خطبتا الجمعة بالحرمين: الألفة الصادقة تقوم على حسن الظن وطيب المعشر.. وارتقاء سلوك المجتمع باستشعار مراقبة الله
تاريخ النشر: 4th, October 2024 GMT
ألقى الشيخ الدكتور بندر بليلة خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله عز وجل، ومراقبته في السر والعلن ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى، وقال: نِعَمُ الله وآلاؤُه على عبادِه لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، ولا تُحصَرُ ولا تُستقْصَى. نِعَمٌ مادِيَّة ومعنَوِيَّةٌ، دِينِيَّة ودُنيوِيَّةٌ.
هي مِن أفضَلِ خِصالِ المُؤمِنِ وسَجايَاهُ، وأنبَلِ صفاتِه ومزايَاهُ، فعن أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مَأْلَفٌ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ، وَلَا يُؤْلَفُ» أخرجَه أحمد في مسنَدِه. مبينًا أن الأُلْفَة الصَّادِقَة هِي الَّتِي تَقُومُ على أساس حُسْنِ الظَّنِّ، وصَفاءِ النِّيَّةِ، وطِيبِ المَعْشَرِ، فَتُثْمِرُ الإحسانَ، وبذْلَ النَّدَى، وغَضَّ الطَّرْفِ، والتَّجاوُزَ عَن الزَّلاتِ، والتَّغافُلَ عَن العَثَراتِ.
الأُلْفَة تَحمِلُ أصحابَها على القِسْطاسِ المُستَقِيمِ، فيَسْتَدْعُونَ الحسَناتِ إذا هَبَّتِ الخَطِيَّاتُ، فِي جَمِيعِ الأوْقاتِ، ومُخْتَلَفِ العَلاقاتِ.
وأوضح فضيلته أنَّ الأُلْفَة الحَقَّة هِي القاعِدَة الكُبْرَى والأساس المَتِينُ الَّذِي يقُومُ عَليْه بُنيانُ السَّعادَة فِي حَياة النَّاسُ فتكون بينَ الرَّاعِي والرَّعِيَّةِ، قال صلى الله عليه وسلم: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ» أخرجه مُسْلِمٌ في صَحِيحِه مِن حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ. وبَيْنَ الزَّوْجِ وزَوْجَتِهِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يفرُكُ مؤمنٌ مُؤمنَةً، إِن كَرِه مِنْهَا خُلُقًا رَضِي مِنْهَا آخَرَ» أخرجَه مسلِمٌ. وبَيْنَ الجارِ وجَارِهِ، ففِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ السيدة عائِشَة وابنِ عُمَرَ قَالَا: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّه سَيُوَرِّثُهُ».
وتكون الألفة أيضًا بين الرَّجُلِ ومَن تحتَه مِن الخَدَمِ، ففِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهليَّةٌ، هُمْ إِخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمُ الله تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ». وبَيْنَ الأَجِيرِ وصاحِبِ العَمَلِ، قال صلى الله عليه وسلم: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَه قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» أخرَجَه ابنِ ماجَة في السُّنَنِ مِن حَدِيثِ عبْدِاللَّه بْنِ عُمَرَ.
وأكد الدكتور بليلة أن الأُلْفَة مَجْلَبَة للتَّعاوُنِ علَى البِرِّ والتَّقْوَى، وعلَى التَّعاضُدِ عِنْدَ حُصُولِ اللَّأْوَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذا اشْتَكَى عُضْو تَدَاعَى لَه سَائِرُ جَسَدِه بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» مُتَّفَقٌ عَليْهِ.
ولِمكَانِتَها وعَظيمِ أَثَرِهَا رَغَّبَ المَوْلَى جَلَّ وعَلا فِيهَا، وجعَلَها مَقْصِدًا مِن مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، حَتَّى معَ غيْرِ المُسْلِمِينَ، فَشَرَعَ تَأْلِيفَ قُلُوبِهِمْ، بأَنْ جَعَلَهُمْ أحد أصْنَافِ الزَّكَاة الثَّمانِيَةِ، تُسَلُّ بِها سَخِيمَة قُلُوبِهِمِ، وتُنزَعُ بها ضَغِينَة أفْئِدَتِهِمْ.
والأُلْفَة ضَرْبٌ مِن ضُرُوبِ الرَّحْمَةِ، وصِنْفٌ مِنْ أَصْنَافِ المَوَدَّةِ، بَلْ هِي أَثَرٌ مِن آثارِهَا، ففِي المُسْنَدِ والسُّنَنِ مِن حَدِيثِ عبدِالله بنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحمَنُ، اِرْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّماءِ».
وبين فضيلته أنَّ الأُلْفَة مِن شِيَمِ الكُمَّلِ مِن النَّاسِ، الَّذِينَ يَترَفَّعُونَ عَنِ التُّرَهَّاتِ، ويُنَزِّهُونَ أَنْفُسَهُمْ عَن السَّفاهاتِ، ويَحْمِلُونَ أَرْواحَهُمْ عَلى الكَمالَاتِ، فَتَجِدُهُمْ دائمًا فِي أرْقَى المقَاماتِ، تَصْدُرُ عَنْهُمْ أزْكَى المقالاتِ في أَحْلَكِ الحالات، فبالأُلْفَة والمَحَبَّة يَنْتَشِرُ الأمن، ويَحِلُّ السَّلامُ، ويَعِيشُ النَّاسُ فِي سعادَة واطمِئْنانٍ، ومَتَى غَابَ هذَا المعْنَى عَن حَياة النَّاسِ تَكَدَّرُ العَيشُ، وكَثُرَتِ الوَساوِسُ، وسادَ سُوءُ الظَّنِّ، وانْتَشَرَتِ القَطِيعَةُ، وصارَتْ سَفِينَة الحيَاة تَتَمَلْمَلُ بَينَ أَمْواجِ البَلاءِ وأَعاصِيرِ الابْتِلاءِ، قالَ صلى الله عليه وسلم: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأمم قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ. وَالْبَغْضَاءُ: هِي الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّة حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ، أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ» أَخرَجَه أحمد في مُسنَدِه والتِّرْمِذِي في جامِعِه مِن حَدِيثِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رضي الله عنه.
فَلَا تَسَلْ عَمَّنْ حُرِمَ هَذِه النِّعْمَة العَظِيمَة والِمنَّة الجَلِيلَةِ، كَيْفَ يَعِيشُ فِي هَذِه الحَياةِ؟! تَرَاه يَتَقَلَّبُ بَيْنَ أَصْنافِ الهُمُومِ وَالبَلايَا، وَالفِتَنِ والرَّزَايَا، غِلٌّ وَحِقْدٌ، غِشٌّ وحَسَدٌ نَسْأَلُ الله السَّلامَة والعَافِيَة. هِي قِطْعَة مِنْ عَذَابٍ، تَعَجلَها صَاحِبُها لِنَفْسِه فِي الدُّنيَا، قبلَ يَومِ الأَشْهَادِ.
* وفي المدينة المنورة أوصى إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالبارئ الثبيتي المسلمين بتقوى الله تعالى، فهي الزاد يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وبين إمام وخطيب المسجد النبوي أن قول الله تعالى ((إِنَّ اللَّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)) يحمل في طياته معاني عميقة، ولها الأثر البليغ في النفس والحياة. مضيفًا بأن الناس حين تقرؤها تغمر قلوبهم السكينة إذ يوقنون بأن المدبر هو الله.
وبين أن هذا هو حال موسى حين تبعه فرعون ((إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ))، وحال نبينا صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة مهاجرًا “ما ظنك باثنين الله ثالثهما”.
وأوضح فضيلته أن هذه الآية تغرس في قلب المؤمن الرضا والتسليم بأن رزقه مضمون، كما تثبت أن الله لا تخفى عليه حال العبد مما يورث في النفس الطمأنينة، وفي القلب السعادة.
كما بين إمام وخطيب المسجد النبوي أن هذه الآية تصنع العجائب من زرع الحياء في قلب المؤمن من الله؛ فلا يراه حيث نهاه، ولا تسير به أقدامه إلى ما لا يرضي الله.
وأضاف إمام وخطيب المسجد النبوي بأن قول الله تعالى {إِنَّ اللَّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} يشكل قاعدة راسخة، تدعم تنمية المجتمع وبناء الوطن ورفعة الأمة، وتحسن العمل، وترتقي بحياة الفرد.. مشيرًا إلى أنه متى ما استشعر المسلم أن الله تعالى يراه في كل أحواله كان أسرع ملجأ يلجأ إليه.
وتابع إمام وخطيب المسجد النبوي بأنه متى ما استقر في القلب معنى {إِنَّ اللَّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}، وقوله تعالى {يَعْلَمُ خَائِنَة الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}، فإن سلوك المجتمع سيرتقي وتتهذب أخلاقه، وتصبح مراقبة الله هي المعيار الأعلى في العامل، وأداء حقوق الآخرين، وتجنب الظلم.
المصدر: صحيفة الجزيرة
كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية الله صلى الله علیه وسلم رضی الله عنه الله تعالى الأ ل ف ة الله ت ن الله
إقرأ أيضاً:
شهر شعبان.. سبب إكثار النبي من الصيام فيه
صيام شهر شعبان يُعد من السنن المحببة التي حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إحيائها لما تحمله من حكم وأسرار عظيمة. فقد ورد في الحديث الشريف عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال: "قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ذلك شهر يغفل الناس فيه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم".
الحكمة من صيام شهر شعبان
تنبع من كونه فرصة للتقرب إلى الله في وقت يغفل فيه كثير من الناس عنه، فهو يقع بين شهر رجب، أحد الأشهر الحرم التي حرّم الله فيها القتال، وشهر رمضان المبارك، شهر الصيام والعبادة.
هذه الغفلة تجعل صيام شعبان عملًا ذا أجر مضاعف، حيث يُظهر عبادة العبد وحرصه على طاعة الله بعيدًا عن المواسم التي يكثر فيها الإقبال على الطاعات.
دار الإفتاء المصرية تستطلع هلال شهر شعبان غدًاالفرق بين رفع الأعمال في شعبان وأيام الاثنين والخميس.. الإفتاء توضحكما أن شهر شعبان يشهد رفع أعمال العباد إلى الله سبحانه وتعالى، لذلك أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يُرفع عمله وهو صائم، لما في الصيام من خضوع وطاعة وقرب من الله.
ومن الحكم الأخرى لصيام شعبان أنه يُعتبر فترة تدريبية للمسلمين على صيام شهر رمضان، حيث يُهيئ النفس والجسد للعبادة ويعوّدها على مشقة الصيام.
كذلك هو من أنواع الصيام التطوعي الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم، مما يجعل إحيائه سنة مؤكدة تزيد من قرب العبد لربه.
شعبان أيضًا يُجسد رحمة الله بعباده، حيث يمنحهم فرصة لجبر ما فات من العبادة والاستعداد لاستقبال رمضان بخيرات الطاعات والعطايا.
كما أنه يُظهر أن الشهرة ليست معيار الأفضلية، فبينما ينشغل الناس برجب ورمضان، يغفلون عن فضل شعبان الذي يحمل من الخير ما لا يُحصى.
في النهاية، يبقى صيام شهر شعبان منحة إلهية وهبها الله للأمة الإسلامية ولنبيها الكريم، ليُذكّر الجميع أن العبادة ليست محصورة بمواسم بعينها، وإنما هي رحلة مستمرة في طريق القرب من الله.