المشكلة السودانية التاريخية، التي تتجاوز الأزمات السياسية المباشرة أو الصراعات المسلحة، يمكن فهمها بشكل أعمق إذا نظرنا إليها من خلال الأبعاد النفسية الجماعية والاجتماعية. هذه الأبعاد تسهم في تشكيل التصورات، وتحديد أنماط السلوك، وخلق علاقات معقدة بين مكونات المجتمع السوداني، مما يؤدي إلى نشوء صراعات مزمنة وإعادة إنتاج الأزمات.



1. البعد النفسي الجماعي:

يُمكن تفسير المشكل السوداني جزئيًا من خلال ما يُعرف بعلم النفس الجماعي (Collective Psychology)، حيث أن الجماعات الإثنية والقبلية في السودان تحمل في طياتها مظاهر نفسية تراكمت عبر الأجيال بفعل التاريخ الطويل من التهميش، الصراعات، والاستغلال. هذه المظاهر النفسية تشمل:

الذاكرة الجمعية المتألمة: مثل الشعور بالمظلومية التاريخية لدى الجماعات المهمشة، حيث يتوارث الأفراد الشعور بعدم العدالة والاضطهاد، مما يُعزز من توجههم نحو العزلة أو حتى التمرد على النظام القائم.

الشعور بالدونية أو التفوق: نشأت بعض الفئات في السودان على فكرة تفوقها الإثني أو العرقي، مما أدى إلى ترسيخ الشعور بالتمايز وهو شعور تعويضي اكثر منه شعور طبيعي وله مصداقية في الواقع وانما هو الية بقاء و توازن علي سبيل تحويل عقد النقص الي عقد تفوق كحيلة دفاعية ، سواء في المناطق التي شهدت تجارة الرقيق أو في العلاقة بين المركز والأطراف، وبالتالي تأسيس علاقات هيمنة وخضوع متبادلة.

الشعور بالعجز والإحباط الجماعي: العجز الذي تعانيه بعض الجماعات في التعبير عن هويتها الثقافية أو المطالبة بحقوقها يُولد شعورًا باليأس، والذي قد يتحول إلى عدائية مفرطة، سواء تجاه السلطة المركزية أو حتى تجاه المكونات الاجتماعية الأخرى.

الصورة النمطية المتبادلة: ترسيخ الصور النمطية السلبية بين الجماعات المختلفة (مثلاً الجلابة كمستغلين، الغرابة كمتمردين، النوبة كمتمسكين بالتقاليد)، وهذا يؤدي إلى تنميط الأفراد وفق تصنيفات ضيقة يصعب معها بناء روابط اجتماعية صحية.

2. البعد الاجتماعي:

الشق الاجتماعي يتداخل مع الشق النفسي، حيث أن التكوينات الاجتماعية في السودان تتسم بعدم التجانس الواضح، مما يؤدي إلى نشوء علاقات اجتماعية متناقضة ومتداخلة. بعض مظاهر هذه المعضلات الاجتماعية:

هيكلية القبلية والعرقية: هيمنة القبلية والانتماءات العرقية في تشكيل الهوية السودانية، مما يجعل ولاء الفرد لقبيلته أو عرقه أعلى من ولائه للوطن. هذه الديناميكية الاجتماعية تؤدي إلى تجزئة المجتمع إلى وحدات مستقلة تعيش في تنافس دائم، ويُنظر إلى الآخر على أنه منافس أو خصم محتمل.

الفوارق الاقتصادية والتنموية: تعمق الفجوات التنموية بين المركز والأطراف يُساهم في تشكيل تصور اجتماعي عام بأن الدولة تخدم مصالح فئة محددة دون غيرها. وهذا يولد الإحساس بالحرمان النسبي، والذي يُعتبر من العوامل المحركة للصراعات.

التمدد الحضري والهجرة الداخلية: هجرة الأفراد من الأطراف إلى المدن الكبرى مثل الخرطوم بسبب النزاعات أو التصحر أو الفقر تُعيد تشكيل التركيبة الاجتماعية في هذه المدن، مما يؤدي إلى خلق صراعات جديدة على الموارد وفرص العمل.

تسييس الانتماءات الاجتماعية: الصراعات الاجتماعية في السودان كثيرًا ما يتم تسييسها واستغلالها من قبل النخب السياسية لتعزيز سلطتها، سواء عبر استمالة جماعات معينة أو تهميش أخرى، مما يُزيد من تعقيد الحلول الاجتماعية والسياسية الممكنة.

3. التأثيرات النفسية التاريخية:

للتاريخ السوداني الطويل في العبودية، الاستعمار، ثم السياسات المركزية القمعية، أثر نفسي عميق على التركيبة الاجتماعية والنفسية للمجتمع السوداني:

استمرار آثار العبودية: ما زال تأثير العبودية قائمًا في اللاوعي الجماعي لبعض الجماعات، حيث أن هذا الإرث خلق تباينًا اجتماعيًا وتمييزًا مبنيًا على الأصول العرقية، مما يجعل الصراعات الإثنية تستمد جزءًا من قوتها من هذه المخلفات التاريخية.

تأثير الاستعمار في إعادة تشكيل الهويات: الاستعمار البريطاني فرض أنماطًا من الحكم تعتمد على التفرقة بين الأعراق، مما أدى إلى تعميق الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة.

الأنظمة العسكرية الشمولية: الأنظمة العسكرية، خاصة خلال فترة نظام الإنقاذ (1989-2019)، أسست لانقسامات نفسية جماعية عبر التلاعب بالدين، والقيم الثقافية، والانتماءات القبلية. هذا التلاعب ساهم في خلق شعور بالعداء المتبادل، وعدم الثقة بين السودانيين أنفسهم.

4. نتائج هذه المعضلات النفسية والاجتماعية:

إن التداخل بين العوامل النفسية الجماعية والاجتماعية أدى إلى خلق حلقة مفرغة من الصراعات والانقسامات. فعلى سبيل المثال، المفاوضات التي تُجرى بين الأطراف المتنازعة غالبًا ما تنتهي بالفشل، لأن الأطراف المختلفة تحمل تصورات وصورًا ذهنية سلبية عن بعضها البعض، مما يجعل الوصول إلى تفاهم مشترك أمرًا صعبًا.

حتى في حالة النجاح في الوصول إلى اتفاق، يبقى هناك تردد في الالتزام به، لأن الخلفية النفسية والاجتماعية التي تشكل تصورات الأفراد والجماعات عن السلطة، والعدالة، والحق، والانتماء لا تزال مشبعة بالمفاهيم السلبية والشك المتبادل.

5. سبل الحل:

لحل المشكلة السودانية من جذورها، يجب اتباع نهج شامل يأخذ في الاعتبار العوامل النفسية والاجتماعية إلى جانب الحلول السياسية والعسكرية. من بين هذه السبل:

العمل على بناء ذاكرة جمعية إيجابية: من خلال تسليط الضوء على أوجه التكامل والتفاعل التاريخي بين الجماعات المختلفة، والسعي نحو إعادة صياغة تاريخ مشترك يُبرز المساهمات المتبادلة.

إصلاح النظام التعليمي والإعلامي: لمحو الصور النمطية السلبية، وبناء جيل جديد يُدرك أن التعددية هي مصدر قوة وليس ضعفًا.

برامج المصالحة المجتمعية: تنظيم برامج للمصالحة تشمل حوارات مجتمعية تهدف إلى معالجة الجروح النفسية المتوارثة، وإعادة بناء الثقة بين الجماعات.

التنمية المتوازنة: الاستثمار في المناطق المهمشة اقتصاديًا، واجتماعيًا، وثقافيًا، للقضاء على الشعور بالحرمان والتمييز.

إن النظر إلى المشكلة السودانية من زاوية المعضلات النفسية والاجتماعية يُمكننا من فهم أعمق للتعقيدات التي تواجه هذا البلد. فالقضية ليست فقط صراعًا على السلطة أو موارد، بل هي صراع على الهوية، والانتماء، والمظلومية. الحلول الناجعة يجب أن تعالج جذور هذه المعضلات، لا أن تكتفي بإبرام اتفاقات سياسية قد تنهار في أي لحظة بسبب هشاشة الأسس النفسية والاجتماعية التي تقوم عليها.

hishamosman315@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: النفسیة والاجتماعیة الاجتماعیة فی فی السودان یؤدی إلى

إقرأ أيضاً:

أدوية إنقاص الوزن.. خطر جديد على الصحة النفسية والجسدية

حلول سريعة وغير آمنة لخسارة الوزن .. في الوقت الذي يعاني فيه ملايين الأشخاص حول العالم من اضطرابات الأكل، برز عقار أوزيمبيك، المعروف أيضًا باسم سيماجلوتيد، كحل سريع لفقدان الوزن. 

وبحسب صحيفة اندبيدنت البريطانية طور الباحثون هذا العقار في الأساس لعلاج مرض السكري من النوع 2، ولكنه أصبح في الآونة الأخيرة موضوعًا مثيرًا للجدل بعدما بدأ يُستخدم من قبل أفراد يعانون من مشاكل تتعلق بصورة أجسادهم، أو حتى أولئك الذين يرغبون ببساطة في إنقاص الوزن. وعلى الرغم من الفوائد المحتملة لهذا العقار، إلا أن استخدامه خارج نطاق الإرشادات الطبية يحمل مخاطر جسدية ونفسية كبيرة.

استخدام أوزيمبيك خارج الإرشادات الطبية

تمكن البعض من الحصول على أوزيمبيك بطرق غير قانونية، مثل تعديلات زائفة على استمارات طلب الدواء عبر الإنترنت أو من السوق السوداء. بدأنا نشهد في الآونة الأخيرة تزايدًا في التقارير التي تتحدث عن استخدام العقار من قبل الأفراد الذين يعانون من اضطرابات الأكل، بما في ذلك الشره المرضي وفقدان الشهية، حيث يستخدمونه كوسيلة لتحقيق خسارة سريعة في الوزن.

وقد أظهرت بعض الدراسات أنه حتى أولئك الذين ليس لديهم مشاكل صحية حقيقية قد يتناولون أوزيمبيك في محاولة لتحقيق مظهر جسماني مثالي، وهو ما يُعد تصرفًا خطرًا يهدد صحتهم النفسية والجسدية على حد سواء.

المخاطر الصحية والآثار الجانبية

في حين أن أوزيمبيك يمكن أن يساعد مرضى السكري على خفض مستويات السكر في الدم والتحكم في وزنهم، إلا أن استخدامه بشكل غير مناسب قد يؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة. تتراوح الآثار الجانبية المعروفة من أمراض المرارة وفشل الكلى إلى التهاب البنكرياس، بالإضافة إلى تغييرات في الرؤية. والأخطر من ذلك هو أن هذه الأدوية لم تخضع بعد لدراسات كافية بشأن تأثيراتها الطويلة المدى.

الأمر لا يتوقف هنا، ففيما يتعلق بالأشخاص الذين يعانون من اضطرابات الأكل، تشير الخبراء إلى أن تناول أدوية لإنقاص الوزن قد يعزز من سلوكيات غير صحية، مثل القلق المفرط بشأن الوزن والشكل الجسدي. كما أن فقدان الوزن السريع قد يتسبب في ظهور مشاعر الخجل والذنب، ويؤدي إلى تدهور حالة المريض النفسية في حال توقفه عن تناول العقار واكتساب الوزن مرة أخرى.

التأثير الإعلامي وتطبيع أوزيمبيك

التغطية الإعلامية الواسعة حول استخدام أوزيمبيك قد ساهمت في تطبيع هذا السلوك، حيث أصبح من الشائع بين المشاهير والمستخدمين العاديين التحدث عن فقدان الوزن باستخدام هذا العقار. ولكن هذه القصص الإعلامية قد تعزز من الضغط الاجتماعي لتحقيق المظهر المثالي، مما يزيد من خطر اللجوء إلى أدوية غير مناسبة لتحقيق هذا الهدف.

في هذا السياق، يشير الخبراء إلى أن هذه الرسائل الإعلامية يمكن أن تؤدي إلى حلقة مفرغة، حيث يصبح الأشخاص أكثر عرضة لاستخدام الأدوية لتحقيق مظهر جسدي معين، مما يفاقم مشاعر القلق والضغط النفسي لديهم.

ضرورة الحذر والفحوصات الطبية

من الضروري أن يكون هناك فحص شامل قبل وصف أدوية مثل أوزيمبيك، يشمل تقييم الحالة النفسية والبدنية للمريض. ويجب أن يتم ذلك تحت إشراف طبي دقيق وبموافقة مختصين في العلاج النفسي عند الحاجة. يؤكد المتخصصون على ضرورة أن تقوم خدمات إدارة الوزن بتقييم علاقة الأفراد بالطعام والوزن بشكل مستمر لتفادي تطور اضطرابات الأكل أو تفاقمها.

بالإضافة إلى ذلك، يجب تشديد القيود على وصف أدوية فقدان الوزن وضمان وجود ضوابط طبية صارمة، بما في ذلك فحص شامل قبل بدء العلاج. التوسع في استخدام أدوية إنقاص الوزن دون إشراف طبي مناسب قد يؤدي إلى تزايد الأضرار النفسية والجسدية، لا سيما بين الأشخاص الأكثر عرضة لهذه المشاكل.

 

مقالات مشابهة

  • المنفي يناقش مع مديرة المنظمة الدولية للهجرة وسائل التعاطي مع جذور الظاهرة
  • المشهد السياسي في العاصمة البديلة بورتسودان وخفايا الصراع ومآلاته
  • مصدر: منفذ هجوم النجف ينتمي لإحدى الجماعات الإرهابية
  • الصحة النفسية وتأثير الضغوط اليومية
  • الوحدة.. مرض صامت يؤثر على صحتنا النفسية والجسدية
  • وصفات طبيعية وسهلة لتقوية جذور الشعر في الشتاء
  • السودان: الدعم السريع تمهل المسلحين داخل مدينة الفاشر 48 ساعة للتسليم
  • أدوية إنقاص الوزن.. خطر جديد على الصحة النفسية والجسدية
  • استعيدي صحة شعرك.. 4 وصفات طبيعية فعّالة لتقوية الجذور
  • حميدتي والبرهان في مرمى العقوبات الأميركية.. واشنطن تضغط على قادة طرفي الصراع في السودان