الجزيرة:
2025-04-17@10:42:41 GMT

الانتخابات التي لم تعرف لها تونس مثيلًا

تاريخ النشر: 6th, October 2024 GMT

الانتخابات التي لم تعرف لها تونس مثيلًا

يتوجّه التونسيون اليوم الأحد السادس من أكتوبر/تشرين الأول إلى مكاتب الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في ثالث انتخابات رئاسية منذ ثورة الحرية والكرامة (2011)؛ لاختيار رئيسهم القادم من بين ثلاثة مترشحين؛ أحدهم قيس سعيد، الرئيس المنتهية ولايته، وزهير المغزاوي، الأمين العام لحركة الشعب الداعمة لقيس سعيد، والعياشي زمال الذي يقضي أحكامًا بالسجن؛ بسبب "مخالفات انتخابية".

من المتوقع فوز قيس سعيد بولاية ثانية في انتخابات لم تعرف لها تونس مثيلًا حتى زمن استبداد الرئيسين الأسبقين: بورقيبة، وبن علي. فعل قيس سعيد وأذرعه المختلفة كل شيء من أجل ضمان إعادة انتخابه.

تجاوزت هيئة الانتخابات المعيّنة من قيس سعيد صلاحياتها، مما أدّى إلى إقصاء العديد من المترشحين، ومنهم الجدّيون، ورفض الهيئة تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية، الجهة المخوّلة بالبتّ في النزاع الانتخابي، بإعادة ثلاثة مترشحين من بين من أقصتهم إلى السباق الانتخابي.

من جهته، صادق مجلس نواب الشعب (المنتخب بـ 8% فقط من أصوات الناخبين في 2023) على تعديل القانون الانتخابي، بأيّام قليلة قبل يوم الاقتراع، تمّ بمقتضاه سحب اختصاص المحكمة الإدارية في النظر والبت في النزاعات الانتخابية، وتحويله إلى القضاء العدلي.

هذا إضافة إلى التضييق على حرية التعبير للمترشحين ولنشطاء الفضاءَين: السياسي والمدني، ولعموم التونسيين بفعل المرسوم 54 الذي يقبع بسببه ما لا يقل عن ألف وسبعمائة تونسية وتونسي في السجن.

كل هذه الإجراءات والخروقات وغيرها التي شابت المسار الانتخابي، جعلت من هذه الانتخابات، من منظور المتابعين ومعارضي قيس سعيد، فاقدة للحدّ الأدنى من شروط النزاهة والتعدّدية والشفافية بما جعلها أقرب إلى بيعة أو تزكية "قسرية" للرئيس المنتهية ولايته أكثر من كونها انتخاباتٍ حرّةً.

انتخابات صامتة

على خلاف كل الانتخابات السابقة التي انتظمت في عشرية الانتقال الديمقراطي (2011-2021)، لم تشهد الفترة المخصصة للحملات الانتخابية للمترشحين في هذه "الانتخابات"، حركية إعلامية وميدانية وتواصلية تعكس قيمة الاستحقاق الانتخابي ورهاناته. من أسباب ذلك:

قلّة المترشحين المتنافسين، حيث لم يتجاوز عددهم الثلاثة، يقبع أحدُهم بالسجن، على خلاف انتخابات 2019 التي تنافس فيها ستة وعشرون مترشحًا يمثلون كل العائلات السياسية، إضافةً للعديد من المستقلين. تأتي قلّة المتنافسين من الإجراءات الإقصائية التي اعتمدتها هيئة الانتخابات، ومن أجواء الخوف التي فرضتها سلطة قيس سعيد على المترشحين، وعلى الناخبين على حدّ سواء. ضعف حجم الإنفاق الانتخابي الذي حدّد سقفه بطريقة أحادية المترشح قيس سعيد، بصفته الرئيس المنتهية ولايته، بمائة وخمسين ألف دينار في الدور الأول، وبمائة ألف دينار في الدور الثاني، وهي مبالغ ضعيفة لا تسمح بتنظيم حملات دعائية وتحركات ميدانية في مستوى الاستحقاق. ضعف التغطية الإعلامية؛ نتيجة وضع المؤسسات الإعلامية تحت ضغط المتابعات القضائية، والخطايا المالية بعد أن اغتصبت هيئة الانتخابات اختصاص الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) في تحديد القواعد والشروط التي يتعيّن على وسائل الإعلام التقيّد بها خلال الحملة الانتخابية ويوم الاقتراع، استنادًا إلى أن لها (هيئة الانتخابات) الولاية العامة على الانتخابات وكل ما يتصل بها.

كما ساهم اعتقال عدد من الإعلاميين وإحالة عدد آخر منهم على القضاء بتهم مختلفة تتراوح بين التآمر على الأمن الداخلي والخارجي للدولة وبين مخالفة المرسوم 54 المقيّد لحرية التعبير، في إشاعة حالة من الحذر تصل إلى الخوف في أوساط القائمين على الإعلام العمومي، خاصة بعد أن تمّ تحويله تحت حكم قيس سعيد إلى إعلام رئاسي لا مكان فيه للمعارضة والرأي الآخر، وفي أوساط أصحاب المؤسسات الإعلامية الخاصة التي تمّ "تدجين" خطها التحريري، وإلغاء البرامج الحوارية السياسية، وطرد بعض الإعلاميين "المشاكسين".

عزوف عموم الناخبين عن هذه الانتخابات هو جزء من عزوفهم عن الاهتمام بالشأن العام، عزوف يعكس حالة الإحباط التي يعيشها التونسيون بعد أن خاب أملهم في قيس سعيد الذي أخلف معهم كل وعوده، وفشل حتى في أن يضمن لهم مستوى عيشهم الذي كانوا عليه خلال عشرية الانتقال الديمقراطي.

الأرجح أن يؤثّر هذا العزوف في الاهتمام بالمسار الانتخابي الرئاسي على نسبة الاقتراع اليوم، لتكون مرة أخرى ضعيفة جدًّا، مثلما كانت في كلّ الانتخابات التي نظّمها قيس سعيد منذ انقلابه في 25 يوليو/تموز 2021، خاصة مع إيهام الناخبين بأن إعادة انتخاب قيس سعيد ستكون مضمونة من الدور الأول، حسب ما يروّجه أتباعه.

غياب العروض السياسية الجادة من طرف المترشحين باستثناء ما قدّمه المترشح السجين العياشي زمال في وثيقته السياسية "الميثاق" من روح إيجابية ومقاربات جريئة وصريحة بعيدًا عن التخوين والترذيل والوصم والإقصاء والتقسيم التي تطفح بها خطابات المترشحَين الآخرين: المغزاوي، وسعيد خاصة.

فقد نجح المترشح زمال في تقديم معادلة يحتاجها مستقبل تونس، طرفها الأول البناء على مكاسب المراحل السابقة، وطرفها الثاني اجتراح الحلول للمشاكل والمخاطر التي تواجهها تونس، وَفق ترتيب معيّن للأولويات ومقاربات واقعية قابلة للتنزيل، وتغيير الواقع في أفق زمن محدّد.

كما نجح زمال في أن يتحرّر من التاريخ السياسي القريب والبعيد بكل أثقاله وعاهاته، وأن ينخرط في مقابل ذلك في المستقبل، وهو ما عبّر عنه في شعار برنامجه الانتخابي "نقلبو الصفحة"، بما يعني أن نفتح صفحة جديدة لا أن نمزق الكتاب.

نهاية صورة

يمكن تكثيف كل ما يتعلق بهذه الانتخابات من مقدّماتها إلى أطوارها وحصائلها وصولًا إلى نتيجتها المتوقعة بأنها ستمثل منعرجًا في المشهد السياسي التونسي، ولحظة فاصلة بين زمنَين: زمن بدا فيه قيس سعيد رئيسًا شعبيًا جمع حوله حاضنة شعبية وسياسية واسعة جدًا وأيقونة للإصلاح ومقاومة الفساد وتحقيق ما يريده الشعب وهو جملة استحقاقات الثورة، ومنها خاصة الاقتصادية والاجتماعية، وزمن أصبح فيه قيس سعيد مستبدًا معزولًا بدون حزام سياسي، خصيمًا للثورة وهادمًا لمكاسب الانتقال الديمقراطي، وتهديدًا للسلم الاجتماعي والأمن القومي، ليستحيل في الأخير إلى عبء على الدولة والمجتمع، ومجرد ظاهرة صوتية لم تغيّر ولن تغيّر من واقع التونسيين شيئًا إلا نحو الأسوأ.

بداية حراك

في جانب آخر، مثّلت الانتخابات فرصة لإطلاق حراك مواطني وسياسي ومدني هامّ ومؤثر ساهم في جرّ قيس سعيد إلى مربع الانفعال وردّ الفعل، مما دفعه لارتكاب العديد من الأخطاء والتجاوزات والخطايا بميزان القانون والعقل والمزاج العام، وإظهاره في جلباب المستبد المستميت في التمسك بالكرسي والمتعدي على القانون والأخلاق والمغتصب لحق التونسيين في انتخابات حرة، تعددية، نزيهة وشفافة.

كما كان المسار الانتخابي الرئاسي الراهن كفيلًا بأن يُخرج العديد من نشطاء المجتمعَين: السياسي والمدني وشرائح غير قليلة من المواطنين، وخاصة من الشباب، من المنطقة الرمادية إلى حالة من اليقين في أن ما قام به قيس سعيد ليلة 25 يوليو/ تموز 2021 هو انقلاب كامل الأركان تجب مقاومته وإنهاؤه حتى لا يذهب أبعد مما ذهب في تغيير هيئة الدولة، وتمرير مشروعه الشخصيّ، وتقويض مكاسب التونسيين، وخاصة الحقوق والحريات.

حقّقت ديناميكية الانتخابات مكاسب هامّة في المشهد السياسيّ العام، لم تنجح العملية السياسيّة بمختلف أطرافها في تحقيقها على الأقل بنفس القدر طيلة ثلاثية الانقلاب (2021-2024). فقد توسّع الحزام المعارض لنظام سعيد الذي قادته طيلة سنتين تقريبًا جبهةُ الخلاص الوطني (النهضة وحلفاؤها) إلى ما هو أوسع من السياسي بإعلان تكوين الشبكة التونسية للحقوق والحريات: (الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، وعدد من منظمات المجتمع المدني). المكسب الثاني الذي تحقق ضمن ديناميكية الانتخابات، هو مزيد اختراق حاجز الخوف بعد أن ظن قيس سعيد أنه نجح في فرضه على التونسيين. يبدو هذا الاختراق واضحًا في تعدّد التحركات الاحتجاجية وفي التطور النوعي، أولًا في الشعارات المرفوعة، ومنها شعار: "ارحل" الشهير، وثانيًا في رمزية أماكن الاحتجاج، مثل ساحة باردو المقابلة لمقر مجلس نواب الشعب يوم انعقاد الجلسة "الفضيحة" التي تمّ فيها تعديل القانون الانتخابي بتجريد المحكمة الإدارية من اختصاصها بالبتّ في النزاع الانتخابي، وإحالته إلى القضاء العدلي، بأيّام قليلة قبل يوم الاقتراع.

وجاءت خاتمة هذه التحركات الشعبية الهامّة يوم الجمعة 4 أكتوبر/تشرين الأول، عشية يوم الصمت الانتخابي بمظاهرة جابت أهمّ شوارع العاصمة تونس، شارك فيها الآلاف حسب بعض التقديرات، من مختلف الطيف السياسي والمدني، حيث رُفعت شعارات قويّة ضد قيس سعيد، منها: "الشعب يريد إسقاط النظام" و"حريات حريات لا رئاسة مدى الحياة" و"لا خوف لا رعب الشارع ملك الشعب".

لا شك أن محطة الانتخابات الرئاسية مثّلت لمعارضي قيس سعيد لحظة فارقة ساهمت في تجلية الكثير من الغموض حول حقيقة المشروع السياسي التسلطي لسعيد ومخاطره على تونس والتونسيين، كما ساهمت في تأكيد الحاجة إلى تصليب مقاومته بالنضال السياسي السلمي والمدني، خاصة أن شعبيته، حسب العديد من استطلاعات الرأي غير المنشورة، قد تراجعت إلى أدنى مستوياتها، وأن حظوظه في تدارك ذلك تبدو معدومةً؛ لما أظهره من عدم كفاءة في إدارة الشأن العام، وخاصة أمام تعاظم التحديات والمخاطر.

ستكون الولاية الثانية لقيس سعيد مختلفة تمامًا عن الأولى. بينما جاءت الأولى من رحم بيئة ديمقراطيّة وانتخابات حرة ونزيهة وشفافة، جاءت الثانية من رحم بيئة انتخابية فاقدة لكل معايير الانتخابات الديمقراطية.

كان سعيد في الأولى في نظر التونسيين أيقونةً للإصلاح، وهو في الثانية مستبدٌ فاشلٌ وخطر على الدولة والمجتمع. كان سعيد في الأولى محلَّ إجماع التونسيين بمختلف توجهاتهم، وهو في الثانية معزولٌ سياسيًا ومرفوضٌ شعبيًا.

في مقابل تهافت صورة قيس سعيد ودخوله في ديناميكية سلبية، دخلت الساحة السياسية في ديناميكية إيجابية مع بداية تشكل حراك سياسي ومدني مهمّ نجح في تحقيق خطوات مهمّة، وبقي أمامه استكمالها بأخرى حتى تنضج حالة سياسية معارضة لقيس سعيد، قادرة على تعبئة الشارع، وتحقيق التغيير المطلوب.

بقي أمام هذا الحراك، بمختلف أطرافه السياسية والمدنية والمواطنية، بناء ثقافة سياسية بديلة عبر كسر كل الأقفاص والحلقات المفرغة التي انحبست فيها العملية السياسية في عشرية الانتقال الديمقراطي وبعدها، من ذلك المواقف الصفرية والإقصاء والتعفين والاحتراب الأيديولوجي.

بدا واضحًا أن تونس تحتاج عرضًا سياسيًا جديدًا بديلًا عن مشروع قيس سعيد ومتطوّرًا عما قبل 25 يوليو/ تموز 2021، يقوم على ثقافة سياسية جديدة أساسُها الديمقراطية، والاعتراف المتبادل بين الجميع، ويزاوج بين التنمية والديمقراطية.

سيكون حراك المعارضة هو الرابح، وإن نجح قيس سعيد في اختطاف ولاية ثانية، وسيكون قيس سعيد رئيسًا ضعيفًا منزوع الشرعية والمشروعية سياسيًا وأخلاقيًا وبدون أفق، ما سيدفعه إلى ارتكاب المزيد من الأخطاء والخطايا، وبالتالي إلى مزيدٍ من الفشل حتى ينفد رصيده بالكامل. أمام المعارضة أفق واسع وفرصة تاريخية لتحقيق التغيير المطلوب عبر البناء على ما تحقق من مكاسب خلال العملية الانتخابية وقبلها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الانتقال الدیمقراطی هیئة الانتخابات العدید من قیس سعید سیاسی ا بعد أن

إقرأ أيضاً:

الاِسلام السياسي وجدلية التأويل

قناع جانوس
الاِسلام السياسي وجدلية التأويل
محمد جميل أحمد*
تقديم ومراجعة حامد فضل الله / برلين
صدر في عام 2020 كتاب بالعنوان أعلاه للكاتب والشاعر والروائي محمد جميل أحمد (الرياض حالياً). والكتاب من الحجم المتوسط ويضم 254 صفحة، ويتكون من 10 أبواب، وكل باب يحتوي على عدة فصول، بجانب التقديم والمقدمة. الأبواب الأربعة الأولى عبارة عن تحليل نظري، بالعناوين: في حيثية القرآن والاِسلام، وفي إيديولوجيا الوعي الإسلامي المعاصر، وجدل السلطة والدولة في مقاربات الاِسلام السياسي، والقرآن والوعي النظري، والاِسلام والوعي التاريخي، وفي الاِيديولوجية العربية، وإيديولوجيا التأويل، وأدلجة المفاهيم".
أما الباب الخامس: فهو "المسلمون في الغرب: قضايا الهجرة والاندماج والاِرهاب". ويقدم المؤلف في بقية الفصول دراسة حالات، مثل الدولة (الاِسلامية) في السودان، وحركة الاِخوان المسلمين في مصر وتجربة حركة النهضة في تونس، ويختم بالدولة الاِسلامية في العراق والشام (داعش).
يقوم المؤلف في البداية بإضاءة عنوان كتابه: "جانوس إله روماني؛ حارس بوابة السماء، له وجهان: خلفي وأمامي؛ أحدهما يُدخِل إلى النعيم، والثاني يَقذِف إلى الجحيم". مما يعني ازدواجية الخير والشر."
ثم يقول محمد جميل في مقدمته: " بدا واضحاً أن تداعيات أوضاع الإسلام السياسي، وتجاربه في السلطة التي شكلت المشهد الأبرز في أعقاب ثورات الربيع العربي، أصبحت موضوع اهتمام كثير من الأنظمة، والمحاور الاِقليمية والدولية والباحثين. والكتاب كما يقول هو محاولة في قراءة ظاهرتي الأيديولوجيا والتأويل، في ممارسات جماعات الاِسلام السياسي ..."، ويتابع "إذا كان مفهوما (الجاهلية) والحاكمية) يشكلان الجذر الاِيديولوجي الأعمق لفهم حراك الاِسلام السياسي؛ فإن كلاً من (سيد قطب) و(المودودي) هما من أسسا فكرياً ونظرياً لذينك المفهومين. ومشيراً، بأن أغلب النقد الموجه ضد الإسلام السياسي، عبر نقد هاتين الفكرتين، تجلى في بعض الكتابات من خلال قراءات أهملت السياقات الاِيديولوجية والتاريخية، التي أنجبت ذينك هذين المفهومين.
سوف نقوم أولاً بتقديم مكثف للجانب النظري.
"القرآن والوعي النظري، جدل القطيعة والصيرورة":
" يوماً بعد يوم تتكشف الحاجة المعرفية إلى موضعة الإسلام، وفرز تأويله المعرفي عن التأويلات الاِيديولوجية التي كان لبعض صورها المتطرفة آثار مدمرة، كانت ولا تزال من أهم الأسباب الرئيسة في توتر علاقات الغرب والعالم الاِسلامي ... فالحاجة إلى موضعة الإسلام معرفياً، من خلال مصادره المؤسًسة (القرآن، وصحيح السنة النبوية) من أهم الاستحقاقات الفكرية والمعرفية التي جرى إهمالها طويلاً، ذلك أن فكرة الوعي النظري بأهمية القرآن، بوصفه مصدراً معرفياً ...". وعجز كثير من المفكرين عن شجاعة الاعتراف بموقف موضوعي يرى إمكانية قراءة معرفية للخطاب القرآني؛ قادرة على إنتاج أفكار حيوية في قضايا المجتمعات العربية المعاصرة فكرياً وثقافياً وتاريخياً. وفي غياب استحقاق التأويل المعرفي للقرآن، طوال القرن العشرين، ضمن تلك الخفة التي حاولت استيهام قطيعة مع الإسلام، عبر التماهي الخادع مع الحداثة الأوروبية، كان لا بد من أن تحصر التأويلات الاِيدولوجية المتطرفة للجماعات الاِسلامية، كي تسد الفراغ، كما كان من الأفضل لو واجه المفكرون العرب تحديات التأويل المعرفي للقرآن الإسلام في واقع المجتمعات الإسلامية بدلاً من التعثر الدائم في قراءات مبتورة للحداثة".
هل تم فعلاً، كما يقول الكاتب، عدم قراءة معرفية للخطاب القرآني وتأويل معرفي له؟
تزخر المكتبة العربية بالكثير من الكتب الهامة ومن كتاب مرموقين، تناولوا هذه القضية من جميع أبعادها، بشجاعة وبموضوعية وعلمية، رغم التكفير والتهجير والتهديد بالقتل، بل بممارسته فعلاً.
كما أن قوله "فلم تكن كتابات الحقبة (الليبرالية)، مثلاً لدى طه حسين والعقاد، مقدمات راسخة لكتاب النصف الثاني من القرن العشرين التي قطعت مع كتابات الحقبة (الليبيرالية)؛ بفعل مناخ الاستقطاب الاِيديولوجي".
وهذا القول ليس دقيقاً أيضاً، بل العكس هو الصحيح، فكتابات طه حسين والعقاد لم تكن مقدمات فحسب، بل انتجت كتابات راسخة وعميقة ومن كتاب مشهود لهم، وبعضهم لا يزال على قيد الحياة، يمارسون دورهم التنويري الليبيرالي على نهج طه حسين وشجاعته منذ أصادر كتابه الرائد " في الشعر الجاهلي".
يردد الكاتب عبر صفحات كتابه، كلمات مثل الحرية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، ويكتب فقرة بذهنية ثاقبة:
"حاجة جماعة المسلمين، أي (المجتمع الإسلامي) أشد ما تكون إلى الحريات. الحرية في فهم إسلامها، والحرية في تأسيس علاقتها بالشرعية، وفق نشاط سلمي، وهو ما يحيل إلى فكرة السعي إلى دولة الحريات المدنية؛ لأن الدولة المدنية هي التي تتيح لأفرادها اختيار قناعاتهم، والدعوة إليها سلمياً، وصولاً إلى التداول السلمي للسلطة؛ ذلك أن الاِسلام دين تخدمه الدولة، وليس العكس".
هل هذه مناداة، للدولة المدنية العَلمانية الديمقراطية؟
مدنية بمعنى سلطة بشرية.
وعَلمانية بمعنى فصل الدين عن السياسة، لا فصل الدولة عن الدين، فالعَلمانية لا تعني الاِلحاد، كما يروج لذلك البعض، كما يجب عدم الخلط بين فصل الدولة عن الدين، أي فصل السلطة السياسية عن الدين، وبين فصل الدين عن المجتمع والحياة.
وديمقراطية كشرط لتحقيق العَلمانية، حيث توجد سلطة عَلمانية في دولة استبدادية، مثل سلطة النظام النازي الألماني السابق.
"جدل السلطة والدولة، في مقاربات الاِسلام السياسي".
لقد كان تأسيس جماعة الاِخوان المسلمين في مصر عام (1928) هو الرد المباشر على سقوط الرمز السياسي للإسلام التقليدي؛ أي سقوط الخلافة الاِسلامية في تركيا في العام (1924 )، في مواجهة الدولة الوطنية الحديثة. وبهذا المعني، لقد كان التفكير الإيديولوجي في الدولة الإسلامية عند جماعة الإِخوان المسلمين، والجماعات التي تناسلت من ورائها في ظاهرتي الإسلام السياسي والجهادي، بمثابة نشاط فكري وعملي ضد مفهوم الدولة الوطنية، وهو ما سيؤدي لاحقاً ــ إلى انفجار التناقضات بين المشروعين.، كما أن بروز التنظير العقدي للدولة الاِسلامية الذي أسسه أبو الأعلى المودودي، وطُوره عربياً سيد قطب، من خلال بناء مفهومي جديد تمثل مصطلح (الحاكمية)، تعريفات معاصرة وتصور عقدي كان له الأثر الكبير في التشويش على مفاهيم الجماعات الإسلامية اللاحقة، ففي المزج بين ما هو عقدي وبين ما هو من الفروع حيال قضية الحكم، لعبت الاِيديولوجيا دوراً بارزاً، وأفرزت واقعاً جديداً نتجت عنه دورة العنف الذي مارسته الجماعات الإسلامية في سبيل الاستيلاء على السلطة، والبراءة من أنظمة حكم الدولة الوطنية الحديثة من ناحية ثانية.
وبعدها أشار الكاتب لمفهوم الحاكمية، وملابساته، وظروف نشأته، وأدلجته،. وكمصطلح، كما صوره سيد قطب، كان في الحقيقة وصفة ملتبسة وجهت جماعات الاِسلام السياسي نحو عقدي يقرأ المجتمعات العربية والاِسلامية بعدياً عن حيثياته في واقع العالم الحديث، والترتيبات التي شكلتها الحداثة السياسية منذ أربعة قرون على الأقل. فأن اسقاط مفهوم الحاكمية في ظل واقع كهذا، سيظل هو الوجه الآخر لقناع الاِيديولوجيا، التي انفجرت، وما زالت تنفجر، في تطبيقات مفهوم الحاكمية، كما أنتجاه المودودي وسيد قطب.
في الإيديولوجية العربية:
" لم تكن إيديولوجيات المنطقة العربية، في يوم من الأيام، رؤية متجاوزة لسقفها المحدود، ذلك أن العرب، منذ عصور الاستعمار، لم يتمكنوا من إدراج سؤال الحداثة ضمن رؤية معرفية؛ أي إن الاِيديولوجيا كانت القناع الذي عكس باستمرار وعياً مشوهاً لتلك الحداثة. أن ترديدنا لمقولات من قبيل الديمقراطية، والمجتمع المدني، والحداثة، وتكشف في عين الوقت عن عجز تلقائي في قدرة الاختبار النقدي لتلك المفاهيم، سواء في الفهم، أم في التطبيق، ويشير إلى حقيقة ثانية، حسب قوله، وهي العجز العربي عن ، مثل الإصلاح الديني في عالم عربي علاقته بالدين عميقة، وعجز النخب العربية عن اكتشاف وفرز القيمة الفكرية في بعض الكتابات، التي تنطوي على إشارات موضوعية في مشروعها الفكري، وتخترق بأضوائها ظلام الاِيديولوجيا ( كتابات عبد الله العروي، ومالك بن نبي، وغيرهم، على سبيل المثال، ما يعني أن هذا العجز، إذ يحيل إلى عدم القدرة في تأويل تلك الكتابات موضوعياً، إنما كان، في معنى آخر، عجزاً ينطوي على علاقة عقيمة مع التراث في معناه المعرفي؛ أي الوقوع في ذلك المأزق، الذي ينوس بين العيش داخل التراث، أو خارجه، ضمن رؤية مانوية فاقعة، لا تؤمن بتلك المقولة التي تقول ( إن أول شرط لتجاوز التراث: قتله بحثاً)".
إن مقولة " إن أول شرط لتجاوز التراث: قتله بحثاً"، ملتبسة. فإذا كانت تشير إلى مقولة العالم المصري أمين الخولي، فمقولة الخولي: "أول التجديد قتل القديم فهماً وبحثاً ودراسة". فمفردة التجديد ليست المرادف لمفردة التجاوز.
أزمة الدولة (الإسلامية) في السودان، والترابي ... شعلة الفحم.
"بموازاة التنظير لمفهوم الحاكمية، كما لدى سيد قطب والمودودي، نشطت الحركة الإسلامية السودانية بقيادة حسن الترابي بعد انشقاقها عن حركة الاِخوان المسلمين، وخلافاً لها، سعت الحركة السودانية للتغيير الفوقي لنظام الحكم. وكان الانقلاب الذي قاده عمر البشير على النظام الديمقراطي في السودان في العام (1989) تتويجاً لذلك النشاط الحركي للإسلام السياسي في السودان، بعد أن خاض تنظيم الحركة الاِسلامية أكثر من محاولة انقلابية قبل ذلك. أن انصراف القيادة عن الانتباه إلى الحيثيات النظرية والحِجاجية الشرعية بخصوص أسلوب تغيير نظام الحكم، والأزمة التي يمكن أن تنشأ من قيام دولة إسلامية في واقع اجتماعي ودولي شديد التعقيد، مما قد يدفع باتجاهات يمكن أن تكون سبباً، ليس في فشل مشروع الدولة الاِسلامية فحسب، بل في تدمير النسيج الاجتماعي والبنى الكيانية للدولة الوطنية نفسها ( وهذا ما حدث بالفعل بعد أكثر من 30 عاماً من انقلاب الاِسلامويين في السودان) عبر تلك التطبيقات الفوقية للأيديولوجيا، وما نتج عنها من حروب أهلية وكوارث، وفساد، وأزمات، وتمييز، وهجرة ... إلخ".
يقول الكاتب: بما أن حسن الترابي هو من صمم الاِطار النظري، وقاد التجربة الحركية للإسلام السياسي في السودان من طور التنظير إلى طور الممارسة، فهو يريد الكشف عن بعض التناقضات المنهجية في تجربته النظرية والحركية. ويشير إلى الآراء والفتاوي التي صرح بها خلال ندوتين في نفس الموضوع مع فارق زمني طويل. فتاوي من قبيل: الردة السياسية، وفكرة القياس الواسع، ومفهوم الاجتهاد الشعبي، وتأويل نظرية المصلحة على إطلاقها، واقتراح تطبيقات مجزؤه للحدود الشرعية في السودان وغيرها من الفتاوي، كلها لا يمكن قراءتها بمعزل عن منهج حركي إسلاموي بعقدة الوصول إلى الحكم بأي ثمن. ولكن الكاتب لا يطلعنا على هذه الفتاوي وعن معناها الفقهي والجدلي ، متعللا، بان إثارة هذه الفتاوي من قبل الترابي هدفها الشهرة والاستقطاب، والجنوح العصابي للسلطة، وأن النرجسية الطاغية للترابي، بطبيعتها تلك، لم توفر أي معنى محترم للفكر، أو الدين، ومدفوعاً بشهوتي السلطة والصيت.
ويقول الكاتب: "إن قوة الحرج الأخلاقي التي تطاول موقف الترابي لا تتصل بممارسات التجريب الممكنة حيال قاعدة الخطأ والصواب السياسِيين، وإنما تتصل في جوهرها بقدرته باعتباره مفكراً قادراً على رؤية الخطايا الاستراتيجية التي خاض فيها، وقادر، كذلك، على اجتنابها في الوقت عينه، بما تتوافر عليه مكانته الفكرية والسياسية، حيال مواقف تاريخية مر بها الوطن كان هو المسؤول الأول عن ترتيباتها، لكنه تماهى فيها مع أهواء النفس، وأسباب العظمة الذاتية، أكثر من شروط الموقف الأخلاقي الذي يمليه عليه ضميره بوصفه مفكراً وزعيماً سياسياً في الوقت ذاته."
يقوم الكاتب بمحاكمة الترابي ويقسو عليه، حسب قول رضوان السيد، ويحمله مسؤولية الخراب، الذي حل بالسودان، دون أن يعرض لنا ولو بإيجاز عن سيرة حياة هذه الشخصية الخلافية.
فالترابي الذي ينحدر من أسرة دينية صوفية، وتربى بداية على تقاليد هذه الأسرة، ثم تعليمه العصري، الذي فتحَ آفاقه على قضايا المرتبطة بعصر الحداثة، مثل حقوق الاِنسان والديمقراطية ...، ومحاولته وجود نصوص من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، لتجديد الاِسلام وتحديثه تماشياً مع روح العصر، ويواجه معارضة ليس من داخل حركته فحسب (جعفر شيخ إدريس وصادق عبد الله عبد الماجد)، بل من فقهاء الدين التقليدين المتشددين، ومن خصومه السياسيين العَلمانيين واليساريين، الذين لا يرونا فيه إلا العَلماني في قفطان إسلاموي.
كما أن آرائه حول التجديد وما لاحقها من رفض وتكفير، بجانب تمزقه بين الثقافتين الاِسلامية والغربية، التي قادت إلى تناقضاته وسلوكه، ثم أزمته ونهايته التراجيدية.
أن تخريب السودان، الذي قامت به الحركة الاِسلامية، بدأ منذ أسقاطها للنظام الديمقراطي عن طريق الاِنقلاب العسكري، وإدارة الحكم عن طريق ما كان يعرف "بالنظام ــ السوبر، أي النظام السري، ويسيطر عليه بجانب الترابي نائبه علي عثمان محمد طه، الذي اصبح لاحقاً النائب الأول للبشير. فالكاتب يحمل كل مسؤولية هذا الخراب للترابي، الذي فقد السلطة عام 1999 وإلى الأبد حسب تعبيره ، لا يتعرض إطلاقاً لصقور الحركة، الذين مارسوا الخراب لمدة عشرين عاماً، ويواصلون خرابهم بإشعال الحرب الحالية المدمرة للقضاء على ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. لا مكابرة هنا حول مسؤولية الترابي، وإنما من أجل العدل والانصاف فقط، حتى لو كان الترابي ليس منصفاً ولا عادلاً، فالإنصاف ليس فعل محاباة، بل فِعل من أفعال الفضيلة العلمية والعملية، حسب عبارات الفيلسوف أبن رشد.
يتعرض الكاتب إلى أطروحة البروفيسور الألماني هاينر بيلفيلد، حول "المسلمون في الغرب، قضايا الهجرة والاندماج والاِرهاب". وأطروحة بيلفيلد عبارة عن بحثين طويلين**، قام الكاتب بتقديمها بصور وافية، مع مناقشة عميقة للمادة، متفقاً أو معارضاً آراء الباحث، بموضوعية وتحليل ثاقب.
أما الباب السادس " الاِسلاميون والتجربة السياسية في مصر، الاِخوان المسلمون نموذجاً". قدم فيه الكاتب دراسة عميقة لدور الاِخوان المسلمين منذ فوزهم في الانتخابات التي أعقبت الربيع العربي، والأخطاء الجسيمة التي ارتكبوها منذ انفرادهم بالسلطة، وفرض دستور عن طريق أغلبيتهم البرلمانية، بدلا من مشاركة القوى السياسية الأخرى، فكتابة الدستور التي هي مهمة قومية، وتحتاج إلى توافق كل قوى الشعب، بعيداً عن أي تأثير لكتلة الأغلبية الطارئة في البرلمان. وطرحهم لفكرة الدولة المدنية بديلاً مخففاً عن مفهوم الدولة الاِسلامية، لكنهم لم يلتزمون بذلك، مما ولد الاحتقان ثم الاِنفجار بفض اعتصاميْ: رابعة العدوية، والنهضة، وعودة الجيش إلى السلطة.
يتناول الكتاب في الفصل الأول من الباب السابع، تجربة حركة النهضة في تونس:
" فك الارتباط بين الدعوي والسياسي، الذي بادرت به حركة النهضة التونسية أخيراً، خطوة مهمة في طريق "تصفير" الإسلام السياسي سيكون بمثابة مواجهة اضطرارية قادمة من صراع التناقضات في الحركة الاِسلامية، وهو صراع سيعكس اهتزازاتٍ وربما تصدعات، قريبة ومنتظرة داخل جماعة الاِخوان المسلمين ... فك الارتباط بين الدعوي والسياسي يعني في جوهره إسقاطاً للأيديولوجيا الاِسلامية المؤسسة لاغتراب الجماعة في المجتمع، كما يعني، في الوقت نفسه، تصالحاً مع نظم إدراك معرفية مختلفة لوعي المجتمع والدولة، مما يجعل الحركة جزءاً منهما (المجتمع والدولة) لا متعاليا عليهما، أو منفصلاً عنهما".
يأتي الفصل الأخير من الكتاب "داعش الميراث الأسود"، مشيرا إلى أهواله وجرائمه؛ وهي في حقيقتها (إهانة للمسلمين) أمام العالم". ويختم الفصل بقوله: " لن ينتهي الاِرهاب في العالم؛ لأنه أصبح تصميماً معولماً للعنف، وسيستمر مديداً في ظل خطابي منطق القوة المادية والجنون الداعشي، فيما سيدفع الضحايا الأبرياء من مسلمين وغير مسلمين، ثمناً باهظاً من الأرواح والدماء. ثمة إمكانيات أولية للنظر في استراتيجياتٍ معرفيةٍ يمكن أن تساهم في تسكين العنف الاِرهابي ومواجهته، لكنها ستظل بلا طائل، طالما ظل ذلك الناموس الأعمى لمنطق القوة محركاً أساسياً لمصالح الغرب في رويته المادية للعالم.، وطالما ظل الوعي المفكك للإرهابيين، من الدواعش وغيرهم، هو رد الفعل العشوائي بالحماس الديني على ذلك الناموس."
قام بتقديم الكتاب الباحث والكاتب اللبناني المعروف الدكتور رضوان السيد، فجاء تقييمه مكثفاً مع التركيز على ما جاء في الكتاب عن الحركات الاِسلامية، وقليلاً من الجانب النظري، وربما كان مفيداً للقارئ لو توسع في هذا، فهذه المواضيع تمثل جزءاً كبيراً من أبحاثه ومشاغله. ويقول " كان المؤلف قاسياً على حسن الترابي، إنما من الناحية اللفظية فحسب، وذلك مثل الفصل الذي خصصه له: „الترابي. .. شعلة الفحم". تأتي المفارقة، عندما يقول بنفسه (أي رضوان السيد): " وقد تابعتُ حسن الترابي في أحاديثه ومحاضراته وكتبه وعمله السياسي منذ العام (1980). ولا شيء يفسر فكره وسلوكه غير غرامه الأسطوري والمرَضي بالسلطة. والمعروف أن عنده كاريزما تجذب أنصاف المتعلمين ... ويعلم الله أنني منذ العام (1980) (رأيته في عمان) ما كنت مغرماً ولا معجباً به وقد أحسستُ، منذ ذلك الحين، أن كل شيء فيه مصنوع بعيداُ من الدين، والأهم: بعيداً عن الأخلاق" ... وختم تقديمه بالثناء على الكاتب ومثمنناً الكتاب.
الخلاصة:
يحتوي كتاب محمد جميل على دراسة قيمه لنماذج من حركات الإسلام السياسي. فجاء تحليله لحركة الإخوان المسلمين في مصر (الحركة الأم) جيداً ومفصلاً، لعلني أضيف بأن تشرذم وتفكك القوي المدنية واليسارية ــ التي أشار إليها الكاتب أيضاً ــ وعدم اتفاقها على برنامج موحد، في مواجه برنامج الاِخوان سهل فوزهم. كما قامت بعض الدول الخليجية بدور فاعل في تمويل الاِعلام المضاد للثورة في مصر والمؤيد لعودة النظام القديم ، خوفاً من انتشار نموذج الديمقراطية إقليمياً بتأثير مصر.
كما أن الدور الرئد لحركة النهضة التونسية، التي جسدت أول تجربة إسلامية ديمقراطية للإسلام السياسي في البلاد العربية وجسرت الهوة بين الاِسلام والحداثة، انقطع مسارها بسيطرة الرئيس قيس سعيد على الحكم، الذي قام بتعديل الدستور وتسيس القضاة والزج بقادة حركة النهضة في السجون.
ركز الكاتب تحليله ونقده للحركة الاِسلامية في السودان على حسن الترابي فقط، ومشيراً إلى أدائه السياسي، وغفل عن آرائه وأفكاره عن الدين، والتدين وفهمه للحداثة والتجديد... المنشورة في العديد من كتبه ومقالاته. لا شك في أن الترابي يتحمل مسؤولية كبيرة في الدمار والخراب الكبير الذي أصاب الوطن، 30 عاما من حكم الإسلامويين، خاصة في العشرة سنوات الأولي من سيطرة الترابي على الحكم، والتي مثلت أبشع فترة، من الاعتقالات، والتعذيب والقتل، والفصل التعسفي من الخدمة المدنية. اما بقية العشرين عاماً فأهملها الكاتب في تحليله.
أنني استغرب تكرر دمغ الترابي بصفة السياسي المهوس بالسلطة. كيف يستطيع زعيم سياسي أو حزب سياسي تنفيذ برنامجه، دون السعي للسلطة؟
لماذا شيطنة الترابي، والشخصنة باستخدام ألفاظ مثل: الجنوح العصابي، والأخلاقي والتشنج، والتهيج والاستهزاء والهمز، والخفة (غير المحتملة) في نص جيد مثل هذا، غير مقبولة ولا تخدم النص فحسب، بل ضارة به.
لقد أصابتني الدهشة عندما قراءة مقدمة الكتاب. " ... بيد أن هناك تجربة متكاملة كان يمكن أن تشكل مادة نموذجية للنقد وآلياته، بما توفرت عليه تلك التجربة من زمن كافٍ، وتجريب صافٍ لسلطة الاِسلام السياسي كشف عن أهم خاصية له، أي البنية الاِيديولوجية الانشقاقية، التي تشتغل بكفاءة في تدمير النسيج الوطني. لكن، للأسف، ذلك لم يحدث".
لقد صدرت العديد من الكتب ومئات المقالات في نقد تجربة حكم الإسلامويين في السودان، ومن كتاب مرموقين، مثل عبد الوهاب الأفندي، والتيجاني عبد القادر والمحبوب عبد السلام وحسن مكي والراحل الطيب زين العابدين وهم ( من أبناء التنظيم، وأهل البيت)، وكتابات حيدر أبراهيم علي، ومحمد محمود، وعبد الله النعيم وعبد الله علي إبراهيم، وعشاري خليل وصديق الزيلعي وكتابه المشترك مع ناصف بشير وعمرو عباس، و أضيف للقائمة الطويلة، الكتاب الضخم (1016 صفحه) بعنوان" كولونيالية الاِسلام السياسي، أزمة الوطن والوطنية والمواطنة في خطاب الاِخوان، السودان نموذجاً" بقلم فتح الرحمن التوم الحسن، والذي صدر بعد عام من نشر كتاب محمد جميل.
عندما يطوي القارئ أخر صفحة من الكتاب، تجول في ذهنه الكثير من التساؤلات والقليل من الاِجابات، وهذا ليس عيباً، وإنما يكشف عن التفاعل مع النص وحيويته.
التحية والجهد المقدر للأخ محمد جميل لهذا البحث الرصين، فما أحوجنا لمثل هذه الكتابات الجادة، التي تدفعنا للتفكير والتأمل في واقعنا الخرب.

*محمد جميل أحمد، قناع جانوس، الإسلام السياسي وجدلية التأويل، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء \ المغرب، الطبعة الأولى: 2020
** نُشر المقالين للبروفيسور هاينر بيلفلد، الذين جاء ذكرهما في الكتاب في مجلة المستقبل العربي، بيروت ــ لبنان.
-- Heiner Bielefeldt, Muslime im säkularen Rechtstaat, vom Recht der Muslime zur Mitgestaltung der Gesellschaft.
المسلمون في دولة القانون العلمانية، حول حق مشاركة المسلمين في تشكيل المجتمع، ترجمة حامد فضل الله، المستقبل العربي، السنة 24 ، العدد 273 ( تشرين الثاني \ نوفمبر 2001) .

- Heiner Bielefeldt, Das Islambild in Deutschland: Islamophobie – konzeptionelle Kontroversen und politische Handlungsoptionen, deutsches Institut für Menschenrechte (2007)
هاينر بيلفلد ، صورة الاِسلام في ألمانيا: حول التعلم العلني مع الخوف من الاِسلام، ترجمة فادية فضة وحامد فضل الله. المستقبل العربي، السنة 31، العدد 256 ( تشرين الأول \ أكتوبر 2008 ). ص 80 ت 96 .

 

hamidfadlalla1936@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • مفوضية الانتخابات تعلن عن نظام جديد لتحديد سقف الإنفاق الانتخابي
  • Red Magic 10 Air .. أحدث هواتف الألعاب بميزات لم يسبق لها مثيل
  • الاِسلام السياسي وجدلية التأويل
  • مفوضية الانتخابات تعلن قرب إصدارها نظاما لتحديد سقف الإنفاق الانتخابي
  • تعرف على أهم الأطعمة التي تمدك بالماغنسيوم
  • والي العيون: العالم الآخر يضغط لمقاطعة الانتخابات في الصحراء التي نبنيها دون السعي لنصبح قوة ضاربة
  • «المصري الديمقراطي» لـ«صدى البلد»: زيادة عدد أعضاء البرلمان مرهون بالنظام الانتخابي المختلط
  • الإبادة في غزة تلقي بظلالها على السباق الانتخابي بكندا
  • سفير الاتحاد الأوروبي: ناقشت مع المنفي العملية السياسية التي تُيسّرها الأمم المتحدة
  • آفـة الترويض السياسي (2 – 3)