ظللت طويلا أبحث عن نسخة من كتاب مذكرات أغبش دون جدوي ، ووجدت ضالتي أخيرا في معرض مسقط الدولي للكتاب الذي أقيم بالعاصمة العمانية مسقط في شهر يناير من هذا العام .
وجدت صورته أمامي بوجهه الصبوح يفوح منه عطر الذكريات المعتق. وقد تصدر الكتاب اهداء يقول فيه:
" لن نهديه للأهالي الغبش لأن هذا الكتاب في الأساس لهم .
يقول أيضا " أستطيع أن أجزم بأن هذه المذكرات سوف تصبح من كلاسيكيات الشعب السوداني. مثل طبقات "ود ضيف الله" وسوف تعيش في وجدان هذا الشعب تتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل باذن الله".
والى لقاء آخر مع مذكرات أغبش.
عاش الراحل المقيم الاستاذ عبدالله رجب في القضارف منذ نهاية الثلاثينات وحتى منتصف الأربعينات او ماقبل بقليل. يقول عن هذه الفترة:
أكرمني أصدقاء ال عبدالحفيظ بالقضارف بولائم متلاحقة(الشيخ محمد حمد أبوسن والشيخ كرار كشة والسيد أحمد حامد موسى وغيرهم).
الاقامة
في القضارف أقمت بمنزل السادة بشير اخوان وكان الأخ المرحوم الحاج عوض بشير رجلا مستنيرا يقرأ الصحف ويناقش السياسة والمواضيع العامة وقال لي المرحوم عوض بشير دعنا نترك فكرة فرع القلابات مؤقتا واعمل معنا (كاتبا بالقضارف) فلم أرفض لأن القضارف بها بريد منتظم ومناقشات أدبية وسياسة.
(في المرحلة الأولى عرفت الريفي والمرحومين السلمابي وميخائيل بخيت واخري) .
فتحت فرع من مكتبتي بسنجة تحت ادارة الاخ المرحوم السلمابي حيث ظلت المجلات باسمه عدة شهور ولكن فرعنا لم ينجح لأننا لم نستطع منافسة الاخ المرحوم حنا تسفاي.وفي الحقيقة ماكان لنا أن نحاول منافسه في هذا المجال الذي كان ضيقا في في الثلاثينات.
نواصل.
بداية العلاقة بالقضارف
وبداية العلاقة مع القضارف بدأت بالسوكي ١٩٣٢ وعمري ١٧ سنه جاء الأخ المرحوم الطيب عبد الحفيظ (وكان في حوالي الأربعين) وقد تعارفنا وتبادلنا الكتب التي نقرأها، ولأهمية تلك المجلدات أذكر انني أخذت منه ديوان المتنبئ واخذت كتابي النظرات والعبرات للمنفلوطي-بينما أخذ مني (نهج البلاغة) - وكتبا أخرى.
كان المرحوم الطيب يمثل شركة جيمس لنج المتخصصة في تصدير الصمغ العربي ، ولما عاد الى القضارف جعلنا نتكاتب بانتظام، بل شملت مكاتباتي أشخاص لم أقابلهم منهم الاستاذ الريفي والمرحوم محمد حمد أبوسن زعيم الشكرية والمرحوم كرار كشة زعيم البجه والمرحوم عوض بشير جعلي وتاجر كبير والمرحوم أحمد حامد موسى (مشايخي من المتمة، وهو عم وصهر السفير السابق عثمان عبدالله حامد) والاخ اسماعيل سليمان محمد صالح ( من أهلي المغاربة المقيمين بالقضارف وعصار منذ قبل المهدية ).
واتصلت المكاتبات مع القضارف بعد ان فتحت بسنجة دكانا ومكتبة ١٩٣٤ وكان ان جاءني عرض الأخ المرحوم عوض بشير( والد زميلنا الشاعر ابراهيم عوض بشير ) لعمل تجاري كان يعد افضل من عملي اذ ذاك بسنجة وقد وصلت الى القضارف مع بداية شهر يناير ١٩٣٧ ، وعلاقتي مع السادة ال بشير-او بشير أخوان كانت علاقة كرم وايثار من جانبهم وياليتني استطيع الوفاء حتى ولو بالدعاء.
نواصل.
الشعراء بالقضارف
كان الأخ الطيب قد عرفني منذ ١٩٣٢ بالأخ محمد الخليفة طه ( في تلك الأيام لم يكن قد صار ود ريف) وجدت محمد الخليفة طه بكسلا وسعدت جدا ومنذ يومه الاول وجدني مستمعه للشعر الذي ينظمه او ينتحله.
انني أعجب لكون القضارف لها عدد من الشعراء منهم( محمد الخليفه طه، وخليل عجب الدور، وهاشم الياس وابراهيم عوض بشير) ولااكاد أذكر شاعر من سنجه سوى المرحوم حسن نجيلة وهو شديد الاقلال .
سوق المحاصيل
ودربني الاخ المرحوم عوض بشير على النيابه عنه في سوق المحاصيل. ان طريقة القضارف كانت تختلف عن طريقتنا بسنجة، فإن القضارفيين يشترون السمسم والصمغ بالمزاد(الذره فقط اذ ذاك كانت تباع بالمساومة- ولكنها في مابعد ضمت الى المزادات.وصارت بالوزن بدلا من الكيلو).قبل المزاد بدقائق يجلس التجار بالترتيب بعد عملية قرعة لجلوسهم وينطق اولهم بالسعر الذي يشتري به النمرة المعينة-ويتزايدون. في السابق كانت المعايدة بالتعريفة ثم صارت بالملاليم.
العمدة بشير مصطفى.
واقتضت مني عملية شراء السمسم أن أذهب إلى بلدة كساب التي يقام بها (سوق)مرتين في الأسبوع. على بعد ٢٠ ميل من القضارف. كانت كساب تتبع لنظارة بكر- وعمدتها كان العم المرحوم الشيخ بشير مصطفى- شقيق بكر الكبير- وعاصرناه وكان رجلا داهية.
الجاليات بالقضارف
الأرمن
أرمن القضارف عاشرناهم ورأيناهم منذ الأربعينات يتسللون - خارج البلاد. ان أرمن القضارف قد ذهبوا كلهم تقريبا.
يونانيون
بالقضارف وجدنا في الثلاثينات خلفاء ميخالي وهم قبرصيون (كيكوس جوانيدوس واخوانه ) ووجدنا مجموعة "الشركة الحبشية" كانوا يديرون متاجر وبقالات ..الخ. اكثر يوناني القضارف جاء بهم ميخالي..كونتو ميخالوص.
الأقباط
أبرزهم بالقضارف كان المرحوم روفائيل جريس وأولاده- والباقون أقاربها وكلهم من ال المعلم سعد وكانت لهم مبادرات زراعية بالسواقي بمنطقة عصار .
العجيب ان السوريين لم يقيموا بالقضارف تقريبا وقد عاشرت سليم موصللي رحمه الله.
اليمنيون
العجيب انني في سنجه لم ار اكثر من ثلاثة يمانيين ولكنني رأيت مايقرب من عشرة يمانيين بالقضارف بعضهم مستقرين لهم عائلات واملاك واولاد (مثل المرحوم الحاج عبده- والحاج أبوزيد - وغيرهما).
في سنجه- لما كنا صغارا- كانوا يحذروني من ان يخطفني اليمانية ولكن في القضارف عرفت ان شبهة الخطف تلتصق ليس باليمانية وإنما باعراب الزبيدية.
تحبيش القضارف
منذ أيامي الأولى بالقضارف في الثلاثينات رأيت الأحباش بعضهم من الحبشة الأصلية وبعضهم من أريتريا ... وبعضهم في شكل عائلات (ومنهم مسلمون مثل الاخ حسن مكنن والد محمد الفاتح السموأل ..منهم زعيم الرياضة الشيخ أمان ومنهم ال تسفاي - صهرهم ميخائيل بخيت - ولأحباش القضارف كنيسة ارثوذكسية ومدرسة.
أحباش القضارف القدماء قضارفيون وسودانيون لاشك فيهم- ولكن القضارف معرضة الى "تحبيش " بسبب تسلل اللاجئين والاندماج وعدم وجود بشائر عودة الى بلادهم
ماهي الديوم
وشملت دورة اللوري. ولكن في اليوم التالي. ديم بكر ومحطة السكة الحديد وسوق المحصول-وقرية "أبايو" وديم النور.
اني وأصدقائي كنا نقيم في "ديم حمد" يعني حمد اب سن - ويبدو أن هذا الحي قد نشأ بعد المهدية. وديم النور - حي يدار ضمن القضارف. وهو منسوب الى "النور عنقرة" الذي كان محاربا في العهود الثلاثة (قبل وبعد المهدية).
أما ديم بكر - وبكر المشار اليه هو بكر بك مصطفى زعيم قبائل الفور - فإن الحي كان يدار مستقلا عن المدينة في تلك الأيام ويتبع نظارة بكر.
ودراسة هذه الأحياء تتطلب مراجعة تاريخ معارك الشرق. مع جيش الفتح. ومع الأحباش - وأهم عنصر هو تفتت جيش أحمد فضيل . الذي حاول الوصول الى النيل الأبيض بعد هزيمته في الشرق . وبعد سقوط
أمدرمان.
القضارف في الثلاثينات
في يناير ١٩٣٧. في اليوم الأول اخذني الأخ عوض رحمه الله في الثالثة ظهرا بالمقعد الأمامي من اللوري الذي كان يقوده الأخ واغنياك لوسنين- أرمني كان يعمل بجنيهات قليلة.
ذهب بي الأخ عوض أولا على " امتداد ديم الخامة" ولاأدري سر التسمية فقد كان ومازال يسكنه أصدقائي ال كشة . وأحمد حامد موسى. وال القاضي "محي الدين واخوانه" وال البربري وال عبدالله محمود - كما كانوا يسمونه فريق "البقاسة"ولاأدري سر التسمية. ولكن بالحي تقيم العائلات الكردية والتركية- من بقايا التركية السابقة - وحتى أيامنا كان معروفا ان بعضهم يربطون التركيةوالكردية ومنهم والد الأخ عباس قاسم - الذي كان ضابط صف بالجيش في الثلاثينات . ووصلنا الى الجبل " وكانت ترابط به فرقة العرب الشرقية".
هذه الفرقة جندت بعد اخراج الجيش المصري ١٩٢٥/٢٤. العرب المشار اليهم في جنود الفرقة المذكورة ليسوا أبدا من اعراب البطانة وجيرانهم بل ان العرب المجندين هم بجاويون وفي الغالب هم "الحلنقه" المقيمون بكسلا . أقارب البكباشي عبدالله نور "و" حسين بك طاهر .
درنا حول الجبل حتى رأينا المقابر. ثم ذهبنا الى ناحية قرية الجباراب (التي اتصلت الان بالمدينة) وعبرنا "الميدان" الذي كان مخصصا للمهرجانات ومنذ مدة صار من الإمتدادات السكنية . ومررنا على قرى أخرى الأن ابتلعتها القضارف منها "روينا" و"طردونا".
ومررنا على السرف ورأينا مزرعة كان يديرها منولي الاغريقي وكان يربي بها كداريك "خنازير" يدلك هذا على أن المياه كانت وفيرة وكانت بتلك المنطقة المحيطة بالقضارف عدة سواقي كان يملكها الحاج عثمان - زعيم الشايقية- والحاج علي الكردي واخرون (يقول لك القضارفيون أن سواقيهم كانت تكفيهم من الخضار - وملوخيتهم طاعمة وليست مسيخة مثل وارد كسلا.
زكي حنا تسفاي
zakihanna@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی الثلاثینات من القضارف الذی کان
إقرأ أيضاً:
العاشر من رمضان.. النصر الذي هزم المستحيل
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في ذلك اليوم المشهود عبّر المصريون عن معاني التضحية والفداء وسطروا بدمائهم الطاهرة ملحمة لا يزال صداها يتردد في جنبات التاريخ. كان العاشر من رمضان الموافق للسادس من أكتوبر 1973 هو اليوم الذي تبددت فيه غيوم الهزيمة التي خيمت على الأمة منذ نكسة يونيو 1967 وهو اليوم الذي شهد ميلاد أمة جديدة لا تعرف المستحيل ولا تركع للهزيمة ولا تقبل الانكسار.
لم يكن الطريق إلى هذا اليوم سهلًا ولم يكن العبور مجرد عبور للأجساد فوق مياه القناة بل كان عبورًا لإرادة أمة بأكملها من اليأس إلى الأمل.. من الانكسار إلى الانتصار. كان المصريون قبل هذا اليوم يعيشون تحت وطأة الاحتلال الصهيوني لأرض سيناء يشعرون أن أرضهم مستباحة وأن عزتهم منقوصة وأن شرفهم قد تعرض لطعنة غادرة في نكسة 1967 ولم يكن أمام الجيش المصري سوى طريق واحد طريق الثأر واستعادة الأرض وإعادة الاعتبار للعسكرية المصرية التي لم تعرف الهزيمة إلا كعثرة عابرة في طريق طويل من المجد والانتصارات.
بدأت التحضيرات لهذه الملحمة منذ أن أعلن الرئيس جمال عبد الناصر بعد النكسة أن "ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة".. كانت هذه الكلمات بمثابة المبدأ الذي بنيت عليه كل الاستعدادات للحرب بعد النكسة ولم يكن ذلك مجرد شعار سياسي بل كان قاعدة انطلقت منها عملية إعادة بناء الجيش المصري من جديد. وعهد الرئيس عبد الناصر بهذه المهمة إلى الفريق أول محمد فوزي وكذلك مهمة بناء حائط الصواريخ المصرية ضد إسرائيل والذي استُعمل بكفاءة في إيقاع خسائر جسيمة في صفوف العدو الإسرائيلي طوال حرب الاستنزاف.. فمنذ عام 1968 بدأت حرب الاستنزاف التي كانت تمهيدًا لا غنى عنه للعبور العظيم تعلم خلالها المصريون كيف يواجهون العدو ويستنزفونه وكيف يستخدمون كل مواردهم لتحقيق الهدف الأكبر وهو التحرير.
تولى الرئيس أنور السادات قيادة البلاد في لحظة تاريخية شديدة الحساسية ورغم كل التحديات التي أحاطت به لم يكن لديه خيار سوى اتخاذ القرار الذي ينتظره الجميع قرار الحرب. لم يكن السادات يتحدث كثيرًا لكنه كان يُخطط بعبقرية وهدوء رجل يعرف أن المستقبل مرهون بقدرته على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب ومعه كانت قيادة عسكرية عظيمة يقف على رأسها المشير أحمد إسماعيل الذي تولى قيادة هيئة العمليات في الحرب والفريق سعد الدين الشاذلي الذي خطط للعبور بحرفية عسكرية أذهلت العالم.
عندما دقت ساعة الصفر في الثانية ظهرًا يوم العاشر من رمضان انطلقت الطائرات المصرية لتدك حصون العدو في سيناء وتفتح الطريق أمام الموجات الأولى من قوات المشاة التي اندفعت بقوة نحو الضفة الشرقية للقناة. لم يكن المشهد عاديًا ولم يكن مجرد معركة بين جيشين بل كان حدثًا أسطوريًا تجسدت فيه كل معاني الإصرار والإيمان والبطولة.. رجال عبروا القناة تحت نيران العدو.. رجال حملوا أرواحهم على أكفهم ودكوا أقوى خط دفاعي عرفه التاريخ الحديث خط بارليف الذي كان الصهاينة يروجون لاستحالته لم يصمد هذا الحصن سوى ساعات قليلة أمام الجسارة المصرية.. أمام إرادة رجال لم ترهبهم النار ولم يوقفهم الرصاص ولم تمنعهم التحصينات.
على الضفة الأخرى من القناة كانت دماء الشهداء تروي أرض سيناء وتمتزج برمالها لتعلن للعالم أن هذه الأرض مصرية كانت وستظل كذلك إلى الأبد.. كان مشهد الجندي المصري الذي يحمل العلم ويرفعه فوق التلال في سيناء صورة خالدة تختصر كل معاني البطولة والفداء.. كانت صيحات التكبير تهز القلوب وكانت الدموع تنهمر فرحًا وزهوًا بهذا النصر العظيم.
لم يكن هذا النصر مجرد انتصار عسكري بل كان انتصارًا سياسيًا واستراتيجيًا غير موازين القوى في المنطقة وأعاد الاعتبار للعرب بعد سنوات من الإحباط والهزائم.. كان انتصار العاشر من رمضان هو البداية الحقيقية لاستعادة الكرامة العربية لقد كان هذا اليوم بمثابة إعلان رسمي بأن الأمة العربية ليست أمة ضعيفة بل تستطيع أن تنهض من كبوتها وتستعيد مجدها متى ما توفرت الإرادة والتخطيط والإيمان بالحق.
اليوم ونحن نحتفل بهذه الذكرى الخالدة لا بد أن نتوقف أمام تضحيات الشهداء الذين رووا الأرض بدمائهم وكتبوا التاريخ ببطولاتهم لا بد أن نتذكر كل جندي ضحى من أجل أن تظل مصر حرة عزيزة، كل ضابط قاد قواته في أصعب الظروف ولم يتراجع، كل مواطن ساهم في دعم المجهود الحربي وتحمل المعاناة بصبر وإيمان.. اليوم نعيد قراءة الدروس المستفادة من هذه الحرب كيف استطاعت مصر أن تهزم المستحيل كيف استطاعت أن تبني جيشًا قادرًا على الانتصار في فترة زمنية قصيرة كيف تمكنت من توظيف كل مواردها وإمكاناتها لتحقيق الهدف الأكبر.
العاشر من رمضان سيظل يومًا خالدًا في وجدان الأمة، يوم العبور الذي لم يكن مجرد عبور للأجساد، بل كان عبورًا إلى مستقبل جديد ملؤه العزة والكرامة سيظل هذا اليوم رمزًا للإرادة المصرية التي لا تنكسر ودليلًا على أن الشعوب الحية لا تقبل الهزيمة ولا تعرف المستحيل اليوم نرفع رؤوسنا عاليًا ونردد بفخر أننا أبناء هؤلاء الأبطال أبناء العاشر من رمضان أبناء الذين عبروا وانتصروا.