الفصل الخامس والأخير
وهكذا إذن فالأمر لا يتعلق بأعماله فحسب بل وكذلك بأعمال كل من نقدوه. فالأعمال التي نقدت منجزاته رغم نجاحها الباهر في تغيير العلاقة بين المشرق والمغرب الإسلاميين فصار فكره التيار الغالب فانعكس شعار بضاعتنا ردت الينا بمعنى أن فكره صار مرجعية الكلام في الرؤية الفلسفية والسياسية والخلقية عند جل النخب العربية من بعده.
يمكن القول إن الجابري قد صالح بين الإسلام والموقف اليساري في كل العالم العربي. ولعل ذلك هو سر انتشار فكره كالنار في الهشيم بين "التقدميين" الذي لم يبقوا معادين للإسلاميين. فأكثر المقبلين على فكره السياسي من القوميين غير المرتبطين بالعلمانية المشطة التي من جنس علمانية اليعقوبية الفرنسية وهم أقرب إلى العلمانية الألمانية.ونظير ذلك حصل في سياق الفكر التاريخي الذي نقد أعماله في العمل والشرع سياسة وأخلاقا. وفي هذه اللمحة أريد ذكر ما يقد يعجب له الكثير رغم أنه من دونه يستحيل فهل دوره السياسي وخصائصه يمكن القول إن الجابري قد صالح بين الإسلام والموقف اليساري في كل العالم العربي. ولعل ذلك هو سر انتشار فكره كالنار في الهشيم بين "التقدميين" الذي لم يبقوا معادين للإسلاميين. فأكثر المقبلين على فكره السياسي من القوميين غير المرتبطين بالعلمانية المشطة التي من جنس علمانية اليعقوبية الفرنسية وهم أقرب إلى العلمانية الألمانية.
فيبدو تمثيله لليسار شكلا متطورا من اليسار الإسلامي الذي أسسه حسن حنفي محاكاة للصلح بين المسيحية والماركسية في أمريكا اللاتينية. ولكن بلون جديد أساسه الجمع بين القومية العربية والإسلام الذي أمد القومية المشرقية بالتأسيس الفلسفي على رؤية رشدية فيكون ابن رشد هو الذي يمثل قلب نظرية بضاعتنا ردت إلينا المشرقية بما نسب إليه من دور في الحضارة الغربية الحديثة دون أن يكون بحاجة إلى نفي الشريعة بقراءة حسن حنفي التي تعتمد على تحويل تثوير العقيدة التي تؤدي إلى الإلحاد الألماني في تأويل الهيجلية: فيورباخ.
الملاحظة الأساسية هي أن العائقين في مصدر البضاعة ولمن تعود لم يحسم وكان ينبغي ألا يطرح لأن التفاعل بين الحضارات في كل الاختصاصات الفلسفية كونية بالجوهر والجميع أسهموا فيها وهي في العصر الذي كتب فيه الجابري نقده كانت بالجوهر غربية لا تعترف إلا بما تسميه المعجزة اليونانية والمعجزة الأوروبية وتنكر أن يكون لمن تقدم على اليونان ولم توسط بينهم وبينها دور حقيقي: تنوع التأثر المشرقي بالغرب مع غلبة الفرنسي بسبب المرور بالشام ومصر، وبغلبة السكسوني لاحقا بسب المرور بالعراق ومصر ثم الخليج حاليا.
الخاتمة.. أصناف النقد التي طبقها نقاد عمل الجابري
كان يكفي تغيير مفهوم نقد العقل وتعويضه بمفهوم نقد 'العقلية" أي الأساليب المميزة للفروق بين استعمالاته لكي يصبح مشروع الجابري متناسقا. وقابلا لأن يمثل مرحلة ضرورية في تاريخ فكر أي حضارة تريد استئناف دورها بإعادة تقييم ماضيها في المجالات التي أنجز فيها محاولته. فاستعمال المقابلة بين العقل من حيث هو عاقل والمعقول من حيث هو ثمرة فعليه كما جاء في مؤلف معجم الفلسفة الفرنسي لا يمكن أن يطابق بين عاقلية العقل ومعقولية المعقول لأن الأولى هي جوهر فعله وقوانيه وهي المنطق. والثانية ثمرة فعله التي هي حكم على مدى الاستجابة لشروط قوانين المنطق فيكون المنطق كافيا لضمان العلمية حصرا فيه دون شروط ميتافيزيقية هي ما تتميز به التحليلات الثواني (شروط تطبيق المنطق ليتحقق العلم) عن التحليلات الأوائل (المنطق الصوري).
فلا يمكن القبول بالكلام على البرهان العلمي من دون الانتقال من المنطق الصوري إلى المنطق المطبق. والشروط الميتافيزيقة التي تحقق هذه النقلة كلها ليست برهانية ما يعني أن البيان والعرفان المؤسسين متقدمان على المنطقية الخالصة التي لا تقبل المطابقة الاستدلالية إلا لما تستعمل على الرموز التي لا تحدد مادة الاستدلال العينية فيكون تحديدها حجاجيا وليس برهانيا: بداية وغاية. فالبداية هي مبدأ ضرورة منع التسلسل والدور والغاية هي مبدأ ضرورة تحديد هويات المادة التي تعوض الرموز في الاستدلال الصوري.
ومن ثم فالنتيجة التي توصلت إليها بقدر الجهد هي أن كل هذه المحاولات النقدية لمشروعه قاصرة لأنها لم تنطلق مما يوحد بين مسائلها فيؤسس لمشروعيتها التي تستمدها من دون وجاهتها.
فما دام قد قصره على نقد لم يتجاوز مشروع توحيد التراث الإسلامي في المجالات التي وصفت أي الابستمولوجي (نظرية المعرفة في النظر والعقد) والأكسيولوجي (نظرية القيمة في العمل والشرع) ببعدي كليهما أي طبيعة الحقيقة وطبيعة منهج الوصول إليها وطبيعة القيمة وطبيعة منهج الوصول إليه. وما عدى ذلك مماحكات بين أصحاب مشروعات متنافسين.