صحيفة الاتحاد:
2024-12-28@04:29:48 GMT

في الفلسفة: تأمل في النقطة اللانهائية

تاريخ النشر: 6th, October 2024 GMT

في 1 ديسمبر 1930 استقل الأديب الفرنسي أنطوان دو سانت اكزوبيري طيارته. كانت صبيحة جميلة، وغطى سراب المجهول على أنفاسه. حلق عالياً ثم اختفى كشعاع من الضوء، ابتلعه ظلام المجهول. لم يعرف لحد الآن مصير صاحب «أرض البشر». هل اجتاز حاجز الزمن وانتقل إلى عالم آخر؟ أم أنه ذهب يحلق بأجنحة الحرية، مستكشفاً سر الوجود.

ففي ظل هذا الكون المليء بالألغاز والغموض تتحول الحياة إلى متاهة كبيرة. وكما قال في روايته تلك: «القوة الحقيقية للإنسان تنبع من داخله، من إرادته وتصميمه على التحليق عالياً».
لطالما تم النظر إلى الوجود، خصوصاً في الفلسفة الأنوارية العقلانية، على أنه مجال معطى قابل للحساب. فالغموض والالتباس هما أمران عارضان سيتمكن العقل من استجلائهما. والحال أنه بداية من الفلسفة المعاصرة سيبدأ هذا الاعتقاد في التزحزح. لقد أصبح الغموض والتعقيد بنية أساسية مكونة للوجود. فالحياة تشبه متاهة لا نهائية مليئة بالعراقيل والتحديات، على عكس النسق الهيجيلي الخاضع للترتيب المنطقي الصارم، يبدو عالمنا مليئاً بالتناقضات غير القابلة للحل، والاختلافات الصعبة المعالجة. «الهوية اللانهائية» كما سماها جيل دولوز والتعدد الذي يستحيل اختزاله داخل وحدة متطابقة. في المتاهة لا توجد قواعد أو ترتيبات محددة، بل فقط تدفق لا نهائي للتعدد والاختلاف. هيراقليطية من دون هدف محدد تسعى إليه، باستثناء التحرر والنمو الذاتي. 
في كتابهما «ألف هضبة»، يؤكد جيل دولوز وفليب غواتاري، أن الواقع ليس كياناً مستقراً وثابتاً، بل هو عبارة عن شبكة من الأسطح المتعددة، المتداخلة والمترابطة مع بعضها بعضاً. لذلك يستخدم الكاتبان فكرة الريزوم أو الجذمور، والمقصود به أن الأفكار والمفاهيم تمتد على شكل جذور متفرعة وعرضية، تماماً كما تفعل النباتات، عندما تمد جذورها بشكل متشابك ومعقد داخل التربة، منتجة تبرعمات وتفرعات لا نهائية. وإذا كان الحال كذلك فهذا معناه أن قراءتنا للواقع، لا يمكن أن تكون خطية ومباشرة. لابد من تطوير طرق جديدة وغير تقليدية، من أجل فهم الوجود والتفاعل معه. 
هل الوعي مرض؟ يقول الفيلسوف الإسباني أونامونو: «إن الإنسان لكونه إنساناً، لكونه يمتلك الوعي، هو قياساً بالحمار أو السرطان حيوان مريض، والوعي مرض». إن ما يود أن يكشف عنه أونامونو في هذا القول، هو الطابع المزدوج للوعي البشري. إنه من ناحية يجلب الألم والمعاناة للإنسان، عكس باقي الكائنات التي تظل سعيدة في لا وعيها، وفي اندماجها التام مع الطبيعة. لكنه من ناحية أخرى يمكننا من فهم الوجود، وفهم مأساتنا في هذه الحياة، بل وتحقيق العديد من الإنجازات بفضله. قد يظهر كما لو أن أونامونو يقوم بتجريح غير مبرر للوعي، عندما يعتبره مرضاً. سيتفق الجميع على أن الوعي ليس دائماً مصدراً للتعاسة والألم، لأنه بفضله انتقلنا من الكهوف إلى التفكير في تعمير النجوم. ولكن في الحقيقة فإن نقطة القوة في فكرته، هي إشاراته إلى الطابع المفارق للوعي، والذي يحول دون أن يتم اختزاله فقط في مجرد الإدراك الذهني، أو الصيغ العقلانية الحسابية، التي يمكن أن يقدمها العلم على سبيل المثال.
يرتد الوعي في بعض لحظاته كي يكون عبارة عن تجربة باطنية، غير أنه في حقيقته لا بد أن يكون عبارة عن إحاطة شاملة واستطلاع واسع للسراديب المكونة لهذه المتاهة. فالوعي في علوه لا يعني أنه انفلات خارج العالم، أو رفضا للمعطى. بل هو رحلة شاقة أحياناً، ومشوقة في أحايين أخرى. شاقة لأنها تمتزج بالخوف والألم والمعاناة. ومشوقة لأنها أيضاً تمتزج بالإرادة والشجاعة والحرية. 
الوعي كانفصال الخروج من المتاهة يعني تحقيق الحرية، واكتشاف الحقيقة، وتطوير النمو الشخصي، عبر الصبر واكتساب الحكمة والمعرفة. كما يشير إلى فك الارتباط، والتحرر من الحجب والقيود التي يفرضها الواقع المزيف. اكتشاف طرق مختلفة وجديدة للتفكير والتصرف. الأمر لا يعني إذاً الهروب من الواقع ورفضه، بل توسيع أفقنا المعرفي، وتفتيح أذهاننا من أجل فهم ما هو قائم. بطريقة أخرى يقتضي الخروج من المتاهة، الشك في طبيعة الواقع المفروض علينا، مما يستلزم حضور قوة الإدراك.
إن الحرية تحيل بداية إلى تشكيل وعي جديد، يتجاوز الحدود المفروضة علينا. الغوص في طبقات الأسطح المتعددة، والاستعداد لاستكشاف المجهول. إدراك الترابطات الخفية بين كافة العناصر. فما الفلسفة سوى جاهزية الوعي لاستقبال الجديد.
يجب أن نتذكر هنا نقطة أساسية وهي أننا إذا كنا قادرين على الهروب من المتاهة، فهذا يعني أن وعينا لا يتطابق مع العالم المعطى، بل هو يعلو عليه. إن كل وعي هو وعي بالانفصال عن العالم المادي والمعطى المباشر. هذا المنظور للوعي يختلف تماماً عما تحاول العلوم التجريبية، وبالضبط علم الأعصاب تطويره حالياً. عندما تختزل الوعي إلى مجرد عمل للجهاز العصبي وللنورونات، مما يعني في نظرها أنه يمكننا أن نفك شفرته، بل تخزينه داخل الشرائح الإلكترونية، ومحاكاته في الذكاء الاصطناعي.
الوعي والعلو أن الحياة رحلة معقدة، مؤلمة، لكنها في الآن ذاته مشوقة، لأنه رغم الألم والمعاناة فهي تسمح لنا بإمكانية عيش تجربة الانفصال عن المتاهة التي تطوقنا، والاتصال بمبدأ أعلى وحقيقة سامية، تعلو على عالم الظاهر. التأمل في النقطة اللانهائية للألف التي بحث عنها خورخي بورخيس.
كل وعي هو وعي بشيء أكبر، شيء يتجاوز حدود ونطاق الوعي ذاته. ثمة نظريات كثيرة تؤكد اليوم هذا الطرح: نظرية الوعي الكوني. والوعي الكمومي. ثم نظرية الوعي الروحي. إضافة إلى العديد من الظواهر التي لا يمكن إنكارها، لأنه تمت معاينتها تجريبياً، بل تم قياسها بواسطة أجهزة طبية دقيقة. مثل تجارب الاقتراب من الموت Near death expérience والخروج من الجسد، وتجارب التخاطر وتحريك الأشياء عن بعد Psychokinésie وتجارب الاستشفاء الذاتي.
نفس الفكرة كذلك نجدها عند الفيلسوف الأميركي طوماس ناجل الذي يؤكد أن هناك جوانب من الواقع لا يمكن فهمها بالكامل، باستخدام المنهج التقليدي للمعرفة، فهي جوانب ستظل تفوق قدراتنا على الفهم والتفسير، متجاوزاً بذلك التفسيرات الاختزالية للعقل. ستظل دائماً هناك أشياء غير قابلة للحل، خاصة في ضوء النموذج المعرفي التقليدي. إن هذا هو ما يمكن أن نسميه بالغموضية الجديدة أو الإلتباسية the ambiguity التي ترفض كون العالم المادي، هو المعطى الفيزيائي الوحيد الذي يمكن للعقل التعامل معه. في مقاله الشهير: ماذا يعني أن يكون شعورك كوطواط؟ يتناول طوماس ناجل لغز الوعي البشري ويستكشف الفجوة الحاصلة بين الإدراك العلمي الموضوعي للعالم، وتجربة الوعي الذاتية. إن بعض الظواهر على سبيل المثال، أن يفكر الإنسان كوطواط قد لا تكون قابلة للفهم بالكامل من خلال العلم لأن هذا الطائر يعيش تجربة وعي خاصة مختلفة جذرياً عن تجربتنا، حتى وإن عرفنا كل شيء عن الطبيعة البيولوجية لدماغ الوطواط. هذا الالتباس الأنطولوجي، هو ما نعيشه اليوم وهو ما ستزداد حدته في المستقبل. المجهول على تخوم المتاهة، بل هو في قلب المتاهة الجديدة. 

أخبار ذات صلة في الأدب: خروج المنتصر من التيه في السينما: نمو داخلي للعقل والروح

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الفلسفة الثقافة السرطان

إقرأ أيضاً:

د. عصام محمد عبد القادر يكتب: الوعي الثقافي.. تعضيد الهُوِيَّة

ننشغل بماهية الهُوِيَّة؛ كونها من دعائم الاستقرار، ومقوم تحقيق الأمن والأمان للأوطان، ومن الثوابت التي تسهم في تعزيز اللغة، والمعتقد، وداعم رئيس لتوجيه السلوك في مساره الصحيح، وضمانة لحفظ مقدرات الوطن، وما به من تراث، وما يمتلكه من حضارة، وعبر كل ذلك يستطيع الإنسان أن يرسم تطلعاته ويبرهن عن طموحه ويعتز بثقافته ويفتخر بمكون حضارته ويشارك بقوة في نهضة دولته.


والوعي الثقافي من مقومات تعزيز الهُوِيَّة دون مواربة؛ حيث تعضيد شعور الإنسان بالتفرد والتميز في ضوء ما يمتلكه من تراث ثقافي وما لديه من زخائر حضارية متراكمة عبر تاريخ غائر يؤكد على أصالة الجذور وسبق الجميع على وجه المعمورة، وهنا ندعي أن هذا النمط من الوعي يسهم في تحسين المقدرة على الاختيار، بل ويساعد في اكتشاف ما نملكه من مقومات ومهارات نوعية، ويحثنا دومًا على اكتساب مزيد من المعارف والمهارات في مختلف الفنون ومجالاتها.


وعندما يدرك الإنسان ما قدمه السابقون من تراث وما أضافته الأجيال تلو الأخرى من أجل بناء حضارة تتسم بالتسلسل والتكامل؛ فإنه يسعى جاهدًا من أجل أن يكون أداة للبناء، يضيف لهذا الرصيد من خلال ما يقدمه من طيب عمل ومبتكر ناجع وفكر راق رشيد وسلوك قويم يرفع من شأنه ومن مقدار مجتمعه، ويعلى من قدر الدولة ويصبغ الاتجاهات بمتلون الإيجابية لمن يحاول أن يكتشف طبيعة المجتمعات ويدرس خصائصها بطرائق أضحت ممكنة ومتاحة. 


وتعضيد الهُوِيَّة عبر بوابة التنمية الثقافية ومسارات تنمية الوعي الممنهجة، تمكن الفرد من أن يواجه مخاطر وسلبيات من يروجون لثقافات أضحت مآربها معلومة لدينا؛ فالخطورة هنا نرصدها في محاولات إضعاف الهُوِيَّة؛ ليستبدل الإنسان ثقافته بأخرى تحقق له تطلعًا وآمالًا مكذوبة، وتذهب بأمنياته لدائرة الغرق التي لا يستطيع أن يخرج منها في ضوء ما تمتلئ به من نفعية صرفه؛ حيث يأتي الوطن في المؤخرة والغاية الخاصة في الصدارة.
وكون أن العالم أصبح قرية صغيرة بات أمرًا لا جدال حوله، وهذا يدعونا أن نولي اهتمامًا خاصًا بتنمية الوعي الثقافي؛ كي نعزز مكنون الهُوِيَّة التي يستطيع الفرد من خلالها أن يتعامل مع كافة المتغيرات التقنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بما يحقق النفع العام لوطنه وبما يحميه من الانزلاق في بئر الخلاف والشرذمة؛ ومن ثم يتعرض لمخاطر مثلث تدمير الشعوب والأوطان.


ودعونا نؤكد على أن الوعي الثقافي يهيئ البيئة المواتية التي تجعل المواطن يؤدي ما يوكل إليه من مهام، وفق ما يعزز العادات والتقاليد التي يتبناها المجتمع، وفي ضوء ما يعضد منظومة القيم المجتمعية والخلق الحميد، وهذا ما يضمن تحقيق التماسك المجتمعي والتآلف حول المصالح العليا للوطن، كما يجعل الفرد مطمئنًا لما يقوم به، وهنا اعتقد أن يشعر بمزيد من الرضا والسعادة؛ ومن ثم يؤمن بفلسفة الاندماج الاجتماعي؛ حيث يمكنه من أن يدشن شبكة علاقات داخلية وخارجية تحقق ماهية التعايش السلمي سواءً أكان ذلك في خضم تعامله المباشرة أو عبر الفضاء الرقمي.


ودور الوعي الثقافي في تعضيد الهُوِيَّة يحمينا من كافة المحاولات التي تستهدف صهر الثقافات الأصيلة في بوتقة الثقافات المستحدثة، وهنا أود الإشارة إلى أن الغرض من هذا الأمر ليس فقط إضعاف الهُوِيَّة؛ لكن إصابة المنظومة القيمية بعطب في تفعيل ممارساتها، ودون شك نصف ذلك بالخطر الجسيم؛ حيث إن تعطيل هذه المنظومة تخرجنا من حيز الأمان والتماسك والترابط والتكافل لحيز النفعية وحب التملك والاستحواذ، بل وتمكن أصحاب القلوب المريضة من تفعيل مقدرتهم على ترويج فكرة المزج أو الدمج أو التوليف للثقافة الأصيلة بالثقافة المستوردة.


ومن أجل تعضيد الهُوِيَّة يلزم أن نعي أهمية لغتنا القومية باعتبارها مكون رئيس للثقافة المصرية، وأن الاهتمام بلغتنا الجميلة عبر إتقان فنونها والتعرف على ما بها من ثراء ومعاني لا يقابلها أي لغة أخرى، وهذا يفرض على الآخر احترام ثقافتنا وتقدير مكونها الأصيل من قيم ولغة وعادات وتقاليد ومكتسبات ساهمت في إثراء المعرفة العالمية.


وندرك أن الثراء الثقافي يقوم على فلسفة التفاعل الثقافي مع العالم بأسره؛ حيث يتوجب علينا الانفتاح المنضبط الذي يقوم على غاية التبادل الفكري والحياتي والحضاري، بما يعزز مجال الخبرة، ويمكن من تنمية كافة المجالات العلمية والعملية والحياتية وفق أسس ومعايير واضحة تقوم على ماهية الأخذ والعطاء والتأثير والتأثر الإيجابي، بما لا يؤدي إلى النيل من الهُوِيَّة أو محاولة إضعافها.


إن تنمية وتعزيز الوعي الثقافي لدى شبابنا بات من آليات وأدوات تعضيد الهُوِيَّة؛ فمن يدرك عمق ثقافته ويعي غور حضارته ويعلم أن نهضته وتقدم دولته مرهون بتوافر وعي ثقافي يجعله يحافظ على مقدراته في ظل زخم لا متناهي لإفرازات الفضاء الرقمي الذي أضحى التعامل معه فرض عين في شتى مجالات الحياة.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.

مقالات مشابهة

  • باحث سياسي: ضبط السلاح النقطة الأساسية لاستقرار سوريا (فيديو)
  • باحث سياسي: ضبط السلاح النقطة الأساسية لاستقرار سوريا
  • د. عصام محمد عبد القادر يكتب: الوعي الثقافي.. تعضيد الهُوِيَّة
  • غياب المجلس التشريعي نتج عنه هذه المتاهة التي نحن فيها !!..
  • برج العذراء وحظك اليوم الجمعة 27 ديسمبر 2024| تأمل بعمق
  • معركةُ الوعي
  • نيوكاسل يونايتد يقسو على أستون فيلا بثلاثية في الدوري الإنجليزي
  • الضغوط النفسية
  • «المروج والهلال» يواصلان التألق في «الدوري الممتاز»
  • شاهد بالفيديو.. على أنغام الربابة.. فتيات سودانيات يتفاعلن في الرقص ويتبادلن الأحضان مع الشباب خلال “رحلة” خاصة ويحصلن على أموال طائلة من النقطة