فى‭ ‬الفيلم‭ ‬الإيطالى‭ ‬الشهير‭ ‬Il Postino‭ ‬‮«‬ساعى‭ ‬البريد‮»‬‭ (‬1994‭)‬،‭ ‬يقوم‭ ‬ساعى‭ ‬البريد‭ ‬فى‭ ‬قرية‭ ‬إيطالية‭ ‬صغيرة‭ ‬بإهداء‭ ‬فتاة‭ ‬يحبها‭ ‬قصيدة‭ ‬يدّعى‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬تأليفه،‭ ‬بينما‭ ‬هى‭ ‬فى‭ ‬الواقع‭ ‬من‭ ‬إبداع‭ ‬الشاعر‭ ‬التشيلى‭ ‬المنفى‭ ‬بابلو‭ ‬نيرودا‭. ‬عندما‭ ‬وبّخه‭ ‬نيرودا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الفعل،‭ ‬رد‭ ‬الشاب‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬فقط‭ ‬لأنك‭ ‬كتبت‭ ‬القصيدة،‭ ‬لا‭ ‬يعنى‭ ‬أنها‭ ‬ملكك‭.

‬الشعر‭ ‬ينتمى‭ ‬إلى‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يحتاجون‭ ‬إليه‭.‬‮»‬
قد‭ ‬يدهشنا‭ ‬هذا‭ ‬الرد‭ ‬فى‭ ‬عصرنا‭ ‬الذى‭ ‬يحمى‭ ‬حقوق‭ ‬الملكية‭ ‬الفكرية‭ ‬بقوانين‭ ‬صارمة،‭ ‬ولكن‭ ‬كلمات‭ ‬ساعى‭ ‬البريد‭ ‬تفتح‭ ‬بابًا‭ ‬للتأمل‭ ‬فى‭ ‬مسألة‭ ‬ملكية‭ ‬الشعر‭. ‬فمن‭ ‬يملك‭ ‬القصيدة‭ ‬حقًا؟‭ ‬هل‭ ‬يملكها‭ ‬الشاعر‭ ‬الذى‭ ‬أبدعها؟‭ ‬أم‭ ‬القارئ‭ ‬الذى‭ ‬يتفاعل‭ ‬معها،‭ ‬ويجعلها‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬ورمزًا‭ ‬لتجاربه‭ ‬وأحلامه؟‭ ‬لمن‭ ‬تنتمى‭ ‬رائحة‭ ‬الوردة؟‭ ‬هل‭ ‬هى‭ ‬للشجرة‭ ‬التى‭ ‬تطرحها،‭ ‬أم‭ ‬للعابر‭ ‬الذى‭ ‬يتنفس‭ ‬عبيرها‭ ‬ويسعد‭ ‬به؟
فى‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الكتابة‭ ‬والتناسخ‮»‬،‭ ‬يستشهد‭ ‬الناقد‭ ‬المغربى‭ ‬عبدالفتاح‭ ‬كيليطو‭ ‬بحادثة‭ ‬طريفة‭ ‬عن‭ ‬الموسيقار‭ ‬الشهير‭ ‬وولفغانغ‭ ‬أماديوس‭ ‬موزارت،‭ ‬الذى‭ ‬تنازل‭ ‬طوعًا‭ ‬عن‭ ‬بعضٍ‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬أعماله‭ ‬لصديق‭ ‬مبتدئ‭. ‬هذا‭ ‬الفعل‭ ‬يعكس‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬الإبداع‭ ‬قد‭ ‬يتجاوز‭ ‬مسألة‭ ‬الملكية‭ ‬الشخصية،‭ ‬ليصبح‭ ‬مشاعًا‭ ‬بين‭ ‬الناس‭.‬
فى‭ ‬التراث‭ ‬العربي،‭ ‬تناول‭ ‬النقاد‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭. ‬ابن‭ ‬رشيق‭ (‬ت‭. ‬1070‭ (‬1071‭/‬،‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬نقاد‭ ‬الأدب‭ ‬فى‭ ‬العصر‭ ‬العباسي،‭ ‬أشار‭ ‬فى‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬العمدة‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬أنواع‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬السرقات‭ ‬الادبية،‭ ‬منها‭ ‬الاصطراف،‭ ‬ويتفرع‭ ‬إلى‭ ‬اجتلاب‭ ‬أو‭ ‬استلحاق،‭ ‬وإلى‭ ‬انتحال،‭ ‬ثم‭ ‬الإغارة،‭ ‬فالغصب،‭ ‬فالمرافدة‭. ‬وفى‭ ‬هذه‭ ‬الأنواع‭ ‬جميعا،‭ ‬يكون‭ ‬النص‭ ‬المسروق‭ ‬حاضرا‭ ‬بعينه‭ ‬لفظا‭ ‬ومعنى‭ ‬فى‭ ‬منتوج‭ ‬الشاعر‭. ‬وأضاف‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬قد‭ ‬يتنازل‭ ‬عن‭ ‬بيت‭ ‬شعرى‭ ‬لشاعر‭ ‬آخر‭ ‬بمحض‭ ‬إرادته‭. ‬هذا‭ ‬التصرف‭ ‬يعكس‭ ‬فهمًا‭ ‬أكثر‭ ‬تعمقًا‭ ‬للعلاقة‭ ‬بين‭ ‬الإبداع‭ ‬والملكية‭ ‬الأدبية،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يُنظر‭ ‬إلى‭ ‬القصيدة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬ملكية‭ ‬خاصة‭ ‬بل‭ ‬حساب‭ ‬مشترك‭ ‬فى‭ ‬بنك‭ ‬الابداع،‭ ‬إرث‭ ‬جماعى‭ ‬تتناوبه‭ ‬الاجيال‭.‬
لم‭ ‬تكن‭ ‬الحدود‭ ‬التى‭ ‬تفصل‭ ‬بين‭ ‬الاقتباس‭ ‬المشروع‭ ‬والسرقة‭ ‬مجرد‭ ‬مسألة‭ ‬قانونية‭ ‬فحسب‭ ‬فقد‭ ‬أثارت‭ ‬تساؤلات‭ ‬حول‭ ‬مدى‭ ‬اعتماد‭ ‬الشاعر‭ ‬على‭ ‬أعمال‭ ‬غيره،‭ ‬وأين‭ ‬يكمن‭ ‬‮«‬تعالق‭ ‬النصوص‮»‬‭ ‬ومتى‭ ‬يبدأ‭ ‬الإبداع‭ ‬الفردى‭.‬
فى‭ ‬السياق‭ ‬الغربي،‭ ‬قدّم‭ ‬الناقد‭ ‬الأدبى‭ ‬هارولد‭ ‬بلوم‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الانحراف‮»‬‭ (‬clinamen‭) ‬لفهم‭ ‬هذه‭ ‬العلاقات‭ ‬الشعرية‭. ‬مستندًا‭ ‬إلى‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الرومانى‭ ‬لوكريتيوس‭ (‬ت‭. ‬51‭ ‬ق‭.‬م‭.)‬،‭ ‬الذى‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬انحراف‭ ‬الذرة‭ ‬عن‭ ‬مسار‭ ‬الاخرى‭ ‬وهذا‭ ‬الانحراف‭ ‬هو‭ ‬الذى‭ ‬يجعل‭ ‬التغيير‭ ‬فى‭ ‬الكون‭ ‬ممكنًا‭. ‬طبّق‭ ‬بلوم‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬على‭ ‬الشعر،‭ ‬مشيرًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬ينحرف‭ ‬عن‭ ‬مسار‭ ‬سابقه‭ ‬المبدع‭ ‬ليصنع‭ ‬تصحيحًا‭ ‬أو‭ ‬تغييرًا‭ ‬فى‭ ‬اتجاه‭ ‬قصيدة‭ ‬جديدة‭. ‬وهذا‭ ‬‮«‬الانحراف‮»‬‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الإبداع‭ ‬الشعرى‭ ‬مميزًا‭ ‬وأصيلًا،‭ ‬ويشكل‭ ‬فى‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬استجابة‭ ‬إبداعية‭ ‬للقصائد‭ ‬السابقة‭.‬
وكما‭ ‬أنّ‭ ‬الشعر‭ ‬قد‭ ‬يصبح‭ ‬ملكًا‭ ‬لمن‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه،‭ ‬كذلك‭ ‬يمكن‭ ‬للشاعر‭ ‬أن‭ ‬ينحرف‭ ‬عن‭ ‬أسلافه‭ ‬ليبدع‭ ‬شيئًا‭ ‬جديدًا‭ ‬ينتمى‭ ‬إلى‭ ‬زمنه‭ ‬وتجربته‭.‬
 

المصدر: بوابة الوفد

إقرأ أيضاً:

«اسوشيتد برس»: ترامب يوقع أمرا بإنشاء صندوق ثروة سيادي يمتلك حصة في «تيك توك»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الاثنين، أمرا تنفيذيا يوجه الولايات المتحدة، لاتخاذ خطوات لإنشاء صندوق ثروة سيادي أمريكي جديد، قال إنه قد يستخدم لتحقيق أرباح من منصة "تيك توك" للتواصل الاجتماعي.
وذكرت وكالة أنباء اسوشيتد برس الأمريكية، الإثنين، أنه في أول يوم له بعد توليه منصبه، أصدر ترامب أمرا يمنح "تيك توك" حتى أوائل شهر أبريل للعثور على شريك أو مشتر معتمد، معلنا أنه يسعى لأن تمتلك الولايات المتحدة حصة 50% في هذه المنصة الضخمة.
وأشار في تصريحات من المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، إلى أن منصة تيك توك، المملوكة لشركة بايت دانس الصينية، يمكن أن يكون أحد الأصول الرئيسية في الصندوق السيادي الأمريكي الجديد.
وأوضح ترامب قد نضع تيك توك في الصندوق السيادي، أو نعقد شراكة مع مستثمرين أثرياء، هناك الكثير من الخيارات وأضاف لدينا العديد من الأصول الأخرى التي يمكننا إدراجها في الصندوق.

مقالات مشابهة

  • الطاقة الدولية: العراق يمتلك 600 ألف برميل نفط فائض يومياً
  • الشاعر السوري فواز قادري: دير الزور حكاية حب لا تنتهي.. والكتابة لا تهادن الواقع
  • معرض الكتاب يناقش الشاعر العراقي علي الشلاه في التراث والهوية وتحديات الإبداع
  • سلطان القاسمي يفتتح "الشارقة للشعر النبطي"
  • «اسوشيتد برس»: ترامب يوقع أمرا بإنشاء صندوق ثروة سيادي يمتلك حصة في «تيك توك»
  • سلطان يفتتح الدورة الـ 19 لمهرجان الشارقة للشعر النبطي
  • سلطان القاسمي يفتتح مهرجان الشارقة للشعر النبطي
  • الكاتب محمد قراطاس: الشعر أكثر كرمًا وإيثارًا من جميع أنواع الكتابات الأدبية
  • شعر بادية مطروح والإسكندرية في ندوة بمعرض القاهرة للكتاب
  • البريكي: وقلـتُ لـهُ: يا نيلُ، مصرُ صباحُها معي قهوةٌ أخرى بشعري مزعفَرَة