ربما جاز التأريخ لكسر الأساس الوطني للسياسة في لبنان بالعام 1982. صحيح أن الأساس هذا لم يكن صلباً، وكان دائماً عرضة لطعون واختراقات. لكنْ في 1982 نشأت، في النظرية كما الممارسة، منظومة سياسة أخرى مكتملة العدة، ما لبثت أن غلبت التقليد السياسي اللبناني وألحقته ذليلاً بها.
ما حصل آنذاك، مع انطلاق موسم الهجرة السياسية من لبنان، أن رئيس الجمهوريّة الياس سركيس، وبُعيد الغزو الإسرائيليّ، شكّل "لجنة خلاص وطني" ضمّت أبرز قادة الطوائف، ومنهم رئيس حركة أمل نبيه برّي.لكنْ رداً على مشاركة برّي، انشقّ المدعوّ حسين الموسوي عن حركته، قبل أن يؤسّس "أمل الإسلامية".
وفيما اتّهم الموسوي بري وأمل بالخيانة ووصفهما هجائيّاً، بالعلمانيّة، كانت عناصر من الحرس الثوري الإيرانيّ تتدفّق، عبر دمشق، على بعلبك. وما لبثت "أمل الإسلاميّة" أن تحولت مصدراً من مصادر الحزب الجديد الذي أُسّس في السفارة الإيرانيّة بسوريا، حاملاً اسم حزب الله. وما هي إلاّ أشهر حتّى احتل شبان الحزب والحرس معاً ثكنة الشيخ عبد الله، أهمّ ثُكن الجيش في منطقة البقاع، فاستولوا عليها وأقاموا فيها.
هذا التأسيس، الذي تلازم مع الغزو الإسرائيليّ والحرب العراقية الإيرانيّة، وفّر لطهران قاعدة لم يُرد القيّمون عليها أن يفكّروا مع باقي اللبنانيين في كيفيّة الخروج من الاحتلال الإسرائيليّ، ولا في المسائل والنزاعات الإقليميّة التي يواجهها الوضع اللبنانيّ.
ومذّاك راحت تتكاثر محاور التحطيم المنهجيّ لأساس السياسة الوطنيّ. وحتى 2005، وباستثناءات نادرة، ارتبط تناسل تلك المحاور برعاية النفوذ الأمني والعسكري السوري.
فللمرة الأولى في لبنان، نشأت إيديولوجيا رسمية تعلمنا كيف ينبغي أن نفكّر، وما المقبول وما المرفوض، وهكذا حبلت "عروبة لبنان" السورية بثالوث "جيش وشعب ومقاومة" بوصفها ترصيعاً للبيانات الحكوميّة. وصار التعطيل سمة تلازم المؤسّسات، فيُغلَق البرلمان وتسقط الحكومات بـثلث معطّل ويُحال دون انتخاب رئيس للجمهورية، أو يُملى رئيس لا يُنتخب سواه، وذلك لأسباب يصعب ربطها بالحياتين السياسيّة والدستوريّة. وغدا العنف بأشكاله كافّة سمة من سمات الحياة العامّة. وقبل اغتيال رفيق الحريري وبعده، باتت أسماء المقتولين والمخطوفين، من سياسيّين وكتّاب وصحافيّين وضبّاط، ومن لبنانيّين وعرب وغربيّين، تنافس أسماء المنضوين في نقابات مهنيّة. ولئن ترافق الربع الرابع من تلك الحقبة مع انهيار اقتصاديّ فادح ومع تفجير المرفأ، تصدّى حزب الله للحركة الإصلاحيّة في 2019 تصديه للتحقيق بتفجير المرفأ، ما ذكّر بتصدّيه للتحقيق في اغتيال الحريري. وبعدما كان من مقوّمات الكيان اللبناني توسيع رقعة الصداقات مع الدول العربيّة والغربية سواء بسواء، قامت الحكمة الجديدة على تنفير الطرفين وتوسيع رقعة العداوات، ما انعكس عزلة للبلد وإضعافاً لقدرته على معالجة كارثته الاقتصاديّة. وبعد أن تحرّر لبنان في 2000، بقي السلاح غير الشرعي مرفوعاً، وبعد ستّ سنوات خطف الحزب جنديّين إسرائيليين فجر البلد إلى حرب مدمرة. وإذ أمكن التوصّل إلى القرار 1701 مُنع الجيش عملياً من التوجّه إلى الجنوب ووضعت العوائق أمام القوات الدوليّة التي وُصفت بالعمالة لإسرائيل. أما القرار الدوليّ 1559، الذي ارتكز إليه القرار 1701، فجُعل حديث خرافة. وشُنت على السوريين حرب احتلالية ساهمت في أعمال قتل وانتهاك وتهجير موسّعة، مُتوّجةً نشاطات تدخّليّة في العراق واليمن وسواهما. وبموازاة تطييف لا سابق لحدّته، شاعت في المجتمع أفكار وقيم شديدة الرجعيّة حيال المرأة والحرّيّة والتقدّم...
واليوم يقال إنّنا على وشك الدخول في موسم هجرة مضادة إلى لبنان وإلى تقاليده السياسية والأسس الملازمة لمعناه ولاشتغاله. فرئيسا المجلس والحكومة أصدرا بياناً غير مألوف يدعو إلى وقف إطلاق النار وتطبيق القرار 1701 وانتخاب رئيس، وتحدث مندوب لبنان في الأمم المتّحدة بلغة لم تعد مسموعة منذ أربعة عقود. لكن هذه البدايات لا تزال متواضعة جداً قياساً بحجم الكارثة التي حلّت، والكارثة التي قد تحلّ فيما لو أفضى الجنون الإسرائيلي إلى احتلال الجنوب أو جزء منه. فنحن اليوم بحاجة إلى إجماع على إنهاء الحرب، يكون الحزب في عداده، وهذا كي يحملنا العالم على محمل الجد، فيضغط فعلياً على إسرائيل بما يوقف قتلها المعمّم ويؤهّلنا لمواجهة عزلتنا وإعادة البناء ومعالجة التهجير والنزوح المتفاقمين.
فلبنان ينبغي أن يعاد تأسيسه انطلاقاً من تجربته المُرّة وعِبَرها، لا بناءً على رسالة "الدعم لصمودنا" التي تلقّيناها من الوزير الإيرانيّ الزائر، أو على خطبة مرشده التي تحضّنا على مزيد من المقاومة، ولا تعدنا عملياً إلاّ بجنازات لائقة. فلا بدّ لإعادة التأسيس أن تقطع مع الماضي، ومع زمن الميليشيات، فتعلن بلدنا بلداً حيادياً حيال الصراعات المسلّحة، دولتُه الشرعيّة تقرّر أمره، وجيشها وحده يتولّى التنفيذ.
بهذا فقط نخرج من حالات الحرب الانتحاريّة من غير أن نعيش على حافّة الاحتراب الأهليّ أو في قلبه، وحينذاك يغدو الكلام عن موسم العودة السياسيّة إلى لبنان كلاماً مُقنعاً.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: عام على حرب غزة إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله رفح أحداث السودان الانتخابات الأمريكية غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية إسرائيل وحزب الله إيران وإسرائيل ة التی
إقرأ أيضاً:
وزير الخارجية والهجرة يتلقي اتصالاً هاتفياً من نظيره الإيراني
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تلقي د. بدر عبد العاطي وزير الخارجية والهجرة اتصالاً هاتفياً اليوم ٢١ نوفمبر، من "عباس عراقجي" وزير خارجية إيران، حيث تطرق الوزيران إلى تطورات الأوضاع الإقليمية، وفي مقدمتها التطورات التي يشهدها لبنان وقطاع غزة.
أعرب وزير الخارجية لنظيره الإيراني عن قلق مصر من استمرار التصعيد في المنطقة، وجدد أهمية خفض التوترات وضبط النفس في هذه المرحلة الدقيقة، مؤكداً على أهمية التوصل لوقف فوري لإطلاق النار في لبنان، واستعرض فى هذا السياق الاتصالات التي تجريها مصر مع مختلف الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة لخفض التصعيد، مشيراً إلى حرص مصر على استمرار تقديم كافة أشكال الدعم السياسي والإنساني للبنان وشعبه الشقيق. كما تناول الاتصال أزمة الشغور الرئاسي فى لبنان، حيث أكد وزير الخارجية على ضرورة دعم جميع الأطراف للبنان في هذه المرحلة الحرجة لانتخاب رئيساً للبلاد عبر توافق وطني دون تدخلات خارجية، واكد على أهمية تمكين المؤسسات اللبنانية وعلى رأسها الجيش اللبناني وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم ١٧٠١ بكافة عناصره.
كما اكد وزير الخارجية على ضرورة التوصل لوقف إطلاق النار في قطاع غزة باعتباره العنصر الرئيسى لوقف التصعيد في المنطقة، مشيرا إلى أن استمرار العدوان الاسرائيلى على قطاع غزة يخاطر باستمرار توسيع رقعة الصراع بما يتسبب فى تأجيج الأوضاع فى الإقليم.