الإمام زيد.. الإمام الثائر بالبصيرة والجهاد والمبدأ الثوري المستمر
تاريخ النشر: 13th, August 2023 GMT
يمانيون../
يُحيي الشعب اليمني هذه الأيام ذكرى ثورة الإمام زيد بن علي عليه السلام، الذي استشهد في 25 محرم من العام 122 هجرية، بحمل المبادئ الثورية التي جسدها الإمام زيد بن علي عليه السلام، كرمز من رموز الدين.
مبدأ الثورة
وقد خرج الإمام زيد بن علي عليه السلام بثورة لإنقاذ الأمة من الطغيان الأموي والتسلط الأموي، الذي سام الأمة سوء العذاب واستعبدها وأذلها وقهرها واستهدفها في دينها واستهدفها في قيمها وهويتها وظلمها بكل أنواع الظلم، ويستلهم اليمنيون من المناسبة كمحطة تعبوية نتزود منها العزم وقوة الإرادة وشحذ الهمم، وهي في الوقت نفسه تذكر المتنصلين عن المسؤولية لمراجعة حساباتهم.
هذه المناسبة هي ذات أهمية كبيرة، لأنها تربطنا بنهضة مباركة امتدت بركاتها من ذلك الزمن إلى يوم الناس هذا، فثورة الإمام الشهيد زيد بن علي هي امتداد لثورة جده الحسين لنهضة الأمة وهي أعطت للحق صوته وبقي له امتداده واستمراريته و لا تزال هذه الاستمرارية وبركاتها حاضرة في أمتنا إلى اليوم، فقد كانت ثورة لإنقاذ الأمة، فالإمام الحسين ورموز الهدى من آل البيت كانت حركتهم من أجل الأمة .
الإمام زيد بما يعنيه كرمز عظيم من رموز الأمة تعترف به كل الأمة بعظيم شانه ودوره الكبير في الأمة وما عمله من اجل الأمة في تصحيح مسارها ضمن حركة الإسلام الأصيل، كما انه سليل بيت النبوة وحليف القران الذي كان عنوان حركته ونهضته وجهاده وعرف بحليف القرآن، بما يعنيه من تأثره بالقرآن وحركته وسعيه لهداية الأمة بالقران فكانت كل مضامين حركته قرآنية وهو يعلم ويرشد ويجاهد يثأر لإنقاذ الأمة.
وكانت ثورة الإمام زيد بخيارات قرآنية مستمدة من القرآن الكريم، فعنما تحرك في أوساط الأمة لإنقاذها من الطغيان الأموي رفع عنوانا مهما وعظيما هو البصيرة البصيرة ثم الجهاد وهذا العنوان الذي تحتاجه الأمة في كل مرحلة من مراحل تاريخها الآن هي أحوج إلى هذا العنوان.
حيث تتعرض الأمة والشعب اليمني في مقدمتها لحملات تضليلية رهيبة تحتاج إلى الوعي والبصيرة في تشخيص الحقائق وتحديد الخيارات، خاصة وهي تمر بمراحل مصيرية ومنعطفات خطيرة، وهذا الشعار الذي رفعه الإمام زيد علي عليه السلام يعيدنا اليوم إلى معيار القرآن والحق والمصلحة الحقيقة للامة التي تحتاج إلى البصيرة.
اليوم والشعب اليمني يواجه الطغيان الأمريكي والإسرائيلي ومن يدور في فلكهم ببصيرة وجهاد وبصيرة من كتاب الله ومن الثقافة القرآنية ومن البصيرة التي يكتسبها من الإدراك الصحيح للواقع خصوصا وأن الشواهد للآيات القرآنية جلية أمام الجميع في كل ما نواجهه في ساحتنا الإقليمية والدولية.
ثورة مستمرة
«إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعَفين، وإعطاء المحرومين، وقسْم هذا الفيء بين أهله بالسَّواء، ورد المظالم، ونصر أهل البيت؛ أتبايعون على ذلك» كانت هذه البنود الواضحة القاطعة أساسَ مضامين البرنامج الثوري للإمام زيد بن علي بن الحسين عليه السلام (ت 122هـ/741م) الذي يلبي مقتضيات القيادة الإيمانية الثورية في غايتها المثالية، تلك القيادة التي مثلها الإمام زيد خير تمثيل.
وهي كذلك تلخّص حزمة المبادئ التي قامت على أساسها ثورات من قبله الحسين الممتد إلى نهج الرسالة النبوية، وهو بذلك يحمل أهل البيت المسؤولية الملقاة عليهم، بالسعي لتطبيق تلك المبادئ وأن يكونوا في قيادة الأمة نحو تطبيق معالم الإسلام.
وقد جاءت ثورة الإمام زيد بعد جمود أصاب الأمة، وبعد هدوء حذِر حاصر الدعاة والأعلام، بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه، ولهذا كان الإمام زيد مجدداً وناهضاً من ركام المأساة.
كان برنامج الإمام زيد السياسي والفكري متسماً بالشمولية وممسكاً بالمجمع عليه، القرآن الكريم، وقد قدمه بصيغة اجماعية، بحيث تلتقي فيه الجماعات كلها على نقطة سواء.
ومردّ ذلك يعود إلى ارتباط الإمام زيد بن علي عليه السلام بالقرآن الكريم، فهو قرين القرآن، وإلى نشأة زيد وينابيعه التكوينية في المدينة النبوية التي كانت عاصمة الدولة المحمدية، كذلك ظلت ذاكرته مشبعة بمشاهد دامية مسّت الأمة وآلمَتْها في مجموعها العام، كواقعة «كربلاء» سنة 63هـ/684م، عندما استُبيح حرم المدينة، وحادثة قصف الكعبة بالمنجنيق سنة 73هـ/693م أثناء الحرب الأموية الزبيرية التي قادها الأموي الحجّاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ/715م)، ثم مشهد مقتل جده الحسين بن علي (ت 61هـ/682م) وهو الفاجعة التي أوجعت الضمير المسلم من يومها وحتى اللحظة الراهنة.
وبالتالي، ليس عبثاً أن يُنظر إلى ثورة زيد، باعتبارها من ثورات الأمة الكبرى على الظلم والطغيان، وأن مطالبها هي أهم بنودِ جدولِ عملِ الجماعة المسلمة في مسعاها نحو تكوين الدولة الإسلامية، ولذا ظلت إمامة زيد تمثل لحظة خاصة في وعي المسلمين جميعا.
ورغم تمكن الأمويين من الإمام زيد بقتله، ثم صلبه أربع سنوات، ثم إحراق جثته، وذر رمادها في مياه النهر، إلا أن ظلال ثورة الإمام زيد ظلت باقية كنهج زيدي ممتد إلى اليوم، وذكراه محطة تعبوية نهضوية للأمة، فبقيت الزيدية ثورة ممتدة، وأفكاره الأصيلة متوارثة.
إنّ إمعان النظر في تاريخ رجالات «أهل البيت» وأفكارهم ومبادئهم التي حملوها وجاهدوا من أجل تجسيدها في الواقع؛ جزءٌ لا يتجزأ من أي جهد جادّ يسعى للاطلاع على قراءة مهمّة للإسلام في ينابيعه الأولى، قبل أن تتكاثر القراءات وتتداخل الأوهام وتتشاجر الأهواء. كما أن التمعّن في تراجم رجالات «أهل البيت» الأوائل يمكّن من إدراك أسباب التشظي الذي أصاب الأمة فيما بعدُ، لِمَا يوقفنا عليه من علاقاتهم مع مثلث بالغ التعقيد تتألف أضلاعه من: أنظمة الحكم وجمهور علماء الأمة وجماهير الرأي العام فيها.
ولا ريب في أنه يأتي في صدارة هؤلاء الرجال العظماء الإمامُ زيد بن عليّ عليه السلام، ووُلد زيد بن عليّ سنة 80هـ/700م ونشأ في بيت إمامة في العلم واستقامة في الدين؛ فأبوه هو زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام المعروف بالعظمة (ت 94هـ/714م)- بن الحسين (ت 61هـ/682م) بن علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م).
ولم يكمل زيدٌ سنته الرابعة عشرة حتى فُجع بوفاة والده زين العابدين الذي اشتُهر بكونه من أوعية العلم وأئمة الزهد والتعبد، وقد أخذ الإمام زيد عليه السلام علمه من أبيه زين العابدين، وأخيه [الأكبر محمد] الباقر (ت 114هـ/733م)، وغيرهما، ومن هؤلاء الأئمة استمد زيد حصيلته المعرفية ونال تكوينه العلمي المتين؛ تلك الحصيلة التي ينقل عنه طرفا من تفاصيلها المؤرخ الفقيه المقريزي (ت 845هـ/1441م)، حين يروي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- أن زيدا خاطب يوما أتباعه الثائرين معه قائلا: «والله ما خرجتُ ولا قمت مقامي هذا حتى قرأت القرآن، وأتقنت الفرائض، وأحكمت السُّنَن والآداب، وعرفت التأويل كما عرفت التنزيل..، وما تحتاج إليه الأمة في دينها مما لا بد لها منه ولا غنى لها عنه، وإني لعلى بينة من ربي».
وهذا التنوع في التلقي المعرفي والتعدد في المأخذ جعله منصهراً مع كافة أطياف الجماعةِ العلمية ومنخرطا في الشأن العام غير منعزلٍ، كما أدى إلى إنضاج موقفه الإيجابيّ من الصحابة والسلف، والمتوازن في توسطه بين الفِرَق والجماعات التي كانت لا تزال في طور التبلور والتمايز.
وقد ظل -قبل استشهاده وبعده- معدوداً ضمن أئمة الإسلام المجمع على إمامتهم، وهو ما أهله لأن تكسب ثورته دعم كل من الفقهاء والمحدِّثين والمفسرين على حد السواء، واعتمد على آرائه العلمية حتى أئمة المذاهب وأساطين المحدِّثين.
نهج متجدد
بعد استشهاد الحسين بن علي عاش «أهل البيت» في المدينةِ لا يخرجون منها؛ فأقبل رجالاتهم على العلمِ تحصيلا وتوصيلا، وكانت تلك المرحلة بعد إخفاق ثورة الإمام الحسين عليه السلام على ظلم أمراء الجور، وكانت فترة جنح إذْ كان نجاح الثورة مستحيلاً بمعايير القوة والردع، فقد كان الحكام الأمويون لا يستنكفون عن استئصال الأئمة، وقد حفظ لنا المؤرخان الطبريّ وابن الأثير -في تاريخيهما- صيغة البيعة التي أخذها زيدٌ من أتباعه وأنصار ثورته؛ فكان نصها حسب ابن الأثير: «إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه – وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسْم هذا الفيء بين أهله بالسَّواء، ورد المظالم، ونصر أهل البيت؛ أتبايعون على ذلك؟».
وهكذا نرى أن بنود البيعة كانت عميقة الدلالّة فتضمنت ما يمكن وصفه بـ”برنامج الثورة”، وتمثلت مضامين هذا البرنامج في الدعوة إلى تحكيم كتاب الله تعالى وسنة نبيه بتفعيل ما تضمناه من كليات كبرى كالتوحيد والعدل والعدالة، ووقْف ظلم الظالمين الذين كانت بيعة الناس لهم إكراها فلا تسلم من المآخذ الدينية والسياسية، والدفاع عن حقوق الطبقات الضعيفة المحرومة التي تضم جميع الطوائف، ونصرة أهل بيت رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين.
وهو ما تؤكده أيضا مخاطباته الأخرى للمترددين من أتباعه، كقوله لمن سأله منهم عن سبب مقاتلته للحكام الأمويين: «هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم، وإنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإلى السُّنَن أن تحيا، وإلى البِدَع أن تُطْفَأ؛ فإن أجبتمونا سعدتم، وإن أبيتم فلستُ عليكم بوكيل».
كما رفع شعار البصيرة البصيرة ثم الجهاد، وقال والله لا يدعني كتاب الله أن أسكت، وقال وددت أن يدي معلقة في الثريا، فأقع على الأرض وأتقطع قطعة قطعة، ويصلح الله أمر هذه الأمة»، وعلى هذه الأرضية الصلبة إيمانيا وأخلاقيا؛ باشر الإمام زيد عليه السلام حشْد المبايعين للمشروع الإيماني الثوري القرآني «حتى أحصى ديوانُه (= سجلّ المقاتلين) خمسة عشر ألف رجل، فأقام بالكوفة بضعة عشر شهرا، كان منها بالبصرة نحو شهرين»؛ وفقا للطبري، وقد اضطُرّ الإمام زيد إلى تعجيل ساعة الصفر -وكانت فاتح صَفَر سنة 122هـ/741م- عن موعدها المتفق عليه خشية الانكشاف الأمني أمام جهاز الاستخبارات الأموية، ثم «أمر أصحابه بالاستعداد والتهيؤ.. فشاع أمره في الناس».
انطلقت إذناً معارك الثورة فكانت جولاتها الأولى في صالح الإمام زيد عليه السلام، ومعسكره بحيث جعلت خيلُ الأمويين لا تثْبتُ لخيله لقوة المجاهدين معه، ؛ حسب ابن الأثير، وواصل المعركة بمن معه حتى استشهد بسهم أصابه، وقام الطاغية يوسف بن عمر الثقفي (ت 127هـ/746م) بصلب جسدَه على أطراف الكوفة، ثم أنزِل بعد أربع سنين من الصلب، وأحرقت جثته وذر رمادها في نهر الفرات.
وإثر استشهاد زيد عليه السلام ؛ سار ولده يحيى بن زيد على نهج أبيه مواصلاً ثورته على الأمويين لكن من على أرض أخرى ووسط حاضنة شعبية جديدة؛ فقد تمكن أنصار أبيه من إخفائه عن عيون السلطة الأموية المتربصة به في كل مكان، «فلما سَكَن الطَّلَبُ (= البحث عنه) سار في نفر من الزيدية إلى خراسان»؛ حسبما يرويه ابن الأثير في ‘الكامل‘، ومن هناك
وفي منطقة خراسان استأنف يحيى بن زيد ثورة والده؛ فتمكن -بعد فترة تهدئة مع الأمويين- من إعادة رصّ صفوف أنصار والده، فجذب الناس إلى البيعة «واجتمعت عليه جماعة كثيرة»؛ طبقا للشهرستاني، فخرج بثورته من هناك.
ولكن لم يختلف مصير ثورة يحيى في خراسان عما لقيته نظيرتها بالعراق، وقد واصل والي خراسان الأموي نصر بن سيار (ت 131هـ/750م) قتاله للثائرين المؤمنين، حتى «أصاب يحيى بن زيد سهم في صدغه فقتله.. وصُلبت جثته بجُوزْجان» التي تقع اليوم شمالي أفغانستان.
ورغم إخفاق الثورة الزيدية وما تلاه من إحباط لدى معظم أنصارها؛ فإن المسار الثوري لم يفقد بريقه، بل باتت الثورة على الحكام الجائرين مبدأ أصيلاً عند الزيدية ونهجا إسلاميا أصيلا، وكانت هذه الثورات منبثقة من القرآن الكريم ولم تكن ثورات طائفية أو مذهبية، بل كانت ثورة الأمة والجماعة ضد جور الحكام والطغاة والأعداء، وكانت ثورات متحررة من أي انحيازيات ضيقة.
الثورة / أحمد محمد
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: الحسین علیه السلام ثورة الإمام زید زید علیه السلام الإمام زید علی القرآن الکریم أهل البیت کتاب الله الأمة فی
إقرأ أيضاً:
أحمد الزعتر .. والذهاب المستمر إلى البلاد
«ليدين من حَجَر وزعترْ
هذا النشيدُ.. لأحمدَ المنسيّ بين فراشتين،
مَضَتِ الغيومُ وشرّدتني
ورمتْ معاطفها الجبالُ وخبّأتني».
البطل الشعري لا يأتي صريحًا ومباشرًا كحال البطل الروائي، فصورة البطل في القصيدة تظل أكثر كثافةً رمزيةً من صورته في الرواية. حتى وإن عمد الشاعر إلى كتابة نص يذوِّب فيه الشعر سردًا والسردَ شعرًا إلى حدِّ ما يسميه النقَّاد بـ«تداخل الأجناس» في القصيدة الحديثة، يبقى البطل الشعري مع ذلك بابًا مواربًا، فالشخصية التي يحفل بها الشاعر في قصيدته ويرسمها بملامح متناثرة ومتقاطعة، تأتي في الغالب رمزًا أو قناعًا لمعنى ما، لا تكشف عن هويتها ولا تقول بقدر ما تومئ.
شخصية «أحمد الزعتر» أو «أحمد العربي» التي صنعها محمود درويش في قصيدته الملحمية المشهورة عام 1976 مثالٌ بارز على البطل الشعري الذي نتحدث عنه، والذي لا نعثر على سردية واضحة أو نهائية لهويته، فوجهه «الغامض مثل الظهيرة» يظل مفتوحًا للتأويلِ واجترارِ القراءاتِ المتعددةِ المستوحاةِ من الصفات والمجازات اللغوية التي تلونه وتدور حوله.. فمن هذا الأحمدُ المولود من حجر وزعترْ، السريُّ والكحليُّ والكونيُّ والمحروق بالأزرق، كما تصفه الملحمة؟
أول ما يلفتنا هو التصاق اسم أحمد بالزعتر، في انتساب مباشر إلى الطبيعة والأرض. في الوقت ذاته، ندرك على الفور أن النسبة تشير إلى ما كان يومًا ما مخيمَ لجوء فلسطيني يقع في الجزء الشرقي من بيروت؛ إنه مخيم تل الزعتر الذي مُحي عن خارطة الشتات الفلسطيني خلال سنوات الحرب الأهلية في لبنان (1975 - 1990) بعد أن ارتبط اسمه في الذاكرة السياسية الفلسطينية بأبشع صور العداء وأقصى حدود الفتك والدموية التي يمكن للنظام العربي، ممثلًا بالنظام السوري، أن يذهب إليها - بلا هوادة- في سبيل قمع الحركة الوطنية الفلسطينية ولجم استقلاليتها.
من العنوان الذي نشم فيه رائحة الزعتر تبدأ القصيدة الملحمية بالتكشُّف؛ إذ يوفر لنا الشاعر في عنوانه العتبةَ الأساس للدخول الاكتشافي في عتمات القصيدة الطويلة وإشاراتها المتفرقة للمكان وما يحيق به من الظروف السياسية والتاريخية: «مُخيَّما ينمو، ويُنجب زعترا ومقاتلين»، هناك حيث يولد أحمد وتتخلق هويته العربية المضطربة على سؤال مشوش: من هو العدو؟ ومن هو الشقيق؟
ومن الحجر والزعتر يشتق الفتى صفاته وينحت يديه.. هكذا يعلن الشاعر صمود بطلِه الشعري مع مطلع القصيدة، فالانتساب إلى الزعتر لا يتوقف عند الانتساب إلى المكان (المخيم) فحسب، بل يمتد إلى معجم من الصفات التي يتمتع بها ابن المخيم خلال سنوات الغليان الثوري: الصمود والمقاومة والعناد.. إلخ، كما هو حال نبتة الزعتر الجبلي التي تُشتهر بنموها في الأنواء الجافة والظروف الصعبة.
القراءة السياسية المباشرة للقصيدة مهمة بمكان، ولا يجوز برأيي القفز عليها بأي حال من الأحوال لصالح الاستقبال الفني الصرف. تقول القراءة السياسية الأولية إن نص الشاعر الفلسطيني لا يبدو هذه المرة معنيًا بالعدو الكبير، أي بالاحتلال الإسرائيلي، العدو الأوحد للفلسطينيين وسائر العرب من المحيط إلى الخليج، كما تنص شعارات العروبة. نص الشاعر الفلسطيني مشغول هذه المرة بالفضيحة العربية التي كشفها حصار مخيم تل الزعتر من قبل الجيش السوري والميليشيات المارونية الحليفة، ذلك الحصار الذي انتهى بسقوط المخيم في 14 أغسطس من عام 1976 إثر المجزرة المروعة التي ارتُكبت فيها واحدة من أفظع الجرائم (العربية) بحق الشعب الفلسطيني، في ذلك المخيم الفقير البائس العنيد، ومن لاذوا به من اللبنانيين.
«وأعُدُّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى
وتتركني ضفاف النيل مبتعدا
وأبحثُ عن حدود أصابعي
فأرى العواصمَ كلّها زَبَدَا...»
كان لا بد لأحمد أن يعيد تعريف معنى كونه عربيًا بعد تلك الخناجر التي شاهدتها تمتد إلى خاصرته. إن أحمد العربي هنا، أحمد المولود مصابًا بالبلاد في ذلك المخيم، هو الفلسطيني المنفي والمطرود والمطارد من كل العواصم العربية. أحمد الفلسطيني هذا، هو الفدائي المقاوم المخذول من الأشقاء، وهو الرهينة المخطوفة باسم العروبة التي تُصر على احتكاره:
«أحمدُ الآن الرهينةْ
تركتْ شوارعَها المدينةْ
وأتتْ إليه
لتقتلهْ
ومن الخليج إلى المحيط، من المحيط إلى الخليج..
كانوا يُعدوُّن الجنازةَ
وانتخاب المقصلةْ».
أحمد الزعتر لن يستعيد نفسه ولن يعود إليها إلا بتحرره من عواصم الزبد، يتحرر أحمد العربي وهو في عمق حصاره من أطرافه الزائدة وينتظر الحصار متحصنًا في جسده المعبد:
«جسدي هو الأسوار ... فليأت الحصار... فليأتِ الحصار...»!
مع أن الشاعر لا يصرح بأن «فلسطين» هي سيدة أحمد السرية التي يواريها في ثنايا النص، فنحن نعرف مدى تبرم محمود درويش المتكرر خلال مراحله الشعرية اللاحقة من التأويل السياسي الذي يبطش بالمرأة في قصيدته، حيث المرأة لا تُفهم إلا بوصفها استعارة للوطن، لكنه يقول: «أنساكِ أحيانا لينساني رجالُ الأمنِ».. كيف نستقبل هذا السطر من قصيدته خارج إلحاح التأويل السياسي الذي يحيلنا إلى التفكير بفلسطين بوصفها تهمة تقود من يحلم بها إلى فروع «الزنازين الشقيقة»؟!
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني