قراءة تقنية لسياسة الاغتيالات وأسبابها
تاريخ النشر: 5th, October 2024 GMT
تشير أحداث الحرب الدائرة بين الكيان الصهيوني المدعوم أمريكيا وغربيا وبين قوى المقاومة في فلسطين عموما ولبنان إلى مستجدات لم تكن في الحسبان؛ فأظهرت عمليات الاغتيال التي نفذها الكيان الصهيوني في عدد كبير من أبرز قيادات حزب الله بما فيهم أمينه العام "حسن نصرالله" أبجديات جديدة للحرب الحاصلة تتداخل فيها عدة عوامل منها العامل الاستخباراتي الذي يقبع بين شقيه التجسسي البشري التقليدي، والتجسسي التقني المتقدم، ويتفرّع من الأخير العامل التقني الذي يدخل في عمليات التصفية والاغتيال بشكل مباشر، وتظل هناك مجموعة من الأسئلة يلفها الغموض؛ منها: لماذا نجحت إسرائيل في اغتيال قيادات لحزب الله رغم التفوق التقني والعسكري للحزب، ولكنها فشلت في تحقيق هذا بشكل نسبي وكبير مع قيادات حماس في غزة؟ ولماذا حصلت هذه الاغتيالات في زمن متقارب عبر عمليات اغتيال متواصلة ومتقاربة زمنيا لقيادات بارزة في الحزب؟ ولماذا هذا الزمن، وليس زمن سابق؟ وما علاقة حادثة تفجير أجهزة الاتصال اللاسلكي التي سبقت تكثيف عمليات الاغتيال؟ وماذا يمكن أن نقرأ من الناحية التقنية والرقمية خصوصا فيما يتعلق باستعمالات الذكاء الاصطناعي في الحروب؟ والأهم ماذا ينبغي علينا أن ندركه من هذه الأحداث ونتعلمه؟
لتشريح هذه المسألة المعقّدة، نحتاج إلى تحديد بعض العناصر المهمة التي يمكن أن نستند إليها في هذه القراءة؛ فنبدأ بفهم التكوين العسكري لحزب الله وبيئته المجتمعية، وكذلك الحال لحركة المقاومة الفلسطينية حماس؛ فمن حيث التكوين العسكري تتجاوز قوة حزب الله العسكرية القوة العسكرية لحماس - وفقَ ما تُجمع عليه الدراسات الإعلامية واستطلاعاتها- من حيث العتاد العسكري وتقدمه التقني، وعدد المقاتلين، والقوة المالية، والجغرافيا المفتوحة التي تتيح له ما لا يُتاح لحماس، ولكن من حيث البيئة والبنية المجتمعية؛ فيقبع حزب الله في مجتمع أكثر تباينا من المجتمع الذي تقبع فيه حماس؛ فتتجلى مظاهر التعقيد المجتمعي في لبنان بوجود الفوارق الدينية والمذهبية والسياسية واختلافاتها، والتي تفاقم تعقيدها مع حزب الله مؤخرا منذ الأزمة السورية والتحالف الذي أقامه الحزب مع النظام السوري لأسباب تراها بعض المصادر أنها مصيرية ووجودية، ويراها خصوم الحزب تدخلات خارجية، وقاد هذا إلى احتمالية حدوث اختراقات استخباراتية إسرائيلية كبيرة للحزب؛ فضاعف من الممارسات التجسسية الإسرائيلية التي رأت فرصَ نجاحها أكثر من أيّ زمن مضى.
نأتي إلى عنصر آخر يمكن استنتاج حدوثه نتيجة إدراكنا لحيثيات العنصر الأول المذكور آنفا، ويتمثل في دور العمليات التجسسية والاستخباراتية داخل العمق اللبناني منذ سنوات طويلة كما تبين عبر عدة تقارير تشير إلى أن بداية ذروة هذه الممارسات الاستخباراتية الإسرائيلية ضد حزب الله وتصاعدها منذ عام 2006م - بعد الحرب الأخيرة بين الكيان الصهيوني وحزب الله-، ويقودنا هذا إلى تحديد ملامح العنصر الثاني الذي يتفرّع من النشاطات الاستخباراتية الإسرائيلية؛ فيظهر أن أحد هذه الملامح ما يخص توظيف التقنيات بأنواعها بدءا بالتقليدية ووصولا إلى الذكاء الاصطناعي؛ حيث إن البيئة المجتمعية اللبنانية حاضنة ملائمة لنمو الخلايا الرقمية والتقنية المسخّرة للنشاطات الاستخباراتية، وهذا ما تفتقد إسرائيل تحقيقه في غزة التي لا يستبعد أن سبب ضعفه وجود الوعي السياسي والأمني لدى حركات المقاومة في غزة التي تملك رصيدا من الخبرة في فن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وقراءته من الداخل، ونظرا إلى الحصار بكل أنواعه الذي حدّ من تكاثر التقنيات في القطاع واستعمالاتها.
شاهدنا مقطعا مرئيا لحسن نصرالله قبل أيام من اغتياله يحذر فيه المواطنين اللبنانيين عامة من استعمال الأجهزة الإلكترونية بما فيها أجهزة التصوير العامة والخاصة المتصلة بالإنترنت، وهذه إشارة إلى اكتشاف تأخر موعده من قبل الحزب لخطر هذه الأجهزة المرتبطة بأنظمة الاتصال، ولعلّ حادثة تفجير "البيجر" أشعلت هذا الهاجس الأمني من مخاطر هذه الأجهزة والتقنيات التي تنتشر في كل لبنان، وهنا يتضح أن للأنشطة التجسسية البشرية دورًا مهمًّا في عمليات التفعيل لهذه التقنيات وتوظيفها بجانب أساليبهم التقليدية التي تمارس منذ آلاف السنين من قبل المجموعات السياسية والعسكرية في العالم، ولعلّ ما جاء به الفيلسوف والقائد الصيني "سون زو" في كتابه "فن الحرب" الذي كتبه في القرن السادس قبل الميلاد خير دليل على قدم هذه الأساليب الاستخباراتية والعسكرية التي ما زال استعمالها فعالا حتى يومنا. نعود إلى قضية توظيف التقنيات المتقدمة في لبنان من قبل الكيان الصهيوني الذي نجح في زراعة بعضها وتفعيله عبر عملائه، ونجح في استغلال الأخرى نظرا لرواجها داخل المجتمع اللبناني المنفتح على كل جديد؛ فيمكن أن نتصور أن الحرب الاستخباراتية التي يديرها الكيان الصهيوني ضد حزب الله تعتمد في مجملها على البيانات التي يلتقطها بشكل مستمر وبكثافة عبر أجهزة إلكترونية متصلة بأنظمة الاتصال منها بيانات مرئية تأتي بواسطة أجهزة التصوير التي تنتشر في كل لبنان شوارعها ومبانيها، وبيانات صوتية تستقبلها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية عبر الاختراقات غير المكشوفة لأجهزة الاتصال وشبكاتها وعبر أنظمه لا نعلم ماهية بعضها منها ما يتعلق بأنظمة الإنترنت الفضائية مثل "ستارلينك" التي يملكها "إيلون ماسك"، وسبق مؤخرا أن حذر الرئيس البرازيلي من نشاطاتها التجسسية التي تخدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية واستخباراتها، وكذلك بجانب دور الطائرات التجسسية بدون طيار -اللاقطة للبيانات الصوتية والمرئية- التي تعتبرها إسرائيل وحلفاؤها الوسيلة التجسسية الرقمية الأقوى في غزة. تشكّل هذه البيانات وبكمياتها الكبيرة والمستمرة في التدفق وقودا مهما لخوارزميات الذكاء الاصطناعي التي يمكنها أن تحلل هذه البيانات وتعالجها بدقة وسرعة عالية؛ فينتج من ذلك صناعة قرارات استخباراتية تفوق في سرعتها وسريتها ودقتها ما ينتجه العملاء البشريون؛ فترصد تحركات الشخصيات المستهدفة وتحدد مواقعهم، وترشد الأسلحة الموجّهة إلى مواقعهم وتوقيت تسديد الضربة القاتلة.
يتجلّى لنا عبر هذه التحديات التي تواجه المجتمع اللبناني عموما وحزب الله خصوصا أن المشكلة عميقة، وترتبط بوجود خلايا تجسسية كبيرة، وكذلك نشاط استخباراتي تقني ورقمي معقّد زاد تعقيدا مع تصاعد تطويرات الذكاء الاصطناعي التي لا نعلم شيئا عن مستجداته السرية التي تُجرّب في المختبرات والميادين العسكرية، ويملك الكيان الصهيوني بالإضافة إلى حليفه الأمريكي هذه الأدوات وأسرارها المتطورة. نحتاج أن نخرج بدروس من هذه الأحداث المؤسفة، وأوّلها أن لا نثق في المنتجات التقنية -الإلكترونية والرقمية- التي تحيط بنا في بيوتنا وشوارعنا ومواقع أعمالنا لمخاطرها المتعلقة بالنشاطات التجسسية الممكنة واستعمالاتها العسكرية، ومن هذه الأجهزة هواتفنا التي سبق أن حذرنا -بكل يقين- ارتباطها بنشاطات تجسسية تقوم بها شركات رقمية وتسويقية كبرى تهدف -في واقعها الحالي- إلى جمع بيانات شخصية -صوتية ومكتوبة- للمستخدمين لأغراض تسويقية وتجارية، ولعلّ مآربها الأخرى -التي لم يصرّح عنها بشكل رسمي- تمتد إلى أهداف سياسية تشمل التجسس الاستخباراتي، وكذلك أجهزة التصوير "الكاميرات"، والتقنيات الأخرى وأجهزتها التي ترتبط بسياراتنا ومنازلنا. يدعونا هذا إلى فتح نافذة الحوار الصادق مع أنفسنا ومجتمعاتنا في ضرورة الاستعجال في تأسيس مشروعات الاستقلال الصناعي بكل أنواعها وأهمها التقنية والرقمية، والنهوض بالكوادر البشرية العربية وتسخير مقدراتها المعرفية والعقلية في جميع مشارب الحياة ومحافلها؛ فالحياة لا تعترف إلا بالأقوياء.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی الکیان الصهیونی حزب الله فی غزة
إقرأ أيضاً:
بدء النسخة التاسعة لبرنامج المبادئ والمرتكزات الموجهة لسياسة الدولة
العُمانية: بدأت اليوم بمقر الأكاديمية الدبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية أعمال برنامج المبادئ والمرتكزات الموجّهة للسياسة الداخلية والخارجية للدولة في نسخته التاسعة، برعاية سعادة السّيد سليمان بن حمود البوسعيدي نائب الأمين العام لمجلس الوزراء، ويستمر حتى ٢٤ من أبريل الجاري.
ويسعى البرنامج الذي تنظمه وزارة العمل بالتعاون مع وزارة الخارجية في نسخته التاسعة إلى تعزيز التعاون الإقليمي والدولي بما يسهم في رفع مكانة الدولة عالميًّا.
وقال سعادةُ السّفير الشيخ حميد بن علي المعني رئيس الأكاديمية الدبلوماسية في كلمته: إن البرنامج يمثل إطارا يوجه السياسات العامة ويعكس الرؤية الاستراتيجية التي تقوم عليها القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع التأكيد على التوازن بين التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية وتحقيق الاستقرار وتعزيز الهوية الثقافية.
وأضاف أن البرنامج يشمل مبادئ تهدف إلى تعزيز الوحدة الوطنية وحقوق المواطن في بيئة مستقرة مع تعزيز سيادة القانون والمساواة بين أفراد المجتمع.
من جانبه قال الدكتور محمد بن مصطفى النجار مدير عام التدريب بوزارة العمل إن الوزارة وبالتعاون مع وزارة الخارجية تولي البرنامج أهمية لكونه يستعرض أهم المبادئ والمرتكزات التي نص عليها النظام الأساسي للدولة ذات الصلة بالجوانب السياسية والدبلوماسية.
وأشار إلى أن البرنامج يتضمن مناقشة عدد من الموضوعات المهمة المتعلقة بالجوانب الأمنية والإدارية التي يسعى من خلالها إلى إطلاع المشاركين على التطورات والمستجدات الداخلية والخارجية الراهنة وتزويدهم بالمعلومات والاتجاهات الحديثة وكيفية التعامل مع المتغيرات المستقبلية وتوظيفها بالشكل المناسب في اتخاذ القرارات الصائبة.
وأفاد بأن البرنامج سيكون له بالغ الأثر في تحقيق الأهداف المرجوة منه، من خلال المشاركة الفاعلة والحوارات البناءة والمناقشة الثرية.
ولفت إلى أن تنظيم البرنامج يأتي في مرحلة تشهد فيها المنطقة تطورات وتقوم سلطنة عُمان بدور محوري وأساسي، وهنا جاءت أهمية تطوير البرنامج في نسخته التاسعة في شقه السياسي الخارجي والداخلي، مضيفا أنه تم التركيز على عدة محاور تمثلت في اللامركزية في المحافظات والمبادرات وأهم المشروعات والسياسة الخارجية والتوجهات الخارجية لسلطنة عمان.
ووضح أن البرنامج يستعرض تجربة عدد من أصحاب السعادة السفراء على الصعيدين الدولي والإقليمي وانعكاس وتأثير تلك التجربة من عدة جوانب منها الثقافية والاقتصادية، ليستفيد منها المشاركون.
ويستعرض البرنامج على مدى أربعة أيام تجربة عدد من السفراء والمسؤولين وصناع القرار في عدة محاور منها الحصانات والامتيازات الدبلوماسية والأقدمية والأسبقية والتوجهات السياسية الخارجية لسلطنة عُمان والخطة الخمسية الحادية عشرة والإجادة المؤسسية بالإضافة إلى مدخل العلاقات الدولية والفرق بين السياسة والدبلوماسية.