“درة النيل”.. جنة تحترق بلهيب الحرب في السودان
تاريخ النشر: 5th, October 2024 GMT
لطالما كانت جزيرة توتي تُعرف بلقب “درة النيل”، تُحاط بجمال طبيعي حيث يلتقي النيل الأزرق بالنيل الأبيض. كانت تلك الجزيرة الصغيرة، التي تبلغ مساحتها نحو 990 فدانًا، ملاذًا للسياح ومحبي الطبيعة. يعود تاريخها إلى أكثر من سبعة قرون، وكانت مقصدًا للزوار الراغبين في الهروب من ضجيج المدينة إلى هدوء وخضرة بساتين الفاكهة والليمون.
ففي الأيام الأولى من الحرب، فرضت قوات الدعم السريع حصارًا خانقًا على الجزيرة، مما أدى إلى توقف الحياة الطبيعية. كانت التكايا، التي لطالما وفرت الطعام لسكان الجزيرة، مهددة بالتوقف في ظل نهب المتاجر وترويع التجار. توقفت الكهرباء منذ يوليو 2023، ما جعل الحياة أكثر قسوة. بات السكان يعيشون في ظلام دامس غير قادرين على التواصل مع العالم الخارجي أو الحصول على احتياجاتهم الأساسية.
في الأشهر الأخيرة، ازدادت الأمور سوءًا. ومع تزايد انقطاع الدواء والغذاء، تفشى وباء الحميات في الجزيرة. يومًا بعد يوم، يفقد الأهالي أحباءهم، مع تسجيل ما بين 5 إلى 10 وفيات يوميًا بسبب نقص الأدوية المنقذة للحياة. القلة من الأطباء المتبقين يعجزون عن مواجهة الأزمة، ويموت المرضى دون أدنى فرصة للعلاج.
لم يتوقف الأمر عند الأوبئة، فقد نشطت قوات الدعم السريع في نهب البيوت وضرب المواطنين وسرقة ممتلكاتهم. لم تسلم الجزيرة من وحشيتهم، حيث تعيش العائلات في رعب دائم، مع عدم وجود مكان آمن يلجأون إليه. الأطفال والكبار، الرجال والنساء، الجميع تحت تهديد دائم من الذل والإهانة.
في ظل هذه الظروف الصعبة، ناشدت لجنة أبناء توتي بالخارج جميع المنظمات الإنسانية للتدخل العاجل لوقف هذا الموت الجماعي وإنقاذ ما تبقى من أرواح على الجزيرة. ورغم النداءات المستمرة، لا تزال توتي تواجه المصير القاسي نفسه، حيث تنتظر قلوب محطمة وعدًا بإنقاذ قريب.
#فكوا_الحصار_عن_توتي
لم تقتصر معاناة سكان توتي على الحصار والترويع، بل شملت فقدان الأمان الذي عاشوا فيه منذ مئات السنين. توتي، التي كانت مركزًا للثقافة السودانية ورمزًا للصمود الوطني عبر تاريخها الطويل، أصبحت الآن مسرحًا للمعاناة التي لا يعرف العالم عنها الكثير. النساء يعتنين بأطفالهن في ظل أصعب الظروف، في حين يتراجع الأمل ببطء مع كل يوم جديد دون مساعدة ودون إشارات واضحة لفك الحصار.
وتروي أم حليمة، إحدى الناجيات من المرض في توتي، كيف اضطرت لدفن ابنها الذي كان في ربيعه الثالث عشر بمساعدة جيرانها، بعد أن قضت عليه الحمى لعدم توفر الدواء. “رأيت الحياة تُسحب من عينيه وهو ينظر إليّ، ولا أستطيع فعل شيء. كان الأمر كأنني فقدت نفسي معه”، تقول أم حليمة وهي تمسح دموعها. كان ابنها يحلم بأن يصبح طبيبًا يومًا ما، لكنه رحل دون أن يحقق حلمه.
أما في الجانب الآخر من الجزيرة، تقف الخالة مريم، وهي امرأة في العقد السادس من عمرها، أمام بقايا بيتها الذي نُهب ودُمّر. كانت تستعد للاحتفال بزفاف ابنتها قبل الحصار، لكن الفرح تحوّل إلى كابوس عندما هجم المسلحون على المنزل وسرقوا كل شيء. تقول مريم بصوت مخنوق: “كان كل ما نملكه موجودًا في هذا المنزل، والآن لا نملك شيئًا، حتى الأحلام سُرقت منا”.
تعيش العائلات في توتي في حالة مستمرة من الانتظار والخوف. ينتظرون تدخلًا خارجيًا لرفع الحصار وإعادة الأمان للجزيرة، لكن الزمن يمر والحصار يشتد. الأطفال الذين كانوا يلعبون في مزارع المانجو والليمون، أصبحوا الآن رهائن للخوف والجوع، بينما أمهاتهم يبحثن عن فتات الطعام لإبقائهم على قيد الحياة.
رغم المحاولات المستمرة من لجنة أبناء توتي بالخارج للتواصل مع المنظمات الإنسانية والضغط الدولي، إلا أن الأمل يتضاءل. كل يوم يتأخر فيه التدخل يعني خسارة مزيد من الأرواح. توتي تستغيث، ونداؤها يتردد في سماء السودان، تنتظر من يسمع ويرى معاناتها ويضع حدًا لهذا الألم المستمر.
نداء أخير لإنقاذ الأرواح
في ظل هذه المعاناة المستمرة، لا تزال توتي تقاوم بروح أهلها وصمودهم الذي لم ينكسر رغم الجراح. فالجزيرة التي كانت رمزًا للوحدة والجمال، تعيش الآن على أمل جديد يأتي من خارج حدودها. فالأصوات التي تخرج من توتي باتت تشق طريقها إلى العالم، تحمل معها قصص الفقد والصبر، وتصرخ للعالم طلبًا للنجدة.
في كل يوم، يتجمع أهل توتي في ما تبقى من مزارعهم، يتحدثون عن الأيام الجميلة التي كانت فيها الجزيرة واحة للأمان والسلام. يتذكرون مهرجانات الزراعة واحتفالات الحصاد وزيارات السياح الذين كانوا يأتون لرؤية هذا المكان الذي كان يُلقب بجوهرة النيل. ولكن اليوم، الحياة التي عرفوها أصبحت ذكرى بعيدة، محاصرة بالجوع والخوف.
يقول إبراهيم، وهو مزارع من توتي: “كنا نعيش هنا بسلام. الأرض تعطينا الخير، ونحن نعطيها حبنا وعملنا. لكن الآن أصبحت أرضنا محرمة علينا، وكأن النيل ذاته يعاقبنا. لا طعام، لا دواء، ولا حتى كهرباء لنرى وجوه أطفالنا في الليل”.
ورغم الألم، يظل هناك بصيص أمل يلوح في الأفق. تستمر لجنة أبناء توتي بالخارج في نداءاتها المتكررة، مطالبين بفتح الممرات الإنسانية وتوفير المساعدات الضرورية. يحدوهم الأمل بأن يتجاوب العالم مع هذه النداءات، وأن ينجح الضغط الدولي في فك الحصار وإعادة الحياة إلى توتي.
لقد أثبت أهل توتي عبر تاريخهم الطويل قدرتهم على التحمل والصمود في وجه المحن، من الاستعمار البريطاني إلى الحروب الأهلية المختلفة. لكن الحرب الحالية التي تحاصرهم خلف النيلين قد تكون أقسى اختبار لهم على الإطلاق.
ومع كل يوم يمر، يواصل سكان توتي النضال من أجل البقاء. يزرعون بذور الأمل في قلوبهم رغم شح الطعام، ويرفعون صلواتهم لعل الفرج يأتي قريبًا. ففي نهاية المطاف، توتي ليست مجرد جزيرة؛ إنها رمز لصمود الإنسان أمام قسوة الحروب.
العربية نت
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: کل یوم
إقرأ أيضاً:
المجاعة تنهش السودان حيث “لا طعام ولا دواء ولا أي شيء”
“شهدت هذه الأمّ البالغة 40 عاما التي لا حول لها كيف انطفأت ابنتها رانيا في ربيعها العاشر قبل أن يهلك منتصر في شهره الثامن في مخيّم زمز”
التغيير: وكالات
في خلال شهرين، دفنت منى ابراهيم اثنين من أولادها قضيا جوعا في مخيّم للاجئين في السودان الذي تنهشه حرب أهلية منذ حوالى سنتين بين الجيش وقوّات الدعم السريع.
ووفقا لـ”فرانس برس” شهدت هذه الأمّ البالغة 40 عاما التي لا حول لها كيف انطفأت ابنتها رانيا في ربيعها العاشر قبل أن يهلك منتصر في شهره الثامن في مخيّم زمزم.
وهي باتت تخشى على حياة ابنتها رشيدة (4 سنوات) التي تعاني من فقر حادّ في الدمّ بلا أيّ رعاية طبّية.
وتتحسّر في تسجيل مصوّر أرسلته عبر “واتساب” لوكالة فرانس برس أمام مأوى بلا سقف قرب الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور التي تحاصرها قوّات الدعم السريع منذ مايو “أنا خائفة جدّا أن تضيع منّي. نحن متروكون”.
وتؤكّد “ليس هناك طعام ولا دواء ولا أي شيء”.
وتروي منى كيف فقدت اثنين من أولادها وهي عاجزة عن مساعدتهما “ما كان لي سوى أن أضمّهما وهما يحتضران”.
وكانت رانيا أوّل من لقي حتفه في المستشفى الوحيد في الفاشر الذي ما زال قيد الخدمة لكنّه يعاني نقصا شديدا في الطواقم والمعدّات الطبية، في نوفمبر بعد ثلاثة أيّام من إدخالها بسبب إسهال حادّ. وبعد بضعة أسابيع، لحقها منتصر بعدما انتفخ جسده الصغير بسبب سوء تغذية حادّ.
هذا كلّ ما لدينا
أُعلنت حالة المجاعة في مخيّم زمزم الشاسع الذي أنشئ سنة 2004 ويضمّ ما بين 500 ألف ومليون شخص، بالاستناد إلى نظام تصنيف مدعوم من منظمات الأمم المتحدة. وانتشرت في مخيّمين آخرين وفي بعض أنحاء جبال النوبة في جنوب البلد.
وأنكرت الحكومة الموالية للجيش حدوث مجاعة في البلد، في حين يعاني ملايين الأشخاص نقصا في التغذية.
في “سلام 56″، إحدى الوحدات الـ48 المكتظّة باللاجئين التي تشكّل مخيّم زمزم، تهزّ أمّهات أطفالهن الذين يعجزون عن المشي من شدّة الإنهاك. وتتشارك عائلات بقايا طبق فول لا طعم له.
وتقرّ راوية علي (35 عاما)، وهي أمّ لخمسة أطفال “هذا كلّ ما لدينا”. وإلى جانبها دلو فيه ماء عكر من خزّان لمياه الأمطار على بعد ثلاثة كيلومترات “تشرب منه الحيوانات ونحن أيضا”.
وتعيش في “سلام 56” أكثر من 700 أسرة نزحت من جرّاء الحرب الطاحنة التي تدور منذ أبريل 2023 بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوّات الدعم السريع بقيادة نائبه السابق محمد حمدان دقلو الملقب “حميدتي”.
ويقول المنسّق المشرف على الوحدة آدم محمود عبدالله إنه لم يتلقّ سوى أربع شحنات من المساعدات الغذائية منذ اندلاع الحرب، تعود آخرها إلى سبتمبر مع حوالى عشرة أطنان من الدقيق، و”مذاك، لم يصلنا شيء”.
ويعكس البؤس الذي حلّ بزمزم ضراوة هذه الحرب التي أودت بحياة عشرات الآلاف وهجّرت أكثر من 12 مليون شخص وتسبّبت بـ”أكبر أزمة إنسانية تسجّل على الإطلاق”، بحسب “لجنة الإغاثة الدولية” (آي آر سي).
قرارات تدمي القلوب
وعلى مسافة نحو 700 كيلومتر من جنوب شرقي مخيّم زمزم، ليس الوضع أفضل حالا.
وأمام أحد آخر المطابخ الجماعية قيد العمل في مدينة ديلينغ في جنوب كردفان، تمتدّ طوابير الانتظار إلى ما لا نهاية له، بحسب ما تخبر نازك كابالو التي تدير مجموعة للدفاع عن حقوق النساء.
وفي الصور التي تشاركتها مع وكالة فرانس برس، رجال ونساء وأطفال هزلى منتفخي البطون عظامهم ناتئة يصعب عليهم الوقوف من شدّة الإنهاك.
وبعد أيّام من دون أيّ لقمة تسدّ الرمق، “ينهار البعض منهم… في حين يتقيّأ البعض الآخر عندما يحصل على بعض الطعام”، بحسب كابالو.
وفي كردفان الجنوب التي كانت في ما مضى منطقة زراعية غنيّة، يقتات بعض المزارعين بذورا كان يفترض بهم زرعها أو يغلون أوراق نبات.
وتؤكّد كابالو “بتنا نلحظ الجوع في مناطق لم تشهد سابقا مجاعة”.
وقد حلّ الجوع بهذا البلد الزاخر بالموارد الطبيعية، حتّى على بعد مئات الكيلومترات من المناطق التي ضربتها المجاعة.
وفي القضارف، على بعد 400 كيلومتر من جنوب شرق الخرطوم، حيث يعيش أكثر من مليون نازح، تصل عائلات فارة من المعارك الضارية يائسة ومتضوّرة.
وتخبر ماري لوبول مديرة الشؤون الإنسانية في منظمة “أنقذوا الأطفال” غير الحكومية لوكالة فرانس برس أنها رأت “أطفالا شديدي الهزل تسيل أنوفهم ويعانون التهابا في ملتحمة العين. ويتّخذ الأهل قرارات تدمي القلوب ليحدّدوا أيّا من أطفالهم تحتّم عليه الموت”.
تداعيات طويلة الأمد
في جنوب العاصمة الخرطوم، أخبر عمّال في برنامج الأغذية العالمي أنهم رأوا أشخاصا “هم جلد على عظم” يقتاتون عدسا وحبوبا مغلية، بحسب ما نقلت ليني كينزلي المسؤولة عن التواصل في البرنامج لوكالة فرانس برس.
وتؤّكد المنظمات المعنية بالمساعدات الإنسانية أن الحرب تجعل عملها شبه مستحيل.
وتكشف لوبول “لا يمكننا بكلّ بساطة أن نحمّل الإعاشات في شاحنة وننقلها إلى المناطق المتأثّرة بالمجاعة. فحواجز العبور وقرارات الرفض وعمليات النهب من جماعات مسلّحة تحرم من هذه المساعدات من هم بأشدّ الحاجة إليها”.
ومن دون تحرّك سريع، قد تعيث المجاعة خرابا في البلد، بحسب منظمات غير حكومية.
وتحذّر لوبول من أن “أشخاصا يموتون راهنا لكنّ التداعيات الطويلة المدى ستلاحق السودان على مدى أجيال”.
ومع حلول الليل في مخيّم زمزم، تتمدّد ابنة منى ابراهيم على الفراش بلا طاقة ومقطوعة النفس. وتقول والدتها “لا أعلم إلى أي حد يمكننا أن نصبر”.
الوسومالحرب السودانية المجاعة في السودان