ترجمة: أحمد شافعي -
أثارت ضربة إيران الصاروخية البالستية لإسرائيل في الأول من أكتوبر مخاوف من حرب شاملة في الشرق الأوسط. فقد بدأت دوامة إراقة الدماء المتزايدة في السابع عشر والثامن عشر من سبتمبر بتفجير آلاف من أجهزة البيجر واللاسلكي التي تستعملها عناصر حزب الله في أنحاء لبنان، وهي عملية غير مسبوقة اعتبرها أحد المحللين "أوسع ضربة سلسلة إمداد مادية في التاريخ".
تؤكد هذه الحلقة الأخيرة الانهيار شبه التام للردع في الشرق الأوسط. إذ تقبل الجهات الفاعلة الدولتية وغير الدولتية على مخاطر هائلة. كان بوسع عملية البيجر ـ بوصفها عملية فريدة ـ أن تشير إلى عزم إسرائيل على أن تجبر حزب الله على التراجع عن التصعيد أو مواجهة حرب كارثية. لكن قرارات إسرائيل باغتيال نصر الله وتكثيف الغارات على لبنان بل والشروع في غزو بري تشير جميعا إلى احتمالية أشد قتامة هي أن القصد من عملية البيجر لم يكن إلا وضع حزب الله في موقف دفاعي ليكون ذلك مقدمة لتوغل عسكري إسرائيلي أشمل.
على مدى قرابة عقدين من الزمن، ساد هدوء نسبي الحدود الإسرائيلية اللبنانية. لكن التصعيد الأخير يكشف حقيقة أن المنطقة باتت أشد خطورة منذ هجمة حماس في السابع من أكتوبر وما أعقبها من صراع غزة. لم يعد الشرق الأوسط ملتزما بقواعد الاشتباك وأساليب الردع المستقرة. فالافتراضات الحاكمة للسلوك وحسابات المخاطر لدى الفاعلين الدولتيين وغير الدولتيين في المنطقة تَبيد يوما بعد الآخر. والخطوط الحمراء الواضحة وقواعد اللعبة المقبولة من مختلف الأطراف غائبة غيابا صارخا. ومثلها القنوات المضمونة التي يمكن للأطراف من خلالها التراجع عن التصعيد.
بوسع الولايات المتحدة أن تعيد تأسيس نفوذها المتلاشي وأن تقوم بدور حاسم في استرداد الردع في منطقة تشعر فيها البلاد والجماعات المسلحة الآن أنها قادرة على التصرف تصرفات طائشة. لكن على الولايات المتحدة أن تعترف أولا بأن السياسات الراهنة بالية وغير كافية. إذ إن الولايات المتحدة مستمرة في الاعتماد إلى حد كبير على أساليب عسكرية في الردع تقصر عن مراعاة التحولات التي تزعزع المنطقة، من قبيل اجتراء فاعلين غير دولتيين، وانفلات فاعلين دولتيين، وتقنيات تخريبية. لا بد أن تساعد واشنطن جميع الأطراف على تقليص احتمالية الخطأ في الحسابات والعمل على إيقاف تآكل الردع الذي أشعل فتيل العنف. وإذا لم تفعل هذا، فإنها ستخاطر بالانزلاق إلى صراع إقليمي له تداعيات عالمية.
محور الانتهازيين
طالما لعبت الجهات الفاعلة غير الدولتية دورا مزعزعا للاستقرار في الشرق الأوسط. لكن بعد السابع من أكتوبر، تمكنت مجموعة فضفاضة من الجماعات المتحالفة مع إيران تعرف بـ"محور المقاومة" من إعاقة المنطقة على أنحاء غير مسبوقة. فبعد يوم واحد لا أكثر من هجمة حماس، بدأ حزب الله سلسلة ضربات على شمال إسرائيل أرغمت ما لا يقل عن ستين ألف إسرائيلي على ترك منازلهم، بما أدى فعليا إلى خلق منطقة عازلة بطول خمسة كيلومترات داخل إسرائيل. وكبّدت هجمات إسرائيل الانتقامية المدنيين اللبنانيين ثمنا هائلا، بتشريد مئات الألوف منهم وقتل أكثر من ألف، مع زيادة ضخمة في حصيلة الموتى منذ منتصف سبتمبر.
انضمت أيضا "الميلشيات" في العراق إلى القتال في أواخر أكتوبر، باستهداف قوات أمريكية متمركزة في العراق وسوريا. فعلى سبيل المثال قامت جماعات عراقية عديدة تعمل تحت مظلة المقاومة الإسلامية في العراق بتنفيذ أكثر من مئة هجمة على أهداف أمريكية بالإضافة إلى ضربات موجهة لإسرائيل. وأحدث تلك الأمثلة هو إعلان المقاومة الإسلامية في العراق مسؤوليتها عن هجمة طائرة مسيرة على مدينة إيلات الإسرائيلية في 25 سبتمبر.
في نوفمبر 2023، شنت جماعة الحوثيين اليمنية حملة مستمرة من الهجمات على أكثر من مئة سفينة تجارية في البحر الأحمر، معطلة التجارة العالمية ومسفرة عن تأخير وتكلفة في شحن الحاويات من آسيا إلى أوروبا وأمريكا الشمالية. وفي مزيد من الجرأة استعمل الحوثيون طائرة مسيرة لمهاجمة تل أبيب في يوليو مما أدى إلى مصرع فرد وإصابة عشرة آخرين. وردت إسرائيل باستهداف ميناء الحديدة اليمني الذي يتولى 70% من واردات اليمن التجارية و80% من مساعداته الإنسانية، مما أدى إلى شلل في وصول المساعدات الأساسية إلى البلد الذي مزقته الحرب. في سبتمبر، اطلق الحوثيون صاروخا بعيد المدى وصل إلى وسط إسرائيل، وفي وقت تال من الشهر، زعمت الجماعة أنها ضربت مدينتي تل أبيب وعسقلان في هجمتين منفصلتين بالمسيرات، فردت إسرائيل على ذلك بضربات واسعة النطاق للحديدة. وسلوك الحوثيين مثال للقرارت الخطيرة الاستفزازية التي تصاحب انهيار الردع في ظل أن العمل العسكري المنسق من الولايات المتحدة وحلفائها لم ينجح كثيرا في كبح جماح الجماعة.
تسارع تآكل الردع في الشرق الأوسط بسبب تحول أكبر تمثل في فهم مفاده أن السيطرة الأمريكية في المنطقة تتلاشى. وفي ظل محاولة صناع السياسة الأمريكيين أن يبتعدوا عن الشرق الأوسط، سعى الفاعلون غير الدولتيين إلى الاستفادة من ذلك، معتقدين أنهم باتوا قادرين على فرض أنفسهم بمزيد من الحرية سعيا إلى تحقيق أغراضهم. وتحقيقا لتلك الأغراض، تعززت مكانتهم بسهولة الحصول إلى المسيرات والصواريخ وبالسردية الشعبية التي تضعهم في مقابل إسرائيل والولايات المتحدة. ودفعتهم هجمة السابع من أكتوبر إلى انتهاز الفرص لإحداث الاضطرابات. وبرغم أن إسرائيل ألحقت بحماس وحزب الله انتكاسات كبيرة، فإن الاضطراب الناجم عن الفاعلين غير الدولتيين ألقى الضوء على أزمة الردع التي تشابك فيها الفاعلون الدولتيون مع أوضح وأعنف حلقات التصعيد المنفلت.
خصوم قدامى..عداوات جديدة
أدى انهيار الردع أيضا إلى مواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل. وليس الوابل الإيراني الأخير الذي انصب على إسرائيل انتقاما لاغتيال نصر الله إلا أحدث حلقات المواجهة المباشرة بين الخصمين. ففي ابريل، انتقمت إيران من ضربة إسرائيلية لمبنى قنصلي إيراني في دمشق أدى إلى قتل العديد من ضباط الحرس الثوري الإيراني من بينهم قائدان رفيعا المستوى بإطلاق وابل من أكثر من ثلاثمئة صاروخ ومسيرة على إسرائيل. فأنهت تلك الهجمة قواعد الاشتباك القديمة التي ظلت حاكمة لـ"الحرب الخفية" بين البلدين، فقد تسعى فيها إيران إلى إيذاء إسرائيل من خلال وكلاء وأفعال سرية لكنها تحجم عن مهاجمة خصمها مباشرة. وفي ظل تلك السابقة، افترضت إسرائيل مخطئة أن رد إيران على الهجمة الإسرائيلية التي استهدفت مجمعها الدبلوماسي في دمشق سوف يكون محدودا. لكن حسابات المخاطرة لدى طهران تغيرت بما قد يعكس إيمانا لدى صناع السياسة الإيرانيين بأن ضربات إسرائيل متزايدة الاستفزاز قد استوجبت ردا أقوى وأوضح. اختارت إيران أن تخرج من وراء ستار الإنكار الذي يوفره وكلاؤها. لكن رد إسرائيل على هجوم ابريل الإيراني كان دالا، فقد اختارت انتقاما بسيطا لكنه محدد، إذ ضربت أهدافا قليلة قريبة من مواقع عسكرية ونووية إيرانية حساسة. وحتى مع تغاضي القادة عن التصرفات متزايدة الخطورة، لم يبدُ أن أحدا يريد خروجا للصراع عن السيطرة.
ومع ذلك استمرت دائرة التصعيد. ففي الشهور التالية، قام الجانبان بتصعيد الهجمات. فأثارت الضربات الإسرائيلية المتوالية لبيروت وطهران في يوليو وتبادل الصواريخ الكبير في أغسطس مخاوف من حرب شاملة. وجاء تصعيد سبتمبر الإسرائيلي ليجدد تلك المخاوف.
يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ـ الذي طالما اعتُبر متجنبا للمخاطر إلى حد كبير ـ أشد عزما على قبول مخاطرات أكبر، مثلما يتبين من اغتيال نصر الله والضربات المستمرة للبنان، والعملية المخابراتية الجريئة ضد حزب الله، واغتيال زعيم حماس إسماعيل هنية في طهران في شهر يوليو. وبالنظر إلى هذه الخطوات مجتمعة فإنها تشير إلى أن الزعيم الإسرائيلي مستعد للمقامرة بأن مضاعفة القوة العسكرية لاسترداد الردع وإعاقة الخطر الذي يمثله محور المقاومة تفوق مخاطر إثارة حرب إقليمية.
يجد الشرق الأوسط نفسه الآن في لحظة خطيرة. فالاتفاقيات القديمة الحاكمة للتصعيد نُحِّيت جانبا، وظهر فاعلون جدد، والجميع يتنافسون على الهيمنة. ونتيجة لذلك، فإن هوامش منع حرب شاملة باتت أضيق من ذي قبل. والأخطر من ذلك كله هو أن جهود إعادة إقامة الردع تقتصر إلى حد كبير على استعمال القوة. فكل طرف يقوم بتصعيد عسكري لردع الآخر. والعجز عن الرد بالقوة على عمل عدائي قد يكون بمقام دعوة إلى مزيد من الاستفزاز، ولكن الرد بالقوة أيضا يولد المزيد من التصعيد. وفي أي من الحالتين، يرجَّح أن يتصاعد العنف بشكل لا يمكن السيطرة عليه.
هندسة السلام
لا بد أن تعيد الولايات المتحدة تقييم نهجها في منطقة باتت المواجهة المباشرة فيها بين إيران وإسرائيل واقعا ولم يعد فيها من رادع للفاعلين غير الدولتيين المستمرين في التصعيد. فحتى تاريخه، نجح الحوثيون في إيقاف الشحن العالمي في البحر الأحمر برغم اشتباك عسكري أميركي غير هين، ولم تتمكن مجموعات حاملات الطائرات الأميركية المتمركزة في المنطقة من ردع حزب الله عن شن هجمات لا هوادة فيها ضد شمال إسرائيل. وبرغم تحالفها الوثيق مع إسرائيل ودعمها الحاسم للجيش الإسرائيلي، عجزت الولايات المتحدة عن تثبيط نتنياهو عن المخاطرة. لا بد أن تستحدث واشنطن نهجا جديدا يوظف كل أدوات القوة الأمريكية لمعالجة واقع الشرق الأوسط الجديد الأشد خطورة. ويجب أن تنبني هذه الإستراتيجية الجديدة على الحالات التي تحقق فيها الردع ومنع التصعيد.
لا بد لاستراتيجية ردع أمريكية محدثة في الشرق الأوسط أن تقوم أولا بتعزيز وتنظيم آليات القنوات الخلفية القادرة على تخفيف خطر الحسابات الخاطئة والفهم الخاطئ. يمكن أن تدعم الولايات المتحدة وساطة هادئة يقوم بها طرف ثالث من خلال بلاد من قبيل سلطنة عمان التي لعبت دورا حاسما في تمرير الرسائل بين الولايات المتحدة وإيران خلال لحظات التوتر الشديد. ويجب أيضا أن تنظر في إقامة شبكة خطوط ساخنة بين إسرائيل ومصر ودول الخليج، وإيران لمساعدة المسؤولين على اجتناب مواجهة غير مقصودة. ويجب أن تعتمد الولايات المتحدة على أطراف ثالثة لها اتصالات مباشرة مع جماعات محظورة، منها فاعلون دولتيون من قبيل قطر وفاعلون سياسيون من أمثال الزعيم الشيعي نبيه بري في لبنان، للمحافظة على خطوط تواصل مع الفاعلين غير الدولتيين. وفي الحالات الأشد خطورة، ينبغي أن يكون لدى الولايات المتحدة خط ساخن مباشر مع إيران.
وبرغم أن الولايات المتحدة تعتمد في بعض الأحيان على العقوبات الاقتصادية أكثر مما ينبغي فإنها قد تكون أداة فعالة من أدوات السياسة الأمريكية في المنطقة طالما أنها تتم بتنسيق وبحساب. وقبل فرض عقوبات جديدة، يجب أن تجد الولايات المتحدة سبلا أفضل لتفعيل العقوبات المفروضة سلفا، ومن ذلك بذل جهود أكثر إبداعا لإنهاء بيع النفط الإيراني الخاضع لعقوبات أمريكية للصين باستعمال تكتيكات "الأسطول الأسود"، حيث تعطل السفن قدرات التعقب لديها اجتنابا لكشفها. يجب أن تعمق واشنطن أيضا تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الدول الصديقة وأن تعمل على صياغة خطط أكثر تنسيقا مع الحلفاء الأوروبيين لاتخاذ إجراءات منسقة تستهدف برامج الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة الإيرانية على غرار الجهود المشتركة المعلنة في سبتمبر بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لزيادة الضغط على إيران في أعقاب نقل إيران للصواريخ الباليستية قصيرة المدى إلى روسيا.
بوسع الولايات المتحدة أن تساعد في ردع العنف في المنطقة بتقوية قدراتها العسكرية الخاصة. فقد أثبتت تكنولوجيا المسيرات المضادة والدفاعات الصاروخية أنها ضرورة لإيقاف تصعيد إبريل بين إيران وإسرائيل. غير أن هذه الأسلحة تتطور على نحو مستمر. يجب أن تضع الولايات المتحدة أولوية للابتكار في هذه التكنولوجيا بتعميق شراكات القطاع الخاص، ومكافأة الإبداع في التصنيع، وتقصير الجدول الزمني لهذه الأسلحة منذ تصميمها وحتى إنتاجها بحجم كبير. ويجب أيضا أن تستغل الذكاء الاصطناعي بل وبعض التقنيات المستخدمة في ألعاب الكمبيوتر لتوقع التهديدات بشكل أفضل وتطوير الاستجابات الأكثر فعالية للتقلبات في الشرق الأوسط.
ولكن على واشنطن قبل إطلاق أي صاروخ أن تعترف بالدور التأسيسي للدبلوماسية في إقامة الردع. فالاستراتيجية الدبلوماسية الفعالة في المنطقة سوف تعيد بناء الردع ليس فقط عن طريق التهديد والقهر، ولكن من خلال إيجاد حوافز إيجابية أيضا من شأنها أن تتفادى الصراع. فقبل عام واحد من هجمة السابع من أكتوبر، توصلت إسرائيل ولبنان إلى اتفاقية حدود بحرية تاريخية بمساعدة دبلوماسية بارعة من الولايات المتحدة ووعد بمنافع حقيقية للطرفين. كان كل طرف يرجو أن يستغل أصول الغاز الطبيعي القيمة في البحر الأبيض المتوسط. وقد أدت تسوية قضية الحدود البحرية إلى القضاء على مصدر للخلاف كان من الممكن أن يؤدي لولا ذلك إلى أعمال عدائية كان من شأنها أن تقوض حتما مشاريع الغاز الطبيعي تلك. وبصفة أعم، قد يؤدي منح الفاعلين غير الدولتيين المزعجين ما يمكن أن يخسروه إلى تحويل حسابات المخاطر الخاصة بهم بعيدا عن العنف وتقريبها من السلام والمصالحة. ولمزيد من إخماد الصراع في الشرق الأوسط، ينبغي للولايات المتحدة أن تساعد في تسهيل إقامة بنية أمن إقليمي تأخذ شكل شراكات أمنية واتفاقيات تعاون بين البلاد ذات التفكير المتماثل، وآلية وساطة ومنتدى لحل الصراعات سلميا وهو ما تفتقر إليه بشدة هذه المنطقة التي تعد أكثر المناطق التي مزقتها الصراعات في العالم.
وفي غياب هذه الإصلاحات، يصبح الوضع الراهن غير قابل للاستمرار. فقد فشلت نماذج الردع العتيقة في الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين حيث ينعم الفاعلون غير الدولتيين بسهولة الوصول إلى الطائرات المسيرة وغيرها من التقنيات المتطورة في الحرب. وما من سبيل إلى تجنب الكارثة إلا إعادة صياغة نهج الردع الأميركي الحالي في الشرق الأوسط.
* منى يعقوبيان نائبة رئيس مركز الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد الولايات المتحدة للسلام
* عن فورين أفيرز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة السابع من أکتوبر فی الشرق الأوسط على إسرائیل فی المنطقة المتحدة أن فی العراق نصر الله حزب الله من خلال أکثر من
إقرأ أيضاً:
الأكراد.. رابع أكبر مجموعة عرقية في الشرق الأوسط
مجموعة عرقية ذات أغلبية مسلمة، تشترك في التاريخ واللغة والثقافة والحيز الجغرافي، وتعد رابع أكبر مجموعة عرقية في الشرق الأوسط، ويقدر تعدادها ما بين 36.4 مليونا و45.6 مليون نسمة وفق إحصائية نشرها المعهد الكردي بباريس عام 2017، وتنتشر حول العالم، ويتركز وجودها في 4 دول، هي: تركيا وإيران والعراق وسوريا.
الأصل والمنشأاختلف المؤرخون في الجذور التي يعود إليها العرق الكردي، فقد مال بعض المؤرخين إلى أن الأكراد هم السكان الأصليون لجبال آسيا الصغرى، وقد كانوا مزيجا من قبائل عديدة قديمة محلية سكنت المنطقة الممتدة من غربي المنحدرات الشرقية لسلسلة جبال طوروس في تركيا وحتى جبال زاغروس غرب إيران.
ويذكر مؤرخون أن الأكراد ينحدرون من أصول عربية، وكانوا قد هاجروا إلى جبال كردستان، وانقطعوا عن لغتهم الأم بسبب بعدهم واختلاطهم بغيرهم. وتؤكد بعض القبائل الكردية أنها تنحدر من أصول عربية، مثل: قبيلة الجاف والبهدينان والقيسانية والخالدية والمروانية.
وهناك رأي تعضده اكتشافات أثرية أن الأكراد ينحدرون من الجنس الآري، من فرع العائلة الهندوأوروبية، وهاجروا على شكل موجات من وسط آسيا، في الفترة ما بين القرنين الـ12 والـ9 قبل الميلاد، واستوطنوا المنطقة التي أصبح يطلق عليها كردستان إلى جانب الأقلية من السكان الأصليين.
وامتدت كردستان عبر أجزاء من غرب آسيا، وغطت مناطق في 4 دول رئيسية: تركيا شمالا وإيران شرقا والعراق جنوبا وسوريا غربا، ووقعت ضمن سلسلة جبال زاغروس غرب إيران وكانت تحتضن منابع أنهار رئيسية مثل دجلة والفرات.
وتعود أصول الكرد إلى 4 شعوب آرية هي: كرمانج وكوران ولور وكلهر، وهي من أقدم الشعوب الآرية التي أسست حضارة مزدهرة في هضبة إيران والمناطق المحيطة بها، وتمكنت من فرض هيمنتها ولغتها الكردية على القبائل الآرية الأخرى في المنطقة.
إعلانوكلمة "كرد" تعني في اللغة الكردية الشجاع الغيور، وهي تقارب معنى اللفظ الفارسي في المعاجم الفارسية، وتعني البطل أو المحارب أو الشجاع.
الدين واللغةوتدين الغالبية العظمى من الأكراد بالإسلام على المذهب السني، كما تعتنق طوائف منهم المذهب الشيعي، ومنهم من يدين بالمسيحية واليهودية واليزيدية واليارسانية.
ولا يجتمع الأكراد على لغة موحدة، بل يتحدثون الكثير من اللهجات المنبثقة من اللغات القديمة، مثل: البهلوية والسنسكريتية والميدية، وتختلف تلك اللهجات اختلافا بيِّنا، وتتباين باختلاف القبائل والمناطق.
ومن أشهر تلك اللهجات:
اللهجة الكورمانجية: وهي لهجة سائدة بين الأكراد، يتحدث بها أكراد تركيا وسوريا وأرمينيا وأذربيجان، وإقليم الموصل وزبار في العراق. اللهجة السورانية: ويتحدث بها غالبية الأكراد في إيران والسليمانية وأربيل وكركوك في العراق. لهجة فيلي: وهي أقل انتشارا من اللهجتين السابقتين، ويتحدث بها بعض أكراد إيران وبعض أكراد بغداد وبدرة وكوت العمارة في العراق. لهجة جوراني: وهي لهجة بعض أكراد العراق وجنوب إيران. لهجة كلهوري: يتحدث بها القليل من أكراد العراق وإيران. المكونات الأيديولوجيةوتتنوع التوجهات الأيديولوجية في المجتمع الكردي، ويبرز فيها التيار القومي الذي يُعتبر توجها شائعا بين الأكراد في الدول الأربع (إيران وتركيا والعراق وسوريا)، ويمثل التيار أحزاب وحركات، أبرزها الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق وحزب العمال الكردستاني في تركيا والاتحاد الديمقراطي في سوريا.
وينتشر التيار الإسلامي بين الأكراد، ويمثله أحزاب وجماعات عديدة أبرزها: الاتحاد الإسلامي الكردستاني والجماعة الإسلامية والحركة الإسلامية وجماعة أنصار الإسلام في العراق، وحزب الدعوة الحرة في تركيا، واتحاد علماء المسلمين الكرد والحزب الإسلامي الكردي السوري وحركة الحق والعدالة الإسلامية الكردية في سوريا.
إعلانومن الإيديولوجيات البارزة بين الأكراد التيار اليساري، ويمثله حزب كادحي كردستان في العراق، والحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران، وحزب العمال الكردستاني في تركيا، حزب الحياة الحرة الكردي (بيجاك) في إيران.
كرديات في مدينة ماردين التركية يرتدين اللباس الشعبي الكردي (شترستوك) التاريخ القديمشكّلت القبائل الآرية التي استوطنت منطقة كردستان في عصور ما قبل التاريخ فروع العرق الكردي في المنطقة، وكانت تلك القبائل كثيرا ما تتوحد سياسيا تحت راية بعض الفروع البارزة، وتكوِّن دولا قوية وحضارات مزدهرة، مثل حضارة الغوتیین (أواخر الألفية الثالثة ق.م) والميتانيين (الألفية الثانية ق.م).
ومن أبرز فروع أسلاف الكرد:
فرع لولّو: وهو شعب زاغروسي جبلي، ويُرجع بعض الباحثين وجودهم في المنطقة إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، وامتد نفوذهم إلى نحو عام 1900 قبل الميلاد، حتى أصبح اسمهم يدل على كل القبائل الجبلية، وفي القرن الثامن قبل الميلاد أصبحت مناطق لولوبي (تقع في منطقة إقليم كردستان العراق وأجزاء من غرب إيران) مشهورة باسم زاموا. فرع غوتي: وينتمي إلى شعوب زاغروس الكبرى، ويعتقد الباحثون أنه الفرع الأم للأمة الكردية، وقد أسس أبناؤه في أواخر الألفية الثالثة قبل الميلاد مملكة في جنوبي إقليم كردستان العراق، وامتدت إلى منطقة بوتان شرقا (تضم أجزاء من منطقة إقليم كردستان العراق وتمتد إلى نهر بوتان تشاي أحدر روافد نهر دجلة)، ودمروا مملكة آكد، وفرضوا سلطتهم على بابل، وهيَّؤوا مناخا ملائما لانتشار ثقافة متجانسة في تلك الجغرافيا. قوم کاشو (الكاساي): استوطنوا الجزء الأوسط من سلسلة جبال زاغروس، وتعاونوا مع الغوتيين واللولو للاستيلاء على بابل وبلاد سومر سنة 1760 قبل الميلاد تقريبا، وحكموهما نحو 6 قرون، وفي فترات قوتهم سيطروا كذلك على قبائل كردية أخرى، مثل قبائل غوتي. فرع حوري: ظهر الحوريون في الألفية الثالثة قبل الميلاد، في المنطقة الواقعة بين منعطف نهر الفرات والمجرى العلوي لنهر دجلة، وكان مرکزهم منطقة مثلث ينابيع الخابور، وبرز دورهم الحضاري في منتصف الألفية الثانية، حين أسسوا مملكة ميتاني التي وحدت أسلاف الأكراد في تكوين سياسي وثقافي متجانس، وعممت الثقافة الآرية، وشمل نفوذها منطقة کردستان وشمال سوريا وصولا إلى البحر المتوسط. فرع سوباري: ويضم قبائل كبيرة تنتمي إلى شعوب زاغروس، واستوطنت وادي الرافدين وسوريا والأناضول، وفي عهد الحكومات الآشورية أطلق على هذا الفرع نايري، ويرى بعض المؤرخين أن سوباري اسم أطلقه السومريون على الغوتیین. فرع خلدي (نايري): استطاع النايريون أن يوحدوا جميع أقوام كُردستان في كيان واحد، وامتدت مملكتهم في أوج ازدهارها من بحيرة أورميا (شمال غرب إيران) شرقا إلى الفرات غربا والقفقاس (الاسم العربي القديم الذي يُستخدم للإشارة إلى منطقة القوقاز) شمالا، وانتهى حكمهم سنة 585 قبل الميلاد. إعلانويرى مؤرخون أن الدولة الميدية التي ظهرت في القرن الثامن قبل الميلاد هي بداية التاريخ الفعلي للدولة الكردية، إذ فرضت هيمنتها على الفروع الأخرى، وأسست كيانا إثنولوجيا وحضاريا متميزا، وعملت على تكريس الهوية الآرية بدلالتها الثقافية.
وتمكّن المديون من ضم بعض القبائل الإيرانية، وأطاحوا بالدولة الآشورية في مطلع القرن السابع قبل الميلاد، وسيطروا على إيران ووسط الأناضول، وفي منتصف القرن السابع قبل الميلاد تأسست الدولة الأخمينية التي استطاعت تقويض الدولة الميدية والسيطرة على المنطقة.
وفي عام 331 قبل الميلاد، استولى الإسكندر المقدوني على بلاد ميديا، وبسط هيمنته على المناطق الكردية الجنوبية، وبعد وفاته عام 323 قبل الميلاد أصبحت غالبية المناطق الكردية تحت سيطرة قائده سلوقس الأول، وفي تلك الحقبة ساد طابع الحضارة الإغريقية في المجتمع.
وفي القرن الثاني قبل الميلاد تأسست الدولة الفرثية، وسيطرت على بلاد فارس وبابل والمناطق الكردية، وبدأت تصطدم بالنفوذ الروماني المتجه نحو الشرق، وأسفر الصدام عن إبرام معاهدة وقعت قبل الميلاد بسنة واحدة، تنازلت بموجبها الدولة الفرثية عن مناطق أرمينيا والمنطقة الكردية للدولة الرومانية التي حكمتها حتى القرن الرابع الميلادي، حين حلت الإمبراطورية البيزنطية محلها.
بعد الفتح الإسلاميشهد إقليم كردستان في القرن السابع الميلادي الفتح العربي الإسلامي، وحينئذ اعتنقت الغالبية العظمى من الشعب الكردي الإسلام، ومعظمهم كانوا يدينون بالزرادشتية، لكنهم احتفظوا بلغتهم والعناصر المميزة للثقافة الكردية كعادة الأمم التي تعتنق الإسلام دينا.
وفي العهد الإسلامي، حكمت بعض السلالات الكردية منطقة كردستان، وبرز في القرن العاشر الميلادي 4 إمارات كردية رئيسية: الشداديون في الشمال (951م-1174م)، والحسنويون (959م-1015م) وبنو عناز (990م-1116م) في الشرق، والمروانيون (990م-1096م) في الغرب.
إعلانوكان الأيوبيون من أشهر السلالات الكردية الحاكمة (1169م-1250م)، لا سيما في عهد الملك صلاح الدين الأيوبي الذي شملت دولته كامل كردستان وسوريا ومصر واليمن تقريبا، ومع منتصف القرن الثالث عشر الميلادي تعرضت المنطقة للغزو المغولي.
وفي عهد السلاجقة العظام، حُوّلت المنطقة الكردية التي كانت تسمى ميديا إلى مقاطعة، وأطلق عليها لأول مرة اسم كردستان، وذلك حوالي عام 1150، وشملت المقاطعة ولايتي سنجار وشهرزور غرب سلسلة جبال زاغروس، وولايات همدان وديناور وكرمانشاه شرقها.
وظلت المناطق الكردية جميعها جزءا من الأراضي الإيرانية التاريخية حتى عام 1514، حين تم تقسيمها على إثر انتصار العثمانيين على الصفويين في معركة جالديران، وحازت الدولة العثمانية حينئذ على نحو 3 أرباع كردستان، وضمت كردستان الشمالية والغربية والجنوبية، ولاحقا أصبح يُطلق على المناطق الثلاث اسم كردستان العثمانية.
ومنح العثمانيون الحكم الذاتي لكردستان العثمانية، التي شملت في ذلك الوقت 17 إمارة تتمتع باستقلال ذاتي واسع النطاق، وفي مقابل ذلك كان على الأكراد حماية الحدود بين الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية، والقتال إلى جانب العثمانيين في حالة نشوب صراع فارسي عثماني، وأرسى هذا الوضع السلام لكردستان لنحو 3 قرون.
في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وضع الحلفاء معاهدة سيفر عام 1920، وكان ضمن بعض موادها تأسيس دولة كردية مستقلة تحت اسم كردستان، ولكن معاهدة لوزان التي جاءت بعد 3 سنوات، ألغت المعاهدة السابقة، وقضت بتوزيع المنطقة الكردية بين 4 بلدان، وحصلت تركيا على نحو نصف الإقليم، وقُسم النصف الآخر بين إيران والعراق، باستثناء جزء صغير مُنح لسوريا.
الانتشار الجغرافيتعتبر منطقة كردستان الموطن الأصلي والتاريخي للأكراد منذ عصور ما قبل التاريخ، وهو إقليم فسيح تقدر مساحته بنحو 200 ألف ميل مربع (تعادل 518 كيلومترا مربعا)، ويأخذ شكل مثلث، رأسه يمثله جبل أرارات (شمال شرقي الأناضول في تركيا)، وتشكل جبال زاغروس ضلعه الجنوبي الشرقي، وجبال طوروس ضلعه الشمالي الغربي، والتخوم الشرقية لبلاد ما بين النهرين قاعدته في الجنوب الغربي.
إعلانوتقع تلك المنطقة ضمن 4 دول هي تركيا والعراق وسوريا وإيران، وتقطنها الغالبية العظمى من الأكراد، بخلاف نسبة قليلة هاجرت إلى أنحاء مختلفة من العالم.
الأكراد في تركياتنتمي نصف مساحة كردستان إلى تركيا، وتقع هذه المساحة في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية من البلاد، ويعيش فيها أغلبية كردية ساحقة، على الرغم من الأعداد الكبيرة التي هاجرت أو رُحّلت قسرا.
ويعد الأكراد أكبر أقلية عرقية ولغوية في تركيا، ولا توجد إحصائية مؤكدة حول تعدادهم في البلاد، وقد تباينت التقديرات بشأنهم بشكل ملحوظ، وتشير معظم التقديرات إلى أنهم يشكلون نسبة تتراوح بين 15 و20% من سكان البلاد، حسب ما ذكرته منظمة "مجموعة حقوق الأقليات" الدولية غير حكومية، بينما يرى المعهد الكردي بباريس أن نسبتهم تفوق ذلك، وقد تصل إلى 25% من المجموع الكلي للسكان في عموم تركيا، بتعداد يبلغ نحو 20 مليون نسمة.
وكانت الدولة التركية قد اعتمدت في أعقاب تأسيس الجمهورية عام 1923 سياسة تفكيك المؤسسات والمجتمعات الكردية، بما في ذلك حظر اللغة الكردية في التعليم، وإيقاف المؤسسات والمدارس والمطبوعات الكردية، ووقف التمردات المنادية بالاستقلال.
وفي الستينيات والسبعينيات بدأ الأكراد بمطالبة الحكومة بالاعتراف بالقومية الكردية، وأخذت وتيرة المطالبات بالارتفاع حتى وصلت أوجها عام 1984 حين اتجه حزب العمال الكردستاني لاستخدام المقاومة المسلحة ضد الحكومة.
وأصبحت مسألة الأكراد والصراع المسلح لتقرير المصير من القضايا المزمنة التي تؤرق الحكومة التركية، الرافضة لأي تحرك كردي نحو الاستقلال عن الدولة.
وفي العقدين الأخيرين من القرن العشرين، شهدت البلاد أكثر فترات الصراع دموية بين الأكراد والجيش التركي، وقتلت المليشيات الكردية الآلاف، بما في ذلك، جنود في الجيش التركي ومدنيون من الأتراك وأكراد اعتبرتهم متعاونين مع الحكومة.
إعلانوللسيطرة على الوضع، قامت الحكومة على مدى سنوات بإخلاء قسري لأكثر من 3 آلاف قرية كردية، كانت محور الصراع مع حزب العمال الكردستاني، والترحيل القسري الداخلي لمليون كردي على أقل تقدير، فضلا عن عشرات الآلاف من الضحايا، الذين سقطوا جرّاء الصراع.
وفي عام 1999، اعتقل زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، وأودع السجن، وفي العام نفسه، أعلن حزب العمال وقف إطلاق النار من جهة واحدة، لكنه عاد واستأنف العمل العسكري عام 2004، واستهدفت عناصره مدنيين في مدن تركية عدة.
ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، تسلم حزب العدالة والتنمية زمام الحكم في تركيا، وبدأت الحكومة حينئذ دعم توجهات حقيقية نحو إيجاد حل سلمي للمسألة الكردية.
وبالفعل، اتُّخذت خطوات قانونية وتنموية تجاه تحقيق المساواة في الحقوق، وتأمين فرص للأكراد في مختلف المجالات السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية، مع توفير مساحة أكبر لحرية التعبير عن الهوية الكردية.
وكان من أبرز تلك الخطوات:
تعديل قانون حظر تعليم اللغة الكردية. إلغاء الحظر المفروض على تسمية المواليد بأسماء كردية. إلغاء "لائحة البث الإذاعي والتلفزيوني الخاص" التي تُقيد البث الإذاعي والتلفزيوني بلغات ولهجات غير تركية. إقرار حق التأليف والنشر باللغة الكردية. إقرار قانون "إنهاء الإرهاب وتمتين الوحدة المجتمعية"، الذي يسمح بعودة من يُلقي السلاح لبيته ويضمن مشاركته في الحياة المجتمعية. تنمية مناطق جنوبي شرق البلاد ذات الأغلبية الكردية، عبر إنشاء عشرات المشاريع الاقتصادية والتنموية، مثل: الطرق والمستشفيات والمطارات والجامعات والمرافق سياحية.وانعكست تلك الإصلاحات على الحركة السياسية الكردية، فأصبح للأكراد حضور متزايد في الحياة السياسية، وشهدت الانتخابات الرئاسية لعام 2014، ولأول مرة مرشحا كرديا للرئاسة، هو صلاح الدين دميرطاش، وعلى الرغم من عدم فوزه، فقد سجل ذلك الحدث سابقة في تاريخ السياسة التركية.
إعلانوفي عام 2015، شارك حزب الشعوب الديمقراطي، المحسوب على حزب العمال الكردستاني، في الانتخابات التشريعية، وتمكن من الفوز بـ13% من مجموع الأصوات، والحصول على 80 مقعدا في البرلمان، لكنه خسر 19 مقعدا منها في انتخابات الإعادة التي أقيمت في العام نفسه، بسبب تعثر المفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية، وفي انتخابات عام 2018 ارتفعت حصته إلى 67 مقعدا، ثم تراجعت مجددا إلى 62 مقعدا في انتخابات 2023.
وتشارك أحزاب كردية أخرى في الحياة السياسية، مثل حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب المؤيد للأكراد، وحزب الدعوة الحرة (حزب الهدى) المحافظ، وهو قريب من حزب العدالة والتنمية الحاكم، وفي الوقت نفسه، على خصومة تاريخية مع حزب العمال الكردستاني.
وعملت الحكومة، في تلك الفترة، على مسار المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني من أجل إيجاد حلول يتوافق عليها الطرفان بما يضمن إحلال السلام، وقد أحرز هذا المسار تقدما ملموسا عام 2013، حين وجه أوجلان دعوة إلى الأكراد لإلقاء السلاح، والتوجه لحل القضية الكردية بالطرق السلمية.
ولكن المفاوضات توقفت بعد مرور عامين، بسبب تطلعات الحزب لمكاسب أكبر، لا سيما بعد حصول أكراد سوريا على الإدارة الذاتية بدعم من الولايات المتحدة، مما دعا حزب العمال إلى تجميد عملية التسوية، ودعوة الأكراد لحمل السلاح، وخوض ما أسماها "حرب الشعب الثوري".
وفي عام 2015، أعلن حزب العمال الكردستاني 16 منطقة في جنوب شرق تركيا مناطق حكم ذاتي خاضعة له، فشن الجيش التركي عمليات عسكرية على مناطق التمرد، ونجح في إعادة بسط نفوذ الدولة على تلك المناطق.
وشهد عام 2016 عددا من العمليات العسكرية في أنحاء مختلفة من البلاد، واتهم حزب العمال بتنفيذها، ومنها، هجوم بسيارة مفخخة أثناء مرور مركبات عسكرية في أنقرة، نجم عنه مقتل 36، وإصابة 125. وفي عملية أخرى بديار بكر، قتل 16 مدنيا، وأصيب 23. وفي إسطنبول، استُهدفت حافلة شرطة فقُتل 12 وأصيب 36.
إعلانوفي عام 2022، اتهمت الحكومة التركية الحزب بتنفيذ عملية في شارع الاستقلال بإسطنبول، لكن الحزب نفى مسؤوليته عنها، وأدت العملية إلى مقتل 6 وجرح أكثر من 80.
وفي عام 2024، أعلن حزب العمال الكردستاني مسؤوليته عن هجوم استهدف شركة صناعات الطيران والفضاء التركية "توساش" في أنقرة، والذي أدى لمقتل 5.
وفي تلك السنوات امتد الصراع خارج الحدود التركية، وشنّ الجيش التركي غارات جوية على شمال العراق وشمال شرق سوريا لملاحقة مقاتلي حزب العمال، ومنعهم من تهريب السلاح للمليشيات الكردية داخل تركيا.
وتظل "المسألة الكردية" والصراع المسلح لتقرير المصير من القضايا المزمنة التي تؤرق الحكومة التركية الرافضة لأي تحرك كردي نحو الاستقلال عن الدولة، وإن كانت المساعي جارية في سبيل التوصل إلى حلول أخرى تُرضي جميع الأطراف.
الأكراد في العراق
يبلغ عدد أكراد العراق أكثر من 6.5 ملايين نسمة، بحسب أرقام هيئة الإحصاء الرسمية لإقليم كردستان العراق لعام 2023، وهناك من يقدرهم بـ5.2 ملايين نسمة فقط. ويقطن معظمهم في محافظات أربيل والسليمانية ودهوك وحلبجة، وبعضهم في محافظة كركوك، وعدد قليل في نينوى وديالى ومدن أخرى.
وتمتع أكراد العراق بحكم ذاتي، بموجب وثيقة أصدرتها الحكومة العراقية عام 1970، التي أُلحقت بعد 4 سنوات بقانون الحكم الذاتي لمنطقة كردستان العراق، واشتمل على حق الإقليم في حرية التصرف في الأمور المحلية والإدارية، وميزانية مالية ذاتية، وجعل اللغة الكردية لغة رسمية في التعليم.
ولكن القرار لم يطبق، إذ انهار بعد 4 سنوات، ورفضه الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي قدم مطالب إضافية رفضتها الحكومة، مما فتح صراعا طويلا استمر لعقود.
تدهورت الأوضاع في كردستان العراق بعد اتفاقية الجزائر عام 1975 التي دفعت العراق إلى السيطرة على شمال البلاد وإنهاء الإدارة الكردية، مما أدى إلى اندلاع "الحرب الكردية العراقية الثانية". ولاحقا استفاد الأكراد من تغيرات النظام الدولي والدعم الأميركي لإنشاء إقليم كردي بشمال العراق.
إعلانوبعد حرب الخليج الأولى عام 1991، وسقوط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، تحولت منطقة كردستان العراق إلى إقليم يتمتع بصلاحيات واسعة.
تطور الصراع إلى نزاع داخلي بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، مما أدى إلى حرب أهلية كردية استمرت حتى عام 1998، حين وُقّعت اتفاقية سلام برعاية أميركية.
وبدأت مرحلة من الاستقرار النسبي حتى عام 2003، عندما أدى الغزو الأميركي للعراق إلى تغيير النظام السياسي وإقرار الدستور العراقي عام 2005 الذي ثبّت الفيدرالية مرحلة مؤقتة.
وفي استفتاء أُجري عام 2017، صوتت غالبية الأكراد العراقيين لصالح الاستقلال التام، لكنه تسبب بأزمة بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان بعد أن رفضت سلطات الإقليم التراجع عنه، وتمسكت الحكومة في بغداد بموقفها الرافض له، كما لقي الاستفتاء معارضة إقليمية ودولية من العراق وتركيا وإيران والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ومع إصرار سلطات الإقليم على موقفها، فرضت الحكومة المركزية في بغداد حظرا جويا على الإقليم، وأوقفت كافة الرحلات الدولية من مطاري أربيل والسليمانية وإليهما، وأعادت القوات العراقية سيطرتها على مدينة كركوك وحقول النفط المحيطة بها، واستعادت الأراضي المتنازع عليها على طول الحدود الإيرانية والسورية.
وكان من تداعيات تلك الأزمة، استقالة رئيس الحكم الذاتي للإقليم مسعود البارزاني في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، بعد رهانه الفاشل على تحقيق الاستقلال التام لأكراد العراق.
الأكراد في إيران
يشكل الأكراد نحو 15% من سكان إيران، بحسب أرقام المعهد الكردي بباريس عام 2017، ويصل تعدادهم إلى نحو 12 مليون نسمة، يعيش معظمهم في المناطق الغربية والشمالية الغربية على طول الحدود مع العراق وتركيا في محافظات کردستان وکرمانشاه وعيلام وأذربيجان الغربية، ويعيش مجتمع كردي كبير آخر في الشمال الشرقي على طول الحدود مع تركمانستان.
إعلانويشكل الأكراد ثالث أكبر قومية في إيران بعد الفرس والأذريين حسب مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، ومع ذلك لم تعترف إيران بخصوصية العرق الكردي، مما تسبب بصراع مستمر من أجل الانفصال بين الجماعات الكردية المسلحة والحكومات المتعاقبة.
وتضيق السلطات الإيرانية على استخدام اللغة الكردية، ومن ذلك حظرها في مجال التعليم، وعدم السماح بتسجيل معظم الأسماء الكردية للأطفال في السجلات الرسمية.
وكان أكراد إيران قد تمكنوا من بسط سيطرتهم في المناطق الواقعة غربي البلاد، وتأسيس جمهورية مهاباد الكردية عام 1946، بعد تاريخ طويل من الصراع مع السلطات الحاكمة، لكنها لم تستمر سوى 11 شهرا، إذ تم تقويض الدولة، والقضاء على الزعماء الأكراد المتورطين.
واستأنف الأكراد صراعهم من أجل الاستقلال بعد الثورة الإيرانية عام 1979، وقاد الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني و"حزب كومه له" ثورة منظمة، قوبلت بقمع شديد من النظام الإيراني، وحُظر الحزب الديمقراطي الكردستاني واغتيل قادته، ودُمر ما يقارب 271 قرية كردية حسب منظمة هيومن رايتس ووتش.
وعلى الرغم من توقف الأحزاب السابقة عن المقاومة المسلحة، يتأجج الصراع الكردي مع السلطات الحاكمة بين الحين والآخر بفعل أطراف أخرى، مما أبقى القضية الكردية معضلة للحكومة الإيرانية.
الأكراد في سورياووفق المعهد الكردي بباريس، يشكل الأكراد 15% من سكان سوريا، ويبلغ تعدادهم أكثر من 3 ملايين نسمة، يتمركزون في مناطق شمال شرقي البلاد، مثل الحسكة والقامشلي والمالكية، ويعيش أكثر من ثلثهم في سفوح جبال طوروس شمال حلب، وفي محيط جرابلس شمال شرق حلب، ويقطن كثير منهم في تجمع كبير في حي الأكراد في دمشق.
وقد اندمج معظم أكراد سوريا جزئيا في المجتمع العربي، ويتحدث غالبيتهم اللغة العربية إلى جانب اللغة الكردية، وخصوصا أكراد شمالي غرب سوريا الذين يعيشون في المنطقة منذ قرون، فهم أكثر اندماجا في الثقافة العربية، بخلاف مناطق الشمال الشرقي التي تضم عددا كبيرا من الأكراد الذين فروا من تركيا أثناء حملات القمع في عشرينيات القرن العشرين.
إعلانومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، أتاح الفراغ الذي سببه غياب سيطرة الحكومة، حرية أكبر للأكراد لتنمية خصوصيتهم العرقية، مثل تدريس اللغة الكردية التي كانت محظورة سابقا، ونالوا بعض المكتسبات بسبب صفقات أو تنازلات من الرئيس السوري بشار الأسد لكسب ودهم.
وفي أثناء الثورة السورية، شاركت مجموعات كردية مسلحة ضمن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى جانب عدد من الميليشيات العربية المحلية الأخرى، في "الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية". واعتمدت على دعم التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، مما أسهم في السيطرة على منطقة واسعة شمالي البلاد تمتد على طول الحدود مع تركيا.
وفي مطلع عام 2014، أعلن الأكراد السوريون إنشاء "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" كإدارة انتقالية مؤقتة، شملت مناطق الجزيرة وكوباني وعفرين. وفي عام 2016 توسعت هذه الإدارة لتعلن نظاما فيدراليا في مناطق سيطرتها، التي باتت تشكل نحو 25% من الأراضي السورية.
استفادت الإدارة الذاتية من الفراغ الذي خلّفه انهيار تنظيم الدولة الإسلامية للاستيلاء على مناطق ذات أغلبية عربية، مما أثار جدلا حول علاقتها مع القبائل العربية. وانضمت بعض القبائل إلى الإدارة الذاتية، بينما احتفظت قبائل أخرى بمواقف متباينة بين التعاون والحذر، مما أضاف تعقيدا إلى المشهد السياسي والاجتماعي في تلك المناطق.
ونأت العديد من الأحزاب الكردية عن المشاركة في الإدارة الذاتية، أبرزها المجلس الوطني الكردي الذي يضم 15 حزبا وفصيلا من أكراد سوريا.
وعلى الرغم من اتفاق كل من حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي على اقتسام السلطة في المناطق الكردية في سوريا بموجب "إعلان أربيل" عام 2012، فإن المجلس تراجع عن المشاركة في السلطة عام 2015، بسبب الخلافات على انتخابات الهيئات المحلية في منطقة الجزيرة.
إعلانوفي أعقاب سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد عام 2024، ركزت فصائل الثورة السورية المسلحة على تنظيم قوات سوريا الديمقراطية، وانتزعوا مواقع مهمة كانت تسيطر عليها، أبرزها تل رفعت شمال حلب ومنبج ومدينة دير الزور.
وكان النظام السوري المخلوع قبل انسحابه يسلم مواقعه وأماكن سيطرته لقوات سوريا الديمقراطية، التي دخلت في معارك شديدة مع قوات المعارضة السورية.
وأعلنت الولايات المتحدة الأميركية دعمها لقوات سوريا الديمقراطية بهدف "محاربة تنظيم الدولة الإسلامية"، وقال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان إن الأكراد أفضل شركائنا لمحاربة التنظيم ونخشى أن ينشغلوا عن ذلك إذا حاربتهم تركيا.
ودعت الإدارة الذاتية الكردية التي تسيطر على مناطق في شمال شرق سوريا يوم 16 ديسمبر/كانون الأول 2024 لوقف العمليات العسكرية في كامل البلاد فور سقوط حكومة الرئيس المخلوع بشار الأسد، وطالبت بالبدء في حوار وطني شامل، وأبدت استعدادها للتعاون مع السلطات الجديدة في دمشق.
لكن وبعد يومين فقط دعت قوات سوريا الديمقراطية سكان عين العرب (كوباني) شمالي سوريا إلى حمل السلاح، مؤكدة أنها ستقاتل تركيا والمعارضة السورية.
ويمثل انسحاب المقاتلين الأكراد غير السوريين أحد المطالب الرئيسية لتركيا، التي تعتبر الجماعات الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني في سوريا تهديدا لأمنها القومي، وتدعم حملة عسكرية جديدة ضدهم في الشمال السوري.
العلاقة مع إسرائيلتربط علاقات تعاون وثيقة بعض الجماعات الكردية في شمال العراق وسوريا بإسرائيل التي تدعم الحركات الانفصالية الكردية وتغذي الأزمات المرتبطة بها.
وبحسب تقرير منشور على موقع القناة 12 الإسرائيلية، عمل الجيش الإسرائيلي ووحدات استخباراتية في المناطق الكردية في العراق وإيران وسوريا عام 2004، وقدمت الدعم والتدريب للوحدات الكردية، ونفذت عمليات سرية على الحدود الإيرانية.
إعلانوكشفت تقارير عربية ودولية عن وجود تعاون اقتصادي بين حكومة إقليم كردستان العراق وشركات إسرائيلية، وأن مدنا كردية تحتضن استثمارات إسرائيلية في مجالات عدة، كالإعمار والاتصالات والاستشارات الأمنية والطاقة.
وأكد الكاتب الإسرائيلي يوعاز هندل في مقال له بصحيفة يديعوت أحرونوت وجود تعاون وثيق وتنسيق بين إسرائيل والأكراد في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية.