تراجع الأحزاب المركزية لصالح الاستقطاب الجغرافي

صلاح شعيب

التحديات التي تواجه قادة وقواعد الأحزاب المركزية الآن عظيمة، وفيها المتصل بالجانب المحلي، والجيوبوليتيكي، والعالمي. فالحرب قادت الكثير من الناس إلى الرجوع إلى المناطقية في ظل انحسار دور الأحزاب المركزية، وتنامي التيارات الجهوية. وقد اكتملت دائرتا المطلبين الشمالي والوسط، والمتمثلتين في بروز خطابات سياسية جديدة تحاول استقطاب المنتمين لهذه المناطق بهدف التخلص من عبء دارفور، والنيل الأزرق، وأجزاء من كردفان.

وهناك ضمن تلك التحديات زيادة في قراءة الناس لأحداث البلاد وفقاً لمعارف ثقافية برزت في زمن العولمة الفكرية، وهي متجاوزة للصمديات الحزبية، وتهدف إلى توسيع المدارك الفكرية بعيداً عن الخلفيات الأيديولوجية.

أما على مستوى التحدي الجيوبوليتيكي فقد لاحظنا التصاعد في استمساك الرباطات الإقليمية بالقرار الوطني للصفوة النشطة. وليست هي الإمارات فقط كما يشكو مثقفون داعمون للجيش، ويغضون الطرف بكل جرأة لدور مصر التاريخي في عرقلة نهضة السودان، وراهناً دورها في تقييد حركة الجيش دون دعم تغيير ثورة ديسمبر.

وعالمياً أفرزت تجارب ثورة الاتصال معارف إبستيمية لا غنى عنها في تفسير الظاهرات المجتمعية. وما يزال الحقل الأكاديمي منفتحاً أمام منهج تعدد المناهج بوصفه الأكثر قدرة على تلاقح الرؤية السياسية مع الاقتصادية، إلى التاريخية، إلى الأنثروبولوجية، والفلسفية، وهكذا. ذلك يفضي إلى القول إن منهج الاقتصاد وحده لا يحل القضية الاقتصادية، وأن دراسة الأزمة ذات الملمح التاريخي تقتضي مزج المنهج التاريخي ذاته بالانثربولوجي، بالاقتصادي، والسيوسيولجي، للتوصل إلى قراءة أعمق. علاوة على ذلك فإن تعدد المعارف أفضل مما يفعله المنهج الواحد المظنون فيه التحليل للظاهرة محل الدرس، والتوصل للحلول المطلوبة.

تقريباً هذه التحديات البارزة تتزامن مع حربنا الأهلية المفتوحة على كل آفاق النهايات المحتملة. فالسيناريوهات التي ربما تنتهي إليها الحرب متعددة. تبدأ بإمكانية التسوية تحت الضغط الإقليمي والدولي، مروراً بانتصار أحد الطرفين، وأي منهما لن يتنازل كليةً عن سلطته للمدنيين تواً، وانتهاءً باحتمال تجزء البلاد إلى دول متعددة.

مهما تعمقت- ثم تنبأت- قراءة المحللين السودانيين، وغيرهم، فإن خاتمة المطاف لجولات الحرب تظل عصية على التنجيم السياسي. ومن هنا فإن التحديات التي تواجه أحزابنا المركزية، والتي لها الخبرة في الحراك السياسي، ستعوق حركة المدنيين، وهي لما تحلل واقع الحرب بعيداً عن النظر لثقل التدخل المحلي المناطقي، والإقليمي، والدولي.

كنا منذ فترة قد بح صوتنا في المطالبة بتقديم بعض أحزابنا المركزية تنازلات تتعلق بتخليها عن ثأرات ضد بعضها بعضاً نتيجة لما جرى في الفترة ما بين سقوط نظام الحركة الإسلامية ونشوب الحرب في أبريل 2023. وكان المطلوب هو التوافق على أسس جديدة لتفعيل دور القوى السياسية التي شاركت في الثورة، ومن ثم بناء تحالف مؤثر على الرأي العام، لإيقاف القتال بين طرفيه، وتحييد الجانبين الجيوبوليتيكي الإقليمي، والعالمي، حتى لا يوثر في ما تنتهي عليه الحرب من نتيجة قد تُفرض غصباً على السودانيين جميعهم.

ولكن يبدو أن التجاذبات السياسية الصبيانية داخل الحزب الواحد، والثأرات بين الأحزاب بعضها بعضاً، والتي تتم عقلنتها بالتلاعب باللغة- لتغدو موقفاً سياسياً موضوعياً- لا ينتج إلا التعميق لتلك التحديات الثلاثة المذكورة. ففي وقت تكسب الانحيازات المناطقية في الحرب جمهوراً جديداً كل يوم تتراجع إمكانية الأحزاب في تأكيد فاعليتها وسط دوي المدافع، وضجيج الميديا الحديثة. وكلما تمنينا أن تنتهي الأزمة بالتفاوض وجدنا حربنا في صيرورة إلى أن تصبح حرب وكالة بفعل لاعبي الإقليم القريبين، والبعيدين. ومهما توقعنا حضور الاهتمام بترميم الموقف الوطني باتحاد القوى الحزبية الثورية، تبدو لنا بين كل جولة وأخرى للتفاوض سعي المجتمع الدولي لفرض حلول على الطرفين تتوافق مع مصالحه. وكيفما حاولنا حصر الفهم للقتال في حدود أنه بين مكونين عسكريين، تصاعد قبول خطاب الكراهية لدى مؤيدي الطرفين، خصوصا لدى الجمهور البسيط في نظرته.

لو أنه لا توجد الآن ضرورة حتمية لاستئناف التحالف المدني العريض وسط الحرب المستعرة، وذلك حتى يضم كل القوى التي شاركت في الثورة، إذن فإن بقاء قوانا السياسية في لجاجها السياسي سيمهد المجال حتماً للقواعد السودانية لاستقطاب قبائلها، وقوفاً مع هذا الطرف المقاتل، أو ذاك.

في مقابل هذا التشظي المدني الكئيب تنشط الحركة الإسلامية بكل قواعدها العسكرية، والجهادية، والإعلامية، والمدنية، والاقتصادية، لملء الفراغ الملحوظ في العمل الحزبي المركزي. بل إنها على الجانب الآخر تستثمر في إذكاء نار القبلية هذي، وتحويل الصراع من كونه سياسياً إلى صراع عرقي مفتوح يضرب في النسيج القبلي داخل الإقليم، وبين جغرافيا وأخرى.

ما يزال السودان في فسحة من وحدته ما لم يصب في مقتل بمكايدات السياسيين المركزيين بعضهم بعضا.

suanajok@gmail.com

الوسومالاحزاب المركزية الاستقطاب الجغرافي التحالف المدني العريض الثورة الجهادية الحرب السودان ثورة الاتصال صلاح شعيب نظام الحركة الإسلامية

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الاحزاب المركزية الثورة الجهادية الحرب السودان ثورة الاتصال صلاح شعيب الأحزاب المرکزیة

إقرأ أيضاً:

بين الحاضر والماضي... رحلة النزوح اللبنانية التي لم تنتهِ "ألم يرفض النسيان"

في زوايا ذلك الملجأ المظلم، تقف "فريال محسن"، تلتف حولها ذكريات مؤلمة كالجروح المفتوحة، التي تأبى أن تندمل، فقبل 18 عامًا، نزحت فريال من منزلها في جنوب لبنان، تحت قصف الطائرات، حين ضربت الحرب في يوليو 2006 أركان حياتها، كان ذلك الملجأ الملاذ الوحيد لأطفالها، مكانًا أمانًا نسبيًا أمام الرعب المتمدد في كل أرجاء الجنوب، واليوم، تعود مجددًا إلى الملجأ ذاته، ليس لأنها تجرّعت قسوة الحرب مرة أخرى فقط، بل لأنها لم تكن تتخيل أن يأتي يوم تعيد فيه تجربة الهروب ذاتها، تصف فريال ذلك الشعور قائلة: "لم أصدق أنني سأعود إلى هذا المكان، كنت أظن أنني قد طويت هذه الصفحة إلى الأبد، لكن الحرب لا ترحم".

ريما شاهين، جارة فريال في الملجأ، تروي الحكاية ذاتها، ولكن بألم أعمق، هي أيضًا نزحت من الجنوب، تذكرت كيف دفنت الحرب في المرة السابقة أسرًا كاملة تحت الركام، كل شيء كان هدفًا للقصف، البيوت، المدارس، وحتى دور العبادة، تستعيد لحظات الفزع التي عاشتها، حين كانت الأمطار من الصواريخ تتساقط فوقهم، قائلة: "لم يعد هناك مكان آمن، لقد قضوا على كل شيء حي، دفنوا أحلامنا مرة أخرى تحت أنقاض هذه الحرب".

أوجاع الملجأ تتكرر: أمهات الجنوب اللبناني بين فزع الماضي وحقيقة الحاضر القاسية

تصف كلماتها مشهد القرى المدمرة، القرى التي لم تُشفَ بعد من ندوب الحرب السابقة، ومع كل صوت انفجار جديد، يتجدد الفزع في قلوب الأطفال، يعود الرعب ليتسرب في أحلامهم، يجبرهم على مغادرة مقاعد الدراسة والاحتماء في أقبية المباني المتهالكة، فقد تحولت المدارس لملاجئ ضيقة لا تكفي لاستيعاب جميع النازحين، الذين تقدر أعدادهم بمئات الآلاف.

وزير الخارجية اللبناني، عبدالله بو حبيب، أعلن مؤخرًا أن عدد النازحين قد يصل إلى نصف مليون شخص، والأرقام في تصاعد مستمر، أحياء كاملة أصبحت خالية من سكانها، يخيم عليها الحزن والدمار، وعلى الرغم من المحاولات المستمرة للإغاثة، إلا أن حياة هؤلاء النازحين تتدهور يومًا بعد يوم، يتنقلون من منطقة لأخرى، يتجرعون مرارة الاقتلاع من جذورهم مرة تلو الأخرى.

في هذا الظلام الحالك، تقف بهية الحريري، النائبة في مجلس النواب اللبناني، صارخة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وصوتها يرتعش، "الشعب اللبناني في خطر شديد"، تروي كيف دُمرت الأراضي الزراعية، وكيف دُفنت أحلام آلاف الأسر تحت الأنقاض، تعبر عن قلقها إزاء استمرار التصعيد الذي قد يجر البلاد إلى كوارث جديدة، خاصة بعد أن طلبت العديد من الدول من رعاياها مغادرة لبنان، وكأن الجميع يستعد لمواجهة الأسوأ.

ويقول أحد النازحين من قرية "عيناتا"، بينما يحاول أن يهدئ روع أطفاله في أحد الملاجئ المكتظة: "لم نعد نحتمل هذا الألم، كلما بدأنا نبني حياتنا، تنهار أمام أعيننا تحت وطأة الحروب، كيف نشرح لهم أن هذه ليست حياتهم الطبيعية؟".

قصة نزوحهم ليست مجرد أرقام في تقرير إخباري، هي دماء تسيل من جراح لم تلتئم، أصوات صرخات ودموع أمهات فقدن الأمان، قلوب تقطعت وذهبت هباءً أمام همجية الحرب، لبنان الجريح، يجثو مجددًا تحت وطأة النزوح، وتعود معاناة الناس لتتكرّر، ولكنها هذه المرة، تأتي أكثر وجعًا، لأنه من المأساة أن يعيد التاريخ نفسه بألم أعنف وأشد قسوة.

مقالات مشابهة

  • سعر الدولار اليوم السبت 5 أكتوبر في ظل استمرار التحديات التي تواجه الأسواق العالمية وتأثيراتها على الاقتصاد المصري
  • «إكسترا نيوز»: انتصارات أكتوبر ملحمة وطنية لتكاتف الشعب والقيادة السياسية والقوات المسلحة
  • حماد يناقش التحديات والعراقيل التي تعترض تطوير المنظومة التعليمية
  • طرابلس | اجتماع لبحث مطالبات المواطنين بتعويضاتهم عن العقارات التي تم نزع ملكيتها لصالح المنفعة العامة
  • بين الحاضر والماضي... رحلة النزوح اللبنانية التي لم تنتهِ "ألم يرفض النسيان"
  • القيادة المركزية الأمريكية: نفذنا ضربات ضد 15 هدفا في المناطق التي تسيطر عليها مليشيا الحوثي الإرهابية في اليمن
  • الحزب الشيوعي السوداني يكشف عن إصابة عضواً في لجنته المركزية برصاص الدعم السريع
  • ورشة عمل لمناقشة التحديات التي تواجه القطاع الخاص
  • أستاذ العلوم السياسية: نتنياهو يصر على إشعال فتيل الحرب في الشرق الأوسط