أحاديث عن السياسة.. الكذب!
تاريخ النشر: 5th, October 2024 GMT
"لا بُد للمحلل السياسي من أن يفهم المنظومة القيمية للشعب، وكذلك المنظومة القيمية السائدة في دوائر صنع القرار للدولة التي يتابعها ويقيم مدى تأثير تلك القيم على السياسات والإستراتيجيات"؛ فوزي حسن الزبيدي.
*************
نسبة كبيرة من الناس يعتقدون بأن السياسي يفترض أن يكون كذابا، يعتبرون الدبلوماسية هي في الحقيقة مرادفة لمفردة الكذب، وبأن السياسي الأصيل محتال ونصاب ومراوغ، وهلم جرًّا من تلك الصفات التي ما أنزل الله بها من سلطان!
في كتاب "سيكولوجية الجماهير"، كتب غوستاف لوبون: "ولأن الجماهير تحتاج إلى أوهام، فإنها تنجذب غزيريا نحو الخطباء الذين يقدمونها لها، كتوجه الحشرة إلى النور"، هنا قد نضع كلمة أوهام بجانب كلمة كذب، باختصار عندما يوهمك أحد بشيء ما وهو متعمد ذلك؛ فالواقع يقول إنه كاذب وربما محتال، لذلك تسمية الأشياء بأسمائها يختصر المسافة ويوضح الحقائق.
أثناء التحضير للمقال قرأت عدة مصادر ووجدت بها ما لا يمكن نشره؛ لأن الموضوع أحيانا يخرج عن السياق المطروح، تصور أنك عندما تقرأ كتاب "مبادئ العلاقات الدولية" لمؤلفيه: منجست وآريجوين، أو تقرأ "الانتقال إلى الديمقراطية" للدكتور علي الدين هلال، أو كتاب "الخلافات السياسية بين الصحابة" لمحمد بن المختار الشنقيطي، أو حتى كتاب "الأمير" لمكيافيللي، وتبحث عما يفيدك في المقال، كنقل على الأقل ولا تجد ما يستحق الاقتداء لنشره، (بالطبع أقصد لهذا المقال) لاحظتُ أن الكثير من الكتاب يُجمِّلون الكذب ويطلقون عليه مفردات غير ملائمة مثل: دبلوماسبة أو مجاملة أو التفاف أو إيحاء بكلمة معينة، لكن في الحقيقة أن الكذب هو الكذب.
بالطبع الكتب السالفة الذكر غنية بالفائدة، وليست بحاجة لشهادة أحد، إنما أحدثك عمّا طرأ في البال أثناء التحضير، فإن كنت مخطأً، فالله من وراء القصد.
سأعطيك مثالًا عن السياسي الذي لا يفصح ويحافظ على السرية وبنفس الوقت لم يرتكب الكذب، تخيل مؤتمرًا صحفيًا أو لقاءً مع سياسي خارج للتو من اجتماع يناقش حدثًا مهمًا وساخنًا، فيسأله الصحفي: ما الذي حدث في الاجتماع؟ فيرد السياسي بأنه تمت مناقشة المواضيع ذات الاهتمام، وبُذلت جهود لتقريب وجهات النظر، ولا نملك سوى التفاؤل بقادم الأيام. مما سبق هل صرح المسؤول بشيء؟ لا، هل أفصح عن شيء؟ لا، والأهم: هل كذب؟ لا، هذا هو المهم، والأهم في الواقع .
صحيحٌ أن السياسي يتحمل مسؤولية جسيمة في نقل الحالة الحاصلة بكل صدق وموضوعية، ولكن إن حدثت في الاجتماعات أشياء غير قابلة للنشر ومحظورة، فعليه ألّا يقع في الكذب، ويتعامل مع الكلمات بحذر وتحفظ، توافقًا مع المصلحة العامة للاتفاق المبرم. وفي ذلك احترام لنفسه وللجهة التي يمثلها، ولعامة الجمهور.
أما توزيع الأوهام، واللعب بكلمات متقاطعة لها إيحاء معين، فهنا نحن أمام كذب من نوع بذيء!
أن تكون سياسيًا فهذا معناه أنك ناضج العقل، حسن السيرة، كيِّس السمت، غزير المعرفة، عالي الخلق، ملتزم وصادق وأمين، أما غير ذلك فلك أن تعطي الشخص أي صفة أخرى؛ فالدبلوماسية لها أصول، وهي علم راقٍ يُدرَّس في مجمعات ومعاهد العلم المتخصصة، التي تخرِّج سياسيين على مستوى عالٍ، لهم شخصياتهم المحترمة ويتعاملون مع مصالح بلدانهم بمنتهى المسؤولية والتفاني.
قال تعالى: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" (الرعد: 17).
يوسف عوض العازمي
رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الحلقة الاولى من كتاب ( عدسات على الطريق)
بقلم : حسين الذكر ..
تجاوزت الساعة حدودها المقررة ، والشمس على عجل تجري نحو الغروب . الباص لم يصل بعد ، والمحطة بدأت تختنق بزحام مختلف شرائح أبناء الشعب ممن تجمعهم الضرورة كل يوم تقريبا حتى تآلفت وجوه بعضهم . وفيما تغلغل اليأس بقلوب المتجمعين ، تصاعدت وتيرة الهمس والشك والتسائل ،حتى سادت الفوضى وتفجر الموقف ، سباباً وتهكماً داخلياً مع إفرازات مشوبة بأنواع الغضب النفسي ،الذي لاتسمح الظروف العامة باطلاق آهاته صراحة . في هذه الأثناء وصلت سيارة صغيرة من نوع قديم وبدن متآكل وشكل هرم تتصاعد من فتحاته المتعددة أعمدة الدخان وتسيل منها بقع الزيت ، دالة على عمرها الطويل في الخدمة .. ترجل منها رجل عجوز تجاوز سن التقاعد ، يرتدي بدلة عمل قذرة جداً وعلى رأسه قبعة ، يتصبب منه العرق ، ويحمل بيديه قلماً ودفتراً، وتتصاعد من فمه كتل دخان السكائر ،كانها كورة قير محترق ،لاتفرق بينه وبين سيارته ولاتعلم أيهما أقدم خدمة في مصلحة نقل الركاب. ما أن لحظوه ، حتى هرولوا نحوه وأحاطوه ثم أغروقوه بكم هائل من الاسئلة المتشنجة والمتوترة .كما حاول البعض أن يصب جام غضبه عليه ،عادين إياه رمزاً وظيفياً بسيطاً يمكن ملاسنته بقوة وبصورة أخف خطراً من بقية المسؤولين .
ــ أين حافلات نقل الركاب ؟ومن المسؤول عن تأخرها ؟
ــ إنكم تتلاعبون بسير الخطوط لمصلحتكم الخاصة ومنافعكم الشخصية !
ــ سنبلغ عنكم أعلى السلطات !
ــ إحترموا الناس ، يا أخي ، فلنا عوائل وقد أقلقوا علينا الآن !
ــ حركوا أنفسكم ، إنشغلوا قليلاً بخدمة المواطن ، أين اجراءاتكم التي تدعون !؟والكثير من هذه الاسئلة التي لايخلو بعضها من الخشونة الواضحة والاساءة المتعمدة .
بعدما ضاق الرجل بهم ذرعاً ، رمى بنفسه ، خارج حدود الجمهرة .ونادى بأعلى صوته : ياسادة إرحموني وآرحمو انفسكم ! إنني أقدر معاناتكم ،وآعلموا أن ماحصل ، لم يكن في الحسبان ، وخارج نطاق السيطرة ، وانتم تعلمون ، بأن على هذا الخط تعمل حافلتان فقط – بسبب الحصار الظالم – ويقودها أمهر وأخلص سواقنا العاملين بجد واخلاص بلا كلل أو ملل ، إلا أن احداهن تعرضت لحادث سير مفاجيء مما اضطرنا إدخال الحافلة الى ورشة التصليح ، اما الاخرى ، فقد كلفت من قبل الجهات العاليا بواجب رسمي ، مدة يوم واحد فقط ،وسنتجاوز ماحصل ، بأسرع وقت ، وقد جئتكم معبراً عن أسفي وأسف السادة المسؤولين ، فتدبروا أمركم هذا اليوم .
بعد طول انتظار ، والصبر على ما لايطيقون ، أُبلغوا، بما لايسر ، وبدأوا ينسلون من المحطة تباعا ، وهم ينظرون اليه شزراً ، كما تمتم بعضهم بكلمات غير مفهومة ، إلا إنها بكل تاكيد غير مستحسنة ، إذ انهم ، لم يقتنعوا ، بهذه التبريرات التي سمعوها وسمعوها مراراًرمن قبل . فتحرك الجمع الغاضب وتفرق الحشد المتشنج ، كل بطريقته الخاصة ، البعض استأجر باص اجرة خاص ، وآخرون بحثوا عن خط قريب من مناطقهم ، فيما آنصرف الاخرون لجهات مختلفة ، حتى بدت المحطة بعد قليل ، خالية شبه مهجورة ، وبدأ الظلام يغزوها رويداً رويدا .