طالت المناقشة بينى وبين أحد الأصدقاء عن معنى الجمال ومعياره وما المثال الأعلى له، حيث يرى صديقى أن ثمة معيارًا للجمال لا يختلف عليه اثنان، فيما كنت أرى أن الجمال حتمًا أمر نسبى يختلف من شخص لآخر وفقًا لاعتبارات عديدة تتعلق بتكوينه الثقافى وانتمائه العرقى والدينى بل تختلف باختلاف المكان والزمان، وضربت له مثلًا بتعلق البعض بالجمال الأشقر فيما يهيم آخرون عشقًا بالسمراوات، وذكَّرته بأنه فى بدايات العشرينات كان معيار المرأة الجميلة كان ذات القوام الممتلئ، فيما تحولت الدفة الآن لصالح القوام الرشيق أو «الفرنسى» قلبًا وقالبًا، مختتمًا حديثى له: «يا صديقى، لا مُشاحَّة فى الذوق».
والحقيقة أن المرة الأولى سمعت فيها تلك العبارة كانت بين جدران مدرج «غربال» بكلية آداب عين شمس وكان قائلها هو المرحوم د. عز الدين إسماعيل، أستاذ النقد الأدبى بقسم اللغة العربية، عميد كلية الآداب الأسبق، فى سياق محاضرة عن علم الجمال وأساسياته باعتباره مبحثًا فلسفيًا فيما يسمى بالاستاطيقا التى تختص بدراسة المحسوسات عمومًا.
وإذا نظرنا للمعنى اللغوى لجملة «لا مُشاحَّة فى الذوق» فإنه يعنى «لا مناقشة» أو «لا مماحكة» أو «لا جدال» فيما يختص بالذوق، أى أنه ببساطة ليس هناك نمط بعينه يجب الاحتذاء به للحكم على ذوق إنسان ما، فللإنسان أن يبدع كما يشاء فى مجالات الأدب والفن عمومًا، فلكل فنان أسبابه الإبداعية ولكل تيار فنى أو أدبى معاييره الخاصة، باعتبار أن الذوق هو ملك صاحبه ككائن بشرى، ذو ذائقة شخصية تماثل بصمته الخاصة فيما تراه حواسه جميلًا.
وبعيدًا عن مدارات فلسفة الجمال، والتعصب لرأى دون آخر فيما يراه البعض نسبيًا وما يراه البعض غير نسبى وما يراه آخرون بأن الجمال لا يتعلق بالشىء نفسه بقدر ما يتعلق بعين المتلقى وترجمته لما يراه وفقًا لتكوينه الذاتى الخاضع لاعتبارات النشأة والثقافة بل المجتمع والعصر الذى يعيش فيه، وما يراه فريق آخر بأن ثمة ما يسمى بالذائقة الجمعية التى يتكوّن لديها شبه إجماع على المثال الفائق للجمال، فإننى أجد أن كل وجهة نظر لها وجاهتها وتمثل جهدًا فلسفيًا يجبر المرء على الإعجاب به لما يمثله من رغبة إنسانية دؤوب لفهم العالم بما يحتويه من مدركات ومحسوسات.
وفى الحقيقة، فإن تلك العبارة تندرج أيضًا على كل ما يتصل بحياة الإنسان بصفة عامة، فلا ينبغى فرض ذوق بعينه سواء فيما تسمعه أو تشاهده أو تتذوقه أو حتى ما تشجعه رياضيًا، فبعض الناس يعشقون تناول أكلات بعينها قد لا تطيق اشتمام رائحتها من الأساس، فيما يحب آخرون مشاهدة فنان كوميدى معين دون آخر، أو تفضيل مغنٍ بعينه على آخر، وأذكر فى هذا المقام أحد الإخوة الليبيين وهو يتعجب من عشق المصريين خاصة والعرب عامة لكوكب الشرق أم كلثوم قائلًا لي: «شخصيًا لا يطربنى صوت أم كلثوم بل أفضل عليها فيروز صاحبة الصوت العذب» ورغم استهجانى لرأيه فإنه لا غضاضة فى ذلك، فهكذا هم البشر منذ الخليقة مختلفون وأذواقهم مختلفة ولا ينبغى لذلك يومًا ما أن يزعجنا أو يثير حفيظتنا، إذ «لا مُشَاحَّة فى الذوق».
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: خارج السرب
إقرأ أيضاً:
43 عاما على رحيل البطل رأفت الهجان
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في مثل هذا اليوم ٣٠ يناير من عام ١٩٨٢ رحل البطل المصري رفعت الجمال المعروف بـ"رافت الهجان" ودفن في مقابر مدينة دارمشتات الألمانية بعيدا عن الوطن.
ورأفت الهجان هو الاسم الحركى للمواطن المصرى رفعت على سليمان الجمال الذى ولد فى 1 يوليو 1927 في مدينة دمياط وتوفى فى 30 يناير 1982، والده يعمل فى تجارة الفحم ووالدته ربة منزل تستطيع التحدث بثلاث لغات، هى الإنجليزية والفرنسية والعربية.
قرر والده الانتقال بعائلته إلى القاهرة، ورأى أنه من الضرورى تسجيل رفعت الجمال بمدرسة التجارة المتوسطة بالرغم من رفض رأفت لذلك، وبعد تسجيله فى المدرسة يعجب بكفاح البريطانيين المستميت ضد الزحف النازي، وفى تلك الفترة يتعلم الإنجليزية ويتحدث بها باللكنة البريطانية إضافة لتعلمه الفرنسية باللكنة الباريسية أيضا.
ظل رفعت الجمال مواطنًا عادياً لا يعرفه أحد، احب السينما وأسندت إليه أدوار ثانوية، وشارك في ثلاثة أفلام وهم فيلم"أحبك أنت"، وفيلمين آخرين مع بشارة واكيم، تخرج في 1946 وبدأ العمل بشركة بترول في رأس غارب، ونتيجة لعدم انضباطه فصل وانتقل للإسكندرية، وهناك خالط يونانيين ويهودا وفرنسيين، وأتقن اللكنة الفرنسية كأهلها وعمل على مركب شحن، ليغادر البلاد لأول مرة إلى نابولى ومارسيليا بجوازات سفر مزورة للفرار من الملاحقة الأمنية بعد تورطه في “مقامرات فاشلة” إلا أن أمره يكتشف ويعود مرحلاً لمصر.
ويمنع من دخول بعض الموانئ بعد النصب على البحارة والمسافرين وأثناء عرضه على النيابة لفت نظر أحد الضباط العاملين بالمخابرات، ورأى فيه القدرة على خداع الآخرين في الوصول لشخصيته الحقيقية وهى مواصفات جيدة لـعميل مخابراتى وتتم زراعته في إسرائيل، وفى 1965 تبدأ رحلة الهجان التي استمرت 17 عاما داخل تل أبيب حاملا كود "العميل 313 جاك بيتون"، واستطاع الانخراط في المجتمع الإسرائيلى بعد فترة تدريب بمصر ومخالطة الرعايا اليهود بالإسكندرية، والعمل بشركة مملوكة لثرى يهودى.
وهناك أسس شركة سياحية تبدأ صغيرة وتكبر شيئا فشيئا، حتى يكون أحد رجال المجتمع بتل أبيب، وصديقا مقربا لموشى ديان، وعزرا فايسمان، وجولدا مائير، وكاد يترشح لعضوية الكنيست، وبعد نهاية مهمته تزوج الثرية ألألمانية “فراو فالتراوت”.