كانت كلمات وأمنيات الرئيس " السادات" "الله يرحمه" أن تكون حرب أكتوبر 1973 هى أخر الحروب بين "مصر والعدو الصهيونى"، أملًا فى الشيطان أن يؤمن بالله واليوم الأخر !!
ولقد كانت لإسرائيل (كذبة كبرى) صدقتها حينما إستطاعت أن تضرب قواتنا ومطاراتنا صباح يوم 5 يونيو 1967 ولم يدخل الجيش المصرى الحرب مواجهة "لإسرائيل" إلا بعد هذا اليوم الأسود، وهى ما سميت بحرب الإستنزاف، منذ 10 يونيو 1967، حتى معاهدة )روجرز) ثم العمليات التى بدأت تمويهية للإعداد للحظة الحسم يوم الإثنين
6 أكتوبر1973  الساعة الثانية ظهرًا.


لقد عشت أيام وشهور وسنوات حرب الإستنزاف بكل حذافيرها كجندى ثم عريف مؤهلات عليا ثم ضابط إحتياطى فى الجبهة بمنطقة ساحل (سفاجا والغردقة) وشمال البحر الأحمر حتى السويس، عشت هذه المرحلة مشاركًا فى الإعداد الحاسم للمعركة تحت قيادة المرحوم (فريق محمد  فوزى) والمرحوم (اللواء/سعد الدين الشاذلى) والمرحوم اللواء (محمد الجمسى).
كانت القوات المسلحة يعاد بنائها بكوادر من شباب مصر خريجى الجامعات المصرية والذين كانوا فى أوائل المتطوعين للإستعداد لرد الشرف والكرامة المصرية، ولقد كان، إستوعبنا السلاح والخطة، وإستطعنا بعد طول إنتظار (6 سنوات) أن نطلق مع أول طائرة عبرت القناة وأول دانة مدفع ضربت (خط بارليف) وأول جندى يمتطى (الطوف للعبور إلى الضفة الشرقية) مع زملائه بصرخة " الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر" وبدأت خطوات الإنتصار.
ولكن إستوقفنى ما حدث، وجاء فى كتاب "البحث عن الذات" للرئيس الراحل (محمد أنور السادات).

يقول الرئيس السادات فى كتاب " البحث عن الذات" 
اتضح لى أن القمر الصناعى الأمريكى الذى كان يوصل المعلومات لإسرائيل ساعة بعد ساعة،أخبرهم بنقل الفرقة المدرعة ٢١ من الضفة الغربية للقناة إلى الضفة الشرقية لمحاولة تخفيف الضغط على سوريا كما طلب وألح الرئيس السورى حافظ الأسد وأقر هنا للتاريخ ان الاتحاد السوفيتى الذى يدعى وقوفه مع الحق العربى 
لم يبلغنا بشىء بواسطة اقمارهم الصناعية التى تتابع المعركة لحظة بلحظة
ثم حدث تطور خطير بدأت أشعر به،و انا أتابع الحرب من غرفة العمليات 
لقد استخدم الجسر الجوى الأمريكى لنجدة إسرائيل مطار العريش لنزول الطائرات الأمريكية العملاقة التى تحمل الدبابات وكل الأسلحة الحديثة والعريش تقع خلف الجبهه
و بدات الاحظ تطورا خطيرا فى معارك الدبابات التى اعترف الإسرائيليون أنفسهم بشراستها وكفاءة المصريين فى إدارتها 
كنت كلما أصبت لإسرائيل ١٠ دبابات أرى مزيدا من الدبابات 
لقد دخلت أمريكا الحرب لإنقاذ إسرائيل بعد النداء المشهور ـ إنقذوا إسرائيل ـ فى اليوم الرابع من المعركة
و هى تستخدم بكل صراحة مطار العريش المصرى الذى يقع خلف الجبهة بكل وضوح لكى تحول الهزيمة الإسرائيلية إلى انتصار 
و تذكرت فى تلك اللحظات ما فعلته أمريكا على جبهة ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية ثم على الجبهة اليابانية
أما التطور الثالث والخطير،فهو أن أطلق صاروخان على بطاريتين مصريتين للصواريخ فعطلا البطاريتين تعطيلا كاملا. 
و عرفت بعد ذلك أنه صاروخ امريكى جديد يسمى القنبلة التلفزيونية 
و أنه كان لا يزال تحت الاختبار فى أمريكا، فــ أرسلته لنجدة إسرائيل
لقد دخلت أمريكا بشكل مباشر الحرب لإنقاذ إسرائيل حتى بالأسلحة تحت الإختبار 
و قنبلة المافريك وأسلحة أخرى.و انا أعرف امكانياتى وأعرف حدودى..لن أحارب أمريكا ولذلك بعد عودتى من غرفة القيادة 
كتبت للرئيس الأسد شريكى فى القرار برقية أخطره فيها أنى قررت الموافقة على وقف إطلاق النار..و سجلت فى هذه البرقية موقفى.
و هو أنى لا اخاف من مواجهة إسرائيل، ولكنى أرفض مواجهة الولايات المتحدة الامريكية
و إنى لن أسمح أن تدمر القوات المصرية مرة أخرى فى حرب غير متكافئة 
و إننى مستعد أن احاسب أمام شعبى فى مصر وأمام الأمة العربية عن هذا القرار
و فى هذه الليلة اتخذت القرار بوقف إطلاق النار فقد كان لى عشرة أيام أحارب فيها أمريكا وحدى بأسلحتها الحديثة التى لم يستخدم أغلبها من قبل على الساحة العسكرية
و كان الموقف على غير ما يتصوره العالم كله..
و اتهمت من بعض الدول العربية انى جبان وقتها
فقد كان اعتقاد الجميع فى العالم أن الاتحاد السوفيتى يقف إلى جانبنا،
و أنه قد أرسل الجسر الجوى لنجدتنا 
و لكن الموقف كان غير ذلك فى الواقع 
فــ أمريكا وإسرائيل فى مواجهتى 
و الاتحاد السوفيتى فى يده الخنجر ويجلس وراء ظهرى 
ليطعننى فى أى لحظة عندما أفقد ٨٥ % أو ٩٠ % من سلاحى كما حدث فى سنة ١٩٦٧
لكنى قرأت مخططهم جيدا ولن أترك لهم أولادى
لقمة سهلة 
وكان هذا سرد لما حدث أثناء حربنا مع "إسرائيل" أكتوبر 1973.
رحم الله بطل الحرب والسلام والعزة والكرامة وجعل مثواه الجنة آمين يارب???? ورحم الله الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر" الذى تحمل فى سبيل شعب "مصر" كل ألوان القسوة رغم أنه من أعد لهذه الحرب وأعد القوات المسلحة بعد أن تم مراجعة أسباب النكسة.
وكانت ورقة 30 مارس 1968، تصحيحًا للمسار الذى بدأنا منه خطوات لرد الكرامة.
نتذكر هذه الأيام الخالدة ونحن نبكى ما يحدث فى (غزة، ولبنان ) وندعوا الزمن يعود للوراء.

أ.د/حماد عبد الله حماد.

المصدر: بوابة الفجر

إقرأ أيضاً:

نصف مليون جندي و8 ملايين طن من القنابل.. لماذا هُزمت أمريكا في فيتنام؟

يمانيون../
تتدفق المروحيات فوق مبنى السفارة الأميركية في مدينة سايغون، عاصمة فيتنام الجنوبية، بينما يتزاحم تحتها آلاف الباحثين عن منفذ خروج من المدينة التي سقطت في يد المقاتلين الشيوعيين من فيتنام الشمالية، في مشهد كان أشبه ما يكون بسباق محموم ضد الزمن والمصير.

نصف مليون جندي و8 ملايين طن من القنابل.. لماذا هُزمت أميركا في فيتنام؟
لقد كانت تلك اللحظة من صباح 30 أبريل/نيسان 1975، آخر ما يفصل أكبر قوة عسكرية في العالم عن اعتراف صامت وغير معلن، لكنه مدو وصاخب في الوقت نفسه، بالهزيمة في أوضح صورها.

ومع إقلاع المروحية الأميركية الأخيرة مبتعدة عن سايغون بمن أمكنها حملهم، أُسدل الستار على واحدة من أطول الحروب في القرن الـ20، لتنهي الولايات المتحدة صفحة دامية في تاريخها وسط مرارة وانكسار، لم تعرف لهما مثيلا منذ تأسيسها.

ورغم مرور نصف قرن على مشاهد سايغون، لا تزال الحرب الفيتنامية واحدة من أكثر الحروب الحديثة تناولا بالدراسة، ومحور عديد من الأدبيات العسكرية، التي سعت إلى تفكيك أسباب فشل قوة عظمى بحجم الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية، وإخضاع خصم أقل منها بكثير رغم الفارق الهائل في الإمكانات والموارد ورغم سنوات الحرب الطويلة.

ومع أن الروايات الأميركية فرضت هيمنتها على مجريات التأريخ والتحليل في ما يخص تلك الحرب، فإن ذلك لم يمنع من اعتبارها نموذجا ملهما لحركات التحرر عبر العالم، ودرسا بليغا في كيفية انتصار طرف محدود الموارد على خصم متفوق عسكريا وتقنيا واقتصاديا.

ويعد هذا الدرس مهما بشكل خاص بالنظر إلى حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، التي تخوض فيها المقاومة الفلسطينية والشعب الغزي الأعزل مواجهة ضد الآلة العسكرية الإسرائيلية المتفوقة المدعومة من قبل الولايات المتحدة والقوى الغربية.

لقد طرحت حرب فيتنام سؤالا جوهريا عن سر هزيمة الولايات المتحدة في تلك الحرب، وهي هزيمة ثبت أن أسبابها تتجاوز الأخطاء العسكرية البحتة إلى سوء فهم أميركي متأصل للواقع الذي دارت فيه الحرب وانفصال معرفي جسيم عن الواقع.

لقد خاضت واشنطن حربا على عدو لم تفهمه، في بيئة لا تدرك تعقيداتها، بحسب ما عبرت عنه الصحفية الأميركية الحاصلة على جائزة “بوليتزر” فرانسيس فيتزجرالد، في كتابها “حريق في البحيرة.. الفيتناميون والأميركيون في فيتنام”، حين وصفت مأساة “الغربة المعرفية” الأميركية تلك بقولها: “إن الأميركيين تاهوا بغباء في تاريخ شعب آخر”.

عدّاد الجثث

ولعل أول مظاهر الغياب المعرفي يتجسد في فشل أميركا في استيعاب الطبيعة الخاصة للحرب التي خاضتها، حيث واجه جيشها تمردا مسلحا وحرب عصابات طويلة النفس، استحال خلالها الحسم عبر معركة فاصلة واحدة أو من خلال احتلال عاصمة العدو، وفق الأنماط التي اعتادت عليها الجيوش النظامية.

ومما زاد من تعقيد المهمة أن الفيتناميين نجحوا في المزج بين تكتيكات حرب العصابات والقتال التقليدي المنظم عبر مراحل مدروسة، إلى جانب بذل جهود دبلوماسية، للاستفادة من اضطرابات الجبهة الداخلية الأميركية وانقسامات القوى الكُبرى (استفاد الثوار الفيتناميون من الدعم السوفياتي)، بما أتاح لهم تعظيم مكاسبهم في الميدان والسياسة معا.

في المقابل، وفي مواجهة ضبابية الميدان، لجأت القيادة العسكرية الأميركية إلى سلسلة من التكتيكات والإستراتيجيات التجريبية، لكنها سرعان ما أثبتت قصورها. منها اعتمادها عمليات “البحث والتدمير” الاستنزافية، القائمة على تمشيط الأدغال والقرى واستخدام القوة النارية غير المتماثلة لسحق الخصوم، مع تكثيف القصف الجوي لقطع خطوط الإمداد القادمة من الشمال عبر لاوس وكمبوديا.

وبالتوازي مع ذلك، ابتكرت القيادة الأميركية مقياسا إحصائيا غريبا لقياس التقدم العسكري، عُرف بـ”عدّاد الجثث”، استند لفرضية أن تكبيد المقاومة أكبر قدر من الخسائر البشرية سوف يؤدي في النهاية إلى إنهاكها وكسر إرادتها.

وشملت الممارسات الأميركية أيضا تكتيكات الحرب النفسية، مثل إلقاء ملايين المنشورات واستخدام مكبرات الصوت المحمولة جوّا، لبث رسائل التهديد والذعر في صفوف الفيتناميين.

لكن تبقى أكثر ممارسات الحرب النفسية الأميركية إثارة للجدل هي ما عُرف باسم “عملية الأرواح المتجولة” وتضمنت قيام القوات الأميركية ببث تسجيلات لأصوات بشرية مذعورة ومشوهة، تحاكي أصوات أرواح متخيلة، بغرض إثارة الخوف والارتباك في صفوف الفيتناميين وتقويض معنوياتهم، وإجبار مقاتلي “الفيت كونغ” على الفرار مستغلة اعتقادهم في معاناة الأرواح التي لا تُدفن بشكل لائق.

كانت فيتنام حقلا لتلك التجارب الأميركية وغيرها، لكن رغم تنوع الأساليب، فإن الواقع الميداني ظل عصيا على الأميركيين، فعدّاد الجثث، على سبيل المثال، سرعان ما تحوّل إلى فخٍّ قاتل، إذ دفع الوحدات الأميركية إلى السعي المحموم وراء تحقيق أرقام مرتفعة للقتلى بأي طريقة، حتى لو كان ذلك بارتكاب المذابح في صفوف المدنيين، مما عزز من كراهية السكان المحليين للجيش الأميركي وأفقده فُرص التعاون معهم وكسب ولائهم.

ومن جهة أخرى، شجّعت هذه السياسة على المبالغة المتعمدة وتقديم أرقام مضخمة للقتلى من جانب القادة الميدانيين، بهدف إظهار التفوق أمام القيادة العليا، مما أوحى مرارا باقتراب النصر الحاسم، لكن مع كلّ تعبئة جديدة وتعويض لتلك الخسائر البشرية من جانب المقاومة الفيتنامية، كان يبدو أن “عداد الجثث” يرتد بتأثير معنوي سلبي داخل الوحدات الأميركية، في الوقت الذي يزيد فيه من عزيمة الثوار وتصميمهم.

اختبار إرادة لا اختبار أسلحة

وعلى غرار إخفاق الإستراتيجيات البرية، أثبت القصف الجوي الأميركي أيضا فشله في تحقيق الأهداف الإستراتيجية والعملياتية.

فعلى الرغم من نصف مليون جندي أمريكي أرسلهم الرئيس ليندون جونسون إلى فيتنام، وإسقاط أكثر من 8 ملايين طن من القنابل، بما يتجاوز أضعاف ما استخدم في الحرب العالمية الثانية (أسقط الحلفاء حوالي 2.7 مليون طن من القنابل خلال سنوات الحرب)، فإن ذلك لم ينجح في خنق المقاومة أو قطع خطوط الإمداد الحيوية.

في غضون ذلك، استمر تدفق المقاتلين والعتاد عبر طريق “هو تشي منه” الأسطوري، حتى إن الإحصاءات الأميركية نفسها أقرت بارتفاع عدد المتسللين من الشمال إلى الجنوب، من نحو 35 ألف مقاتل عام 1965 لما يقرب من 90 ألفا عام 1967 لدرجة أن تكلفة تدمير مستودع مؤن واحد صارت باهظة، قياسا بقدرة الفيتناميين على تعويضه سريعا عبر شبكة إمداداتهم الفعالة والمموهة جيدا.

تزامن هذا الفشل ومشكلة تكتيكية أعمق، فمثلما لم تعرف هذه الحرب خطوط إمداد مكشوفة، لم تكن أيضا تحتوي جبهات محددة قابلة للاستهداف، فهي بالأساس حرب عصابات، يظهر خلالها الخصم مثل طيف كي يضرب ثم يختفي، وسط تضاريس يعرفها كراحة يده وبين سكّان بلده وحاضنته الاجتماعية القوية.

وقد أفضى ذلك في الأخير إلى فشل مبدأ “البحث والتدمير”، الذي تبناه الجنرال وليام ويستمورلاند، قائد القوات الأميركية في فيتنام في الفترة 1964-1968، حين اكتشف الأميركيون أن مواقع العدو لا تبقى فارغة بعد انسحابه، إذ سرعان ما يعود إليها الفيتناميون لاستئناف معادلة الكر والفر، وزرع الكمائن والفخاخ الأرضية، قبل الاختفاء مثل الأشباح في الأدغال أو التسلل إلى شبكة الأنفاق السرية، فور استشعار الخطر.

ومع تعاظم الخسائر والإحباط، اضطرت القيادة الأميركية إلى التخلي عن إستراتيجية “البحث والتدمير”، واعتماد مبدأ “التطهير والاحتفاظ” بدلا منها، ويركز هذا المبدأ على تأمين المواقع عوضا عن مطاردة المقاتلين الأشباح، وتزامن ذلك مع تولي الجنرال كريتون أبرامز القيادة الأميركية في فيتنام خلفا لويستمورلاند.

ولا يعني هذا الطابع الشبحي الذي غلب على المواجهات أن المقاومة الفيتنامية افتقدت المبادرة، فوفقا للدراسة العسكرية الصادرة عن جامعة جونز هوبكنز الأميركية، امتلكت القوات الفيتنامية المبادرة في 88% من الاشتباكات ضد القوات الأميركية، على مدار أكثر من 10 سنوات هي عمر التدخل العسكري البري لأميركا في فيتنام، مما يعني أن الأميركيين ظلوا في أغلب الأوقات في موقع رد الفعل لا الفعل.

وحتى في الحالات النادرة التي تمكن خلالها الأميركيون من سحب الفيت كونغ إلى مواجهات مكشوفة، لم تكن انتصاراتهم التكتيكية تترجم إلى تقدم إستراتيجي، إذ سرعان ما تعود المقاومة للظهور في مناطق أخرى جديدة، وتجد القوات الأميركية نفسها مضطرة لإعادة احتلال القرى ذاتها مرارا، في دورة عبثية تجسد إحدى القواعد العسكرية البديهية، وهي أن كسب معركة لا يعني بالضرورة كسب الحرب، ورغم وضوح هذه الحقيقة، فإنه يبدو أن واشنطن نسيتها في غمار المستنقع الفيتنامي.

ولم يكن ذلك إلا انعكاسا لتفوق ميداني نوعي للفيت كونغ، الذين امتلكوا سلاحا أمضى من المدفع والبندقية، فهم أبناء هذه الأرض؛ يحفظون دروبها ويملكون القدرة على اختيار زمان المعركة ومكانها، واستغلال ذلك على أتم وجه، بما مكنهم من توجيه ضربات خاطفة ثم التلاشي وسط الأدغال والحقول والقرى. وأمام هذا النمط من الحرب السائلة، وفي مواجهة خصم يتحرك بمثل هذه المرونة، فقدت التكتيكات الأميركية التقليدية فعاليتها، وبدا الجيش الأميركي مثل دب عجوز ثقيل يواجه نمرا شابا سريعا وفتاكا.

ومما عمق تلك الهوة أكثر، الفارق الجوهري في دوافع القتال، فرغم تواضع تسليحهم، الذي لم يتجاوز البنادق الخفيفة والمدفعية المحدودة مع دعم جوي شبه معدوم، خاض الفيتناميون حربا وجودية دفاعا عن وطن موّحد وبرغبة التحرر من الهيمنة الأجنبية، وهي دوافع تُعلي من الإرادة والصبر والقدرة على التضحية، في حين قاتلت أميركا من أجل فرض النفوذ على دولة بعيدة، ضمن إستراتيجية أيديولوجية هي احتواء الشيوعية.

وشاسع هو الفارق بين مقاتل مستعد للموت من أجل وطنه، وجندي أُرسل إلى أرض غريبة، بناء على حسابات سياسية ربما تتجاوز فهمه.

شكّل هذا التباين عاملا حاسما في مسار الحرب، ففي مقابل استعداد الفيتنامي لتحمل أي خسائر من دون أن تهتز عزيمته، كانت عزيمة أميركا ومعنويات شعبها وعزم قياداتها تتآكل مع كل نعش عائد من فيتنام. وتفاقم المأزق الأميركي مع نجاح الفيت كونغ في بناء شبكات دعم شعبي واسعة في الجنوب (الخاضع للولايات المتحدة)، بين المزارعين والقرويين، الذين وفروا الإمدادات والملاذات الآمنة للمقاتلين، وتحوّلوا إلى جزء من شبكة الحرب، بما جعل مهمة التمييز بين المدني والمقاتل شبه مستحيلة بالنسبة للقوات الأميركية.

أنفاق الفيت كونغ.. كابوس تحت الأرض

ولم تقتصر معضلة التعامل عناصر الفيت كونغ على المعارك فوق الأرض، بل امتدت عميقا تحتها، فثمة ميدان قتال آخر فُرض على الأميركيين، وهو الأنفاق، التي لعبت دورا حاسما في تغيير قواعد المواجهة. وقد كانت شبكة الأنفاق أكثر من مجرد ممرات للهرب، حيث تشكّلت كمنظومة أمنية وعسكرية متكاملة مكتفية ذاتيا؛ مكّنت المقاومة الفيتنامية من التخفي والرصد والمناورة، ومن إعادة تنظيم الصفوف ونصب الكمائن، لتشكّل بذلك إحدى أعقد بيئات حرب العصابات في العصر الحديث.

وحسب التقديرات، امتدت شبكة أنفاق الفيت كونغ لقرابة 270 كيلومترا تحت الأرض، وتخللتها غرف قيادة وعمليات ومستشفيات ميدانية، وكذلك مخازن أسلحة ومؤونة، كما احتوت مساكن سرية ومصانع للأسلحة الخفيفة، إلى جانب مصائد للمتسللين ومخارج طوارئ تؤدي إلى الغابات والقرى المجاورة، مما جعل ملاحقة عناصر الفيت كونغ مهمة شبه مستحيلة.

وقُدّر لاحقا، أن بناء هذه الشبكات استغرق أكثر من 20 عاما، بدءا من أربعينيات القرن الماضي، في أثناء مقاومة الفيتناميين للاستعمار الفرنسي، ثم تطوّر بعضها بعد ذلك، ليشكّل هذه المنظومة المتداخلة المتعددة المستويات الممتدة تحت الأرض.

وقد تجلى التأثير العملياتي لشبكة الأنفاق بوضوح في أكثر من مناسبة، منها الهجوم الذي نفذته وحدات الفيت كونغ في فبراير/شباط 1969 على قاعدة “كوتشي”، إحدى أكبر القواعد الأميركية في فيتنام، مما أسفر عن تدمير 9 مروحيات من طراز “شينوك-47” وإلحاق الضرر بـ3 أخرى، فضلا عن تفجير مستودع الذخيرة الرئيسي داخل القاعدة.

والمفارقة أن قيادة القاعدة تلقت تحذيرات استخباراتية مسبقة بشأن الهجوم، ورغم ذلك، فإن نحو 80 من خبراء المتفجرات التابعين للفيت كونغ تمكّنوا من التسلل إلى عمق القاعدة، وإتمام مهمتهم في غضون دقائق معدودة، من دون أن يتمكن الحراس من اكتشافهم، مما دفع بعض الجنرالات الأميركيين لاحقا إلى الاعتراف بأن شبكة الأنفاق تحولت إلى كابوس نفسي يقوض الشعور بالأمان، حتى في الخطوط الخلفية.

ويؤكد هذا التأثير جو بوتشينو، المحلل العسكري ومدير الاتصالات السابق في القيادة المركزية الأميركية، في مقال بمجلة “فورين بوليسي” إذ يشير إلى أن أنفاق فيتنام تجاوزت تأثيرها المادي نحو إحداث ذعر وارتباك نفسي وجنون ارتياب مستمر بين الجنود الأميركيين، لأن العدو القادر على الظهور فجأة من باطن الأرض يحوز ميزة كاسحة، إذ يكسر أي شعور أمان يمنحه التفوق التسليحي.

ورغم المحاولات الأميركية المتكررة لتدمير الأنفاق، عبر القصف الجوي والمدفعي أو الغمر بالمياه والغازات السامة، فإن طريقة بنائها البسيطة والفريدة في الوقت نفسه، بطبقات متعددة من الطين المدكوك هيّأتها للصمود أمام الانفجارات، كما أن تصميمها المرن أتاح للفيتناميين تجاوز المناطق المتضررة ومواصلة القتال دون تأثير يُذكر.

وحسب الكاتب ومؤرخ الحرب الأميركي وليام بي هيد، فقد تشكّلت أنفاق فيتنام من تربة احتوت على الطين والحديد، مما أدى إلى تكوّن عامل ربط يشبه الأسمنت. واعتمد البناء على آلية بسيطة، حيث جرى الحفر في موسم الرياح الموسمية حينما تكون التربة لينة، وعند جفافها لاحقا تبقى مستقرة دون حاجة إلى دعامات.

ويُشار إلى أن اكتشاف الأميركيين لتلك الشبكات لأول مرة كان في أعقاب “عملية اللصوص” (Operation Marauder)، التي نفذها اللواء الأميركي 173 المحمول جوّا بالاشتراك مع الكتيبة الأولى من الفوج الملكي الأسترالي في دلتا نهر ميكونغ، خلال يناير/كانون الثاني 1966. ورغم العثور على بعض مداخل الأنفاق خلال تلك العملية، فإن القوات الأسترالية والأميركية لم تدرك آنذاك الحجم الحقيقي ولا مدى تعقيد المتاهة الكامنة تحت أقدامهم.

هجوم “تيت”.. صدمة نفسية ورهان إستراتيجي

ومع تصاعد قدرات الفيت كونغ على المناورة فوق الأرض وتحتها، جاءت اللحظة التي قرروا فيها نقل الحرب إلى مستوى أعلى، عبر شنّ هجوم مفاجئ شامل، استهدفوا خلاله أكثر من 100 مدينة وقاعدة عسكرية في وقت متزامن.

عُرف ذلك الهجوم الشهير باسم “تيت”، وشكّل نقطة تحول فارقة في تلك الحرب. ففي الساعات الأولى من صباح 30 يناير/كانون الثاني 1968، ومع بدء احتفالات السنة القمرية حسب التقويم الفيتنامي (عيد تيت)، اجتاح مقاتلو الفيت كونغ وزملاؤهم من الجيش الشعبي الفيتنامي عددا من المواقع الحيوية في جنوب فيتنام، بما فيها العاصمة سايغون.

اعتمد الهجوم في تصميمه على عنصر المفاجأة، مستغلا حالة التراخي ومتغاضيا عن فارق القدرة العسكرية، بما يجعله أقرب إلى مقامرة طموحة، لكنه لم يكن قرارا اعتباطيا، نظرا لأن القيادة الفيتنامية أرادت من خلاله تحفيز انتفاضة شعبية جنوبية تطيح بالحكومة الموالية للولايات المتحدة في سايغون، وإحداث صدمة نفسية وسياسية داخل الولايات المتحدة، بما يدفع الرأي العام الأميركي نحو مراجعة دعم استمرار الحرب.

بمعنى أن الهدف من الهجوم لم يكن حسم الصراع على الفور، وإنما تحقيق مكاسب إستراتيجية على مدى أبعد، وقد بُنيت الحسابات الفيتنامية للاستفادة من حالة الارتباك التي أصابت الإستراتيجية الأميركية، بعد سنوات من استنزاف قواتها دون نتائج حاسمة.

وعلى الرغم من أن الفيت كونغ لم يتمكنوا من الاحتفاظ بالمواقع التي سيطروا عليها في سايغون وهيو ومدن أخرى، فإن الهجوم كشف عن هشاشة حكومة الجنوب، وأدى إلى تآكل ثقة الأميركيين بإمكانية حسم الصراع عبر الحل العسكري وحده، ولم يقلل من ذلك التأثير تكبد الفيتناميين خسائر جسيمة على المستوى البشري، تجاوزت 50 ألف مقاتل وفق بعض التقديرات.

كان وقع الهجوم مدمرا على إدارة الرئيس الأميركي ليندون جونسون، التي كانت تروج لفكرة “الضوء في نهاية النفق”، وفوجئت بمطالبة الجنرالات بتعزيز القوات الأميركية في فيتنام، رغم أن أعدادها تجاوزت نصف مليون جندي في ذلك الوقت، وهو ما وضع الإدارة في موقف حرج أمام الرأي العام، ومما أكد أن الحرب أبعد ما تكون عن نهايتها، وأدى إلى تصاعد المظاهرات وتزايد الضغط على البيت الأبيض، ودفع جونسون إلى إعلان عدم ترشحه لولاية ثانية بعد أسابيع قليلة من الهجوم.

هكذا لم يكن هجوم تيت مجرد معركة عسكرية، بل ضربة نفسية وإستراتيجية زلزلت ركائز المشروع الأميركي في فيتنام، وأطلقت 7 سنوات أخرى من القتال المرير، انتهت بمشهد إقلاع آخر مروحية أميركية بعيدا عن سايغون.

وعلى امتداد السنوات التي تلت سقوط سايغون ونهاية الحرب، كان الاعتقاد يترسخ أكثر فأكثر بأن هجوم “تيت” كان هو بداية النهاية لتلك الحرب، حين كشفت فيتنام عن حدود القوة العسكرية، وأكدت لخصومها أن كسب الحروب لا يتحقق فقط عبر التفوق في العتاد، بل يتطلب فوق ذلك إرادة لا تلين، وفهما أفضل للأرض وللشعوب التي تقاتل دفاعا عن مصيرها ووجودها.

مواقع إلكترونية

مقالات مشابهة

  • الشيخ كمال الخطيب يكتب .. بين طواف الحجاج حول الكعبة وطواف الجياع بين ركام غـزة
  • د.حماد عبدالله يكتب: الوادى الجديد "والحرمان" !!{3}
  • هرتسوغ: (إسرائيل) على شفا انفجار داخلي بسبب الانقسام .. والشاباك فشل في 7 أكتوبر
  • نصف مليون جندي و8 ملايين طن من القنابل.. لماذا هُزمت أمريكا في فيتنام؟
  • د.حماد عبدالله يكتب: " نصف مصر " الذى لا يعرفه المصريون !!{2}
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (تحت أرض الخرطوم) 4
  • إسرائيل تحصي خسائرها منذ 7 أكتوبر وأكبرها بصفوف النخبة والضباط
  • أخطر من جبهة الحرب.. لماذا تخاف إسرائيل من بيت صغير في الجنوب؟
  • د.حماد عبدالله يكتب: حتمية الإتجاه " للواحات " !!{1}
  • نهاية مفتوحة| نتنياهو يحدد أكتوبر كحد أقصى لحرب غزة وسط مفاوضات عديدة.. وخبير يكشف المشهد