يتسلل الوهن، والضعف إلى نفوسنا بحكم الفطرة البشرية، فالإنسان مفطور على الضعف، كما هو مدعوم بشيء من القوة، والضعف والقوة حالتان متلازمتنا في حياة كل إنسان، حيث لا يمكن أن يكون على حالة واحدة طوال مسيرة حياته، وهذه من الحكم الجليلة من لدن رب العباد في خلقه -وإن لله في خلقه شؤون- وحرق الأوراق عند الإنسان يكون في كلا الحالتين، فإن هو شعر بالقوة فإن هذه القوة تعطيه نوعا من الزهو فلا يفكر في العواقب، فهو الآن قوي، مارد، شيطان، متجبر، متسلط، نرجسي، وبالتالي لا يفكر في العواقب، فيضرب بقوة، ويقسو بقوة، ويبخل بقوة، ويكره بقوة، ويعذب بقوة، وينتقم بقوة، فيمارس كل الموبقات انطلاقا من هذه القوة التي يشعر بها.
وفي حالة الضعف كذلك، يقدم كل أوراقه دفعة واحدة لإنقاذ نفسه من حالة الوهن التي يشعر بها، ويقول في نفسه: «هي مرة واحدة، إما لي، أو علي» والأوراق المشار إليها في هذا السياق، قد تكون قوة مال، وقد تكون قوة جاه، وقد تكون قوة منصب، وقد تكون قوة عضلية «ميكانيكية» وقد تكون الحكمة، وقد تكون الرحمة، وقد تكون العدالة، وقد تكون الحيادية، وقد تكون المحبة، وقد يكون التعاون، وقد يكون الرضا، وقد يكون الغضب، وقد تكون الإدارة، وقد يكون العفو عند المقدرة، وقد تكون الأمانة، وهذه كلها معززات معنوية، تتحول إلى مادية عند توظيفها على الواقع، نتقاسمها جميعا مع الآخرين من حولنا، فإن أغلظنا فيها الممارسة كانت وبالا علينا وعلى الآخرين، وإن استطعنا أن ننزع أنفسنا من مأزق السقوط في الرذيلة كان ذلك بمثابة جسر الإنقاذ لنا وللآخرين من حولنا كذلك.
تقول الحكمة: «الفضيلة بين طرفين، كلاهما رذيلة» فعلى سبيل المثال، الكرم فضيلة سامية، ولكن إذا صاحبها التبذير كانت رذيلة، وإن صاحبها التقتير كانت رذيلة، والرذيلة هنا، ليس معناها الفعل المشين بالمطلق، وإنما هو الفعل الخارج عن سياق القبول، والاحترام والتقدير، وما ينطبق على الكرم ينطبق على الرحمة أو العفو، فإن المبالغة في طرفيه يكون رذيلة، فإذا تكرر العفو منك لشخص ما، أساء سلوكه عندك، فقد يستغل ذلك، ويصفك بالضعف، وقد يتمادى في الإساءة إليك، وإن قسوت عليه منذ خطئه الأول، قد تواجه منه الشعور نفسه، ويكون لك عدوا على امتداد خط السير الأفقي، وبالتالي فالوسطية تعفيك عن الوقوع في مأزق حرق أوراقك بالجملة، وهذا، بلا شك من سلوك الحكمة، التي نفتقدها في كثير من مواقفنا تجاه الآخر.
قد نتساءل مع أنفسنا عن أدوات الضبط التي لو أخذنا بها لقلت خساراتنا من إجراء الإفراط أو التفريط في مسألة «حرق الأوراق بالجملة» وهنا قد تتشعب الإجابة عند كل منا، فقد نقيمها من خلال تجربة الحياة اليومية، أو من خلال العمر المتراكم، أو من خلال مستويات المسؤوليات التي نمر بها، أو من خلال تباينات النوع (ذكر/ أنثى) فكل من هذه المناخات لها دور في القدرة على الحد من «حرق الأوراق بالجملة» أو توفيرها ورقة ورقة احتسابا لظروف ومواقف قد تكون أكثر أهمية مما نحن عليه في لحظة زمنية، قد نصنفها على أنها فارقة، بينما الواقع غير ذلك تماما، ولذلك قيل: «لا تشرب السم، اتكالا على ما عندك من الترياق» ولو حدث ذلك، يقينا، سوف تكون خسارتنا كبيرة، وقد لا يسعفنا العمر لتعويضها، فظروف اليوم، غير ظروف الغد، فأبقوا على كثير من أوراقكم، فسوف تحتاجونها في ظروف ربما أكثر إلحاحا مما أنتم عليه الآن.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: وقد تکون وقد یکون من خلال
إقرأ أيضاً:
لبنان لن يكون “إسرائيليًا”…
ليلى عماشا
أشهر طويلة مرّت، وسماء لبنان كما أرضه، تنتهكها الطائرات الحربية المعادية: قصف وغارات وترويع عبر خرق جدار الصوت فوق مختلف المناطق اللبنانية …هذا فضلًا عن طائرات الاستطلاع المعادية التي قلّ ما تغادر سماءنا.. كلّها لم تحرّك ساكنًا في لغة “السياديين”؛ ولم يبلغ صوتها مسامعهم المرتهنة للإشارات العوكرية، لكن أرّقتهم طائرة مدنية تقلّ زوّارًا لبنانيين من الجمهورية الإسلامية في إيران وإيرانيين يستعجلون الحضور إلى بيروت ليكونوا في عداد مشيّعي ومودّعي الأمينين العامين لحزب الله، سيّد شهداء الأمّة السّيّد حسن نصرالله والسيّد الهاشميّ هاشم صفيّ الدّين..
لقد أرّقتهم إلى حدّ منع منحها إذن الهبوط في مطار بيروت! للحظة، يتلّفت سامع الخبر حوله ليتبيّن موقعه الجغرافي: هل نعيش في الأراضي المحتلّة؟ هل المطار الذي منع إذن الهبوط للطائرة الإيرانية هو حقًّا مطار بيروت؟.. هل هو هجوم سيبراني إذًا ما سبّب هذا الخلل الفاضح؟! لا. إنّه مجرّد قرار أميركي تسابق “لبنانيون” لتنفيذه على رجاء رضا عوكر! يا للعار!.
في ساعة انتشار الخبر، حلّ ما يشبه الصّدمة على أهل المقاومة في لبنان، فهم وإن لا يتوقعون أي بادرة وفاء وتقدير من “السيادة اللبنانية” للجمهورية الصديقة والمساندة التي لا تكفّ عن منح لبنان كلّ عون ممكن، فإنّهم أيضًا لم يتوّقعوا أن تبلغ الوقاحة هذا الدرك من عدم احترام القوانين والأنظمة من جهة، ومن المجاهرة بمعاداة كلّ ما يمتّ إليهم بصلة، وإن كانت طائرة ركَاب مدنية تلتزم جميع المعايير الدولية للطيران وتقلّ مواطنين مدنيين عائدين إلى بلدهم وضيوفًا من إيران يريدون المشاركة في التشييع المهيب يوم الأحد في ٢٣ شباط/فبراير. الصّدمة لم تطل، فالغضب الناتج عن هذه الإهانة الوقحة، والتي يريد منها مرتكبوها القول لأهل المقاومة أنّهم غرباء في بلدهم ومستضعفون، تُرجم إلى تحرّك شعبي عفويّ مباشر على طريق المطار، وإلى حملة إلكترونية مندّدة بالقرار الجائر والوقح تحت وسم “لبنان لن يكون إسرائيليًا”.
لم تعد كلمة “المعيب” تكفي لتوصيف هذا النوع من القرارات التي تلتزم حذافير الرغبة الأميركية، فالأمر تخطّى درجات العيب المتمثّل بالانصياع التّام والمشهود للأوامر التي تصدرها الإدارة الأميركية. وإن كان الصهاينة علانية قد هدّدوا في أثناء الحرب بقصف أي طائرة مدنية إيرانية أو عراقية حال هبوطها مطار بيروت، وإن كانت قناة الحدث الصهيونية في الشهر الفائت قد أذاعت إخبارًا كاذبة تقول إن طائرة مدنية إيرانية تحمل على متنها “أموال إعادة الإعمار” ما دفع بالقرار “السيادي” في المطار إلى تفتيش ركابها طوال ساعات.. فحادثة اليوم أكثر خطورة وأكثر انتهاكًا لأبسط المفاهيم الحقوقية والقانونية والسيادية: ما حدث هو حرفيًا عدوان صهيوني “ناعم” على مطار بيروت وعلى فئة من اللبنانيين، باستخدام فئة لبنانية “رسمية” ارتضت على نفسها عار الارتهان الكامل للعدوّ.
على سبيل إيجاد تخريجة قامت “السيادة” بإرسال طائرة تابعة لشركة الميدل ايست لنقل اللبنانيين العالقين في مطار طهران، على أساس أن الأزمة هي أزمة نقل وليست أزمة شرف، على وقع تهليل الفريق العوكري بالخطوة العظيمة التي تقوم بها دولتهم، فعبّروا لا عن ارتهانهم وانبطاحهم للقرار الأميركي وحقدهم الأسود على أهل المقاومة في لبنان فحسب، بل عن ضحالة أخلاقية مريعة وتورّط مشهود بتشويه مفاهيم الشرف الوطني والكرامة الإنسانية..
لقد بدا هؤلاء حرفيًا كسرب يهلّل لمن ينتهك شرفه ويفرح بكونه من فئة لو وُجدت في بلد يحترم ذاته الوطنية لحُوكمت بتهمة الخيانة وعُوقبت وفقًا لما تنصّ عليه القوانين المرعية الإجراء. يهلّل هؤلاء لاجراء ينتهك حقًّا مدنيًا ومواثيق دولية فقط لكونه يتماهى مع أوامر مشغّلتهم في عوكر، ثمّ يخرجون إلى الشاشات ليتحدثوا عن السيادة ودولة القانون.. هزُلت!