سوق الصرف غير النظامية في العراق: حصان( طروادة ) في الصراعات الجيو اقتصادية.
تاريخ النشر: 3rd, October 2024 GMT
بقلم : د. مظهر محمد صالح ..
1- تمهيد :
ليس من المنطق الاقتصادي ان تتمتع بلادنا بأعلى احتياطيات اجنبية لتلامس 100 مليار دولار واكثر وتتمتع باعلى كفاءة تجارية في تاريخ البلاد النقدي والتي تزيد على 15 شهر استيرادي في حين ان المعيار العالمي يعُد تلك الكفاءة بنحو 3 اشهر من استيرادات البلاد ، مع توافر تغطية كاملة للاساس النقدي monetary base وتحرير كامل للحساب الجاري لميزان المدفوعات العراقي ، وهو امر يتفق وتطبيقات المادة (8 ) من اتفاقية صندوق النقد الدولي The Articles of Agreement of the International Monetary Fund في تحرير الحساب الجاري المذكور، فضلاً عن المنافع ذات الصلة بالاستثمار والعمل الاجنبي( اي عوائد الاستثمار والعمالة الاجنبية ) يرافق ذلك سياسة تدخل قوية في العمليات النقدية للبنك المركزي العراقي في سوق الصرف والتي ترمي الى السيطرة على مناسيب السيولة المحلية ضمن مايسمى (بالتعقيم من خلال التدخل في سوق الصرف Sterilization intervention ) وتوفير العرض الكافي من العملة الاجنبية بسعر صرف رسمي ثابت قدره 1320 دينار ازاء الدولار الامريكي الواحد، ذلك لتمويل التجارة الخارجية للقطاع الاهلي ومتطلبات التحويل الخارجي الاخرى للسوق الوطنية وبما يتناسب و التحرير شبه المباشر للحساب المالي في ميزان المدفوعات العراقي.
وعلى الرغم مما تقدم ، فان هيمنة سعر الصرف الرسمي في تحديد القيمة الخارجية للدينار external value والذي خلف استقراراً عاليا في معدلات نمو المستوى العام للاسعار في البلاد ، حيث مازال معدل التضخم السنوي لاتتعدى نسبته 4,7% وعلى وفق الاحصاءات المعتمدة.
ازاء كل ما تقدم من حريات في التحويل الخارجي وتوافر احتياطيات دولية عالية ، نجد ان (معدّل التغير ) بين السعر الرسمي للصرف والسعر الموازي يبلغ قرابة 16% ويؤشر ان ثمة ضوضاء ملونة colored noises تلف نظام المعلومات التي تتشكل بموجبها تحركات السوق الموازية او غير النظامية في بلادنا .
كما لايخفى ان النظام النقدي monetary regime في العراق يعتمد الربط المباشر والثابت للدينار العراقي بعملة الدولار الامريكي، وان مثل هذا الارتباط يلازم بلا شك حركة النظام النقدي والسياسة المالية للولايات المتحدة الامريكية ، وان واحدة من متطلبات ذلك النظام المالي هي ان لا تستخدم عملة الولايات المتحدة الأمريكية باي شكل من الأشكال وعلى نطاق واسع في المعاملات غير القانونية ولاسيما تمويل العمليات التجارية العابرة للحدود. فعلى الرغم من ان ذلك قد يضر بسمعة الولايات المتحدة وقدرتها على التحكم في النظام المالي العالمي ،أي تآكل في الثقة بالدولار نتيجة استخدامه في أنشطة غير قانونية ، ما قد يؤدي إلى محاولات من دول أخرى للبحث عن بدائل للدولار في التجارة الدولية، نجد ان اصراراً عالياً في انظمة الامتثال المصرفي Banking Compliance Systems تطبق على العمليات المالية للنظام المصرفي العراقي بشكل صارم ، وهو الامر الذي قاد الى حرمان 50% من المصارف العراقية من التعاطي بالعملة الأجنبية، فضلاً عن حصر التمويل بعملة الدولار بمصارف مراسلة دولية تخضع بصرامة لمتطلبات السيطرة على الاصول الخارجية في وزارة الخزانة الأمريكية والمسماة OFAC ، وهي متطلبات تقتضي ان لا تستخدم عملة الدولار بما يؤدي الى انتهاك الامن الوطني والسياسة الخارجية للولايات المتحدة .
ان صرامة تطبيق قواعد الامتثال المصرفي في التدقيق عن المستفيد الاخير ونوع البضاعة والمصرف المحلي الذي يتولى ادارة التحويل الخارجي بات امرا متشددا ومبالغاً احياناً في رفض وتقييد عمليات التحويل الخارجي في بلادنا .
فبين منصة الامتثال (فريق k2 ) يذكرنا بلجنة 660 التابعة لمجلس الامن الدولي ابان الحصار الاقتصادي التسعيني في العراق ، اذ كانت لجنة 660 لمجلس الأمن الدولي الخاصة بالعراق و هي لجنة تأسست في إطار العقوبات الدولية المفروضة على بلادنا بعد غزوه للكويت في عام 1990. اذ تأسست هذه اللجنة بناءً على قرار مجلس الأمن رقم 660 الصادر في 2 آب 1990، والذي أدان غزو العراق للكويت وطالب بسحب القوات العراقية فورًا من الأراضي الكويتية.الا ان مهمتها انصرفت الى تدقيق السلع المدنية الموردة للعراق بشكل مفرط بموجب برنامج اتفاق النفط مقابل الغذاء الموقع مع الامم المتحدة في العام 1996، اذ كان دور تلك اللجنة جزءًا من سلسلة تطبيقات قرارات لاحقة تضمنت فرض عقوبات اقتصادية وتجارية على العراق لضمان التزامه بالتراجع عن الغزو ضمن تطبيقات الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة .
وعلى الرغم ، من تباين الاحوال الا ان التدابير الاحترازية العالية من جانب الادارة المالية الامريكية اليوم ، تجسد ان ثمة قلق يدفعها إلى تشديد مراقبتها على تدفقات الدولار على الصعيد الدولي وهذا ما حدا بها الى حرمان 32 مصرفاً عراقياً من التعاطي بعملة الولايات المتحدة وعلى وفق تطبيق الاسس والآليات المصرفية الدولية المشددة ، فضلاً عن تعزيز التعاون مع حلفائها للحد من استخدام الدولار في النشاطات غير القانونية (حسبما تعتقده واشنطن ) وكأنما ثمة حصارا ناعما soft sanction يطوق العمليات المالية للنظام المصرفي الاهلي في بلادنا حالياً وحتى في المرحلة القادمة ، اي مرحلة مابعد لجنة k2 او ما يمكن تسميته post K2 ، وهي مرحلة الانتقال التي يتم بموجبها غلق نافذة التحويل الخارجي للبنك المركزي العراقي والتحول الى مايسمى بالتعزيز النقدي الدولاري Dollar
Replenishment
ذلك لدى كبريات المصارف العالمية المراسلة الشديدة الامتثال. ولكن يبقى التساؤل لماذا هذا التشدد في استخدام اموال بلادنا السيادية وماهي بواعث وآليات هذا التشدد على النظام المصرفي العراقي …؟
2- مصفوفة مصالح الولايات المتحدة و تفاقم السوق الموازي للصرف : التلاقي والتقاطع
من الواضح ان انتشار و تزايد استخدام الدولار في التجارة غير الرسمية يعزز من نمو الأسواق السوداء التي تعمل خارج إطار الرقابة المالية الدولية، مما يؤدي إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية والتجارية .
فالتمويل غير المشروع للتجارة غير الرسمية ، والعابرة للحدود ، يمثل قناة رئيسة لتمويل الأنشطة غير القانونية مثل الإرهاب وتهريب المخدرات وغسل الأموال وغيرها.
ولكن على الرغم مما تقدم فان الصراعات الجيو اقتصادية التي تحيط اقليم الشرق الاوسط برمته، وتحديدا ما تتعرض اليه الجمهورية الاسلامية في ايران من حظر للعمليات المالية والمصرفية من جانب الولايات المتحدة الاميركية وحلفائها الغربيون،فان ثمة رابطة جدلية ( تمثل مصفوفة المصالح المشتركة ) بين تصاعد سعر صرف الدولار في السوق الموازية ومصالح الولايات المتحدة في موضوع انتشار استخدام الدولار في مختلف الأنشطة سواء التجارة المدنية العابرة للحدود من دول تخضع للتقييد والمقاطعة الامريكية او الحد من تعزيز قدرة الجماعات الإرهابية والمنظمات الإجرامية على العمل بحرية أكبر وعلى وفق الرؤية الامريكية .
وبناء على ما تقدم، فان معتقد تمويل التجارة المدنية من السلع والخدمات مع دول الجوار بشكل عام وايران بشكل خاص ، يمثل اس التوافق بين تعاظم كلفة الحصول على الدولار الامريكي ومصالح الولايات المتحدة في قمع تمويل العمليات التجارية العابرة للحدود ، وجعل الميزة التنافسية بين السلع الممولة بالطرق التقليدية المصرفية والتي يجري فحصها وتدقيقها Screening عبر النظام المالي الدولي للامتثال ،اقل كلفة مقارنة بتكاليف ومخاطر تمويل العمليات التجارية العابرة للحدود والممولة من الاسواق الموازية ، وهو ما يمكن تسميته اصطلاحا (بالاستبعاد او التنافي المتبادل mutual exclusion ).
اذ يصف (الاستبعاد او التنافي المتبادل ) في علم الاحصاء حدثين أو أكثر لا يمكن أن يحدثا في نفس الوقت. ويُستخدم هذا المصطلح عادةً لوصف موقف معين ،حيث يحل وقوع نتيجة واحدة محل الأخرى. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للحرب والسلام أن يتعايشا في نفس الوقت. وهذا يجعلهما متنافيين حقاً.
وبهذا وحسب معتقدات السياسة المالية الخارجية للولايات المتحدة فان تجارة العراق العابرة للحدود مع ايران او غيرها ينبغي ان تخضع لقاعدة ( النفي المشترك mutual exclusion ).
اي بالمعنى الصريح ، كلما ارتفع سعر صرف الدولار في السوق الموازية يجعل تمويل الاستيرادات العابرة للحدود اكثر كلفة وهي منافسة حادة بين سياسة الاغراق السلعي غير الرسمي لجعل السلع المهربة اكثر تنافسية وبين تدهور سعر الصرف في الاسواق غير الرسمية .
وهي منافسة يطلق عليها ( قطع الحنجرة او الحلق cut throat competition)و يحكمها جميعا قيد الامتثال المصرفي.
فكلما تعاظم قيد الامتثال المصرفي في السوق المصرفية المنظمة ،تزايد سعر الصرف في السوق الموازي ، و اصبح عنصر الكلفة او كلفة الفرصة تميل الى التجارة الرسمية بسبب عامل سعر الصرف الرسمي الثابت بالرغم من شروط قيد الامتثال . وبهذا اصبحت العمليات التجارية الممولة من سوق الصرف النظامية مقارنة بمثيلاتها في السوق السوداء ، اشبه بصيرورة برنامج يمنع مستخدمين متعددين من الوصول إلى نفس المتغير المشترك وهو الدولار في آن واحد ويسمى باستخدامات الاقسام الحرجة ،وهي منطقة من (التعليمات البرمجية ) حيث يمكن لعمليات أو خيوط متعددة الوصول إلى نفس المورد المشترك نفسه ، او مايسمى بالبرمجة المتزامنة concurrent
programming ولكن بكلفة مختلفة.
وبغض النظر عن هذا وذاك، فان الصراع الجيواقتصادي بين الولايات المتحدة وايران وآخرين ممن تراهم اعداء او خصوم في صيرورات السياسة الخارجية الامريكية ، قد اعتمدت فرصة تنامي السوق الموازي في بلادنا واسعار صرف الدولار فيها لتحقيق (التنافي المتبادل ) بين الحصول على الدولار التنافسي الاقل كلفة بسعر الصرف ( The least expensive dollar ) ذلك من خلال قنوات الامتثال المصرفية الدولية المعنية بالتحويل الخارجي وتمويل التجارة الخارجية للعراق، وبين ( الدولار الاكثر كلفة The most expensive dollar ) الذي يتم تحصيله من السوق الموازي لتمويل سلع مماثلة ولكن بكلف دولارية عالية.
وبناء على ماتقدم فان صراع الجغرافيا الإقتصادية بين الولايات المتحدة وايران و أطراف دولية اخرى هي مازالت في (منطقة النفي المتبادل )
فكلما ارتفعت قيمة الدولار في السوق المحلية غير الرسمية او الموازية كلما قلت تنافسية السلع العابرة للبلاد بالطرق غير الرسمية.
انها اشبه بمعركة اقتصادية تجري في الخفاء بين الاطراف الدولية ، ساحتها سوق الصرف الموازي وكلفة اسلحتها التجارية هو قيمة دولار الولايات المتحدة في اسواق العراق .
أ-يلحظ مما تقدم ، ان وجود السوق الموازي غير النظامي للصرف و استخدام الدولار على نطاق واسع في المعاملات غير القانونية،يشكل ضرراً بسمعة الولايات المتحدة وقدرتها على التحكم في النظام المالي العالمي وتنفيذ عقوباتها على الدول والكيانات المالية والمصرفية المختلفة في العالم وعلى وفق سياساتها الخارجية ، وهو امر كما تراه الولايات المتحدة يؤدي الى تآكل في الثقة بالدولار نتيجة استخدامه في نشاطات غير قانونية .
و قد يتسبب في الوقت نفسه إلى محاولات من دول أخرى للبحث عن بدائل للدولار في التجارة الدولية ، حراء التشدد في عمليات (النفي المتبادل ) لتصبح من الشدة التي تتضارب والمصالح الوطنية الرسمية للبلدان وتهدد الاستقرار الاقتصادي .
ب-ما يمكن استنتاجه أيضاً، ان السوق الموازية وارتفاع سعر الدولار فيها ياتي بدون شك لخدمة مصالح الولايات المتحدة في تشديد العقوبات الاقتصادية على ايران وغيرها من خلال سياسة (النفي المتبادل ) وتوليد سوق صرف ذات كلف عالية لمصلحة صراعاتها الجيواقتصادية وفرض الحصارات على الاخرين ، وان درجة تقييد او مرونة التحويلات الخارجية عبر الامتثال الدولي يتناسب طردياً مع ارتفاع سعر الصرف الدولار في السوق الموازي في بلادنا.
ج-ان سوق الصرف الموازي بالدولار الامريكي وتقلباته بات اشبه ما بحصان طروادة Trojan Horse في صراع الجغرافيا الاقتصادية للولايات المتحدة مع خصومها واعداءها الدوليين ، ذلك للإشارة إلى ان أي تكتيك أو استراتيجية سوف تُمكّن من اختراق شيء مغلق أو محمي بشكل غير مباشر.
حيث ان مصطلح( حصان طروادة ) يستخدم في العصر الحديث، للإشارة إلى البرمجيات الخبيثة (فيروسات الكمبيوتر) التي تُدخل نفسها إلى الأنظمة عن طريق التخفي كبرامج مفيدة، الا ان ما نعنيه في المسالة الجيو اقتصادية هي التصادم المتعاكس في سوق صرف الدولار الموازي .
فعلى الرغم من متانة الاحتياطيات الدولية للعراق ياتي دور سوق الصرف الموازي كاداة في نطاق هيمنة استراتيجية غير مباشرة للسيطرة على( النظام المالي الدولي الموازي ) اضافة الى (النظام المالي الدولي الريمي )و في آن واحد ، وعد الدولار وتقلب اسعاره مع عملات الاخرى واحدة من اذراع صراع الجغرافيا الاقتصادية لاستمرار هيمنة الولايات المتحدة على العالم.
4- ختاماً، ان المناورات السعرية الراهنة في سوق الصرف ، تشكل اداة تتنافس فيها الولايات المتحدة كقوة اقتصادية على النفوذ الاقتصادي في مناطق جغرافية معينة وتحديدا اسواق الصرف في اقليم شرق المتوسط. وهنا تعبر الحالة الجيو-اقتصادية عن تفاعل العوامل الاقتصادية مع الأبعاد الجغرافية والجيوسياسية، وتؤدي دورًا مهمًا في تفسير الصراعات والتعاون بين الدول في العالم المعاصر.
انتهى
المصدر: شبكة انباء العراق
كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات الولایات المتحدة فی الولایات المتحدة العملیات التجاریة الدولار الامریکی للولایات المتحدة فی السوق الموازی الدولار فی السوق التحویل الخارجی استخدام الدولار العابرة للحدود السوق الموازیة صرف الدولار فی غیر القانونیة النظام المالی غیر الرسمیة غیر الرسمی سعر الصرف سوق الصرف فی بلادنا فی العراق على الرغم وعلى وفق ما تقدم فی سوق
إقرأ أيضاً:
هل تستطيع أوروبا حماية أراضيها بدون الولايات المتحدة؟
أنقرة (زمان التركية) – صرح وزير الدفاع الأمريكي، بيت هيغسيث، في أول زيارة دولية له منذ توليه منصبه أن تمويل دفاع أوكرانيا ضد الغزو الروسي يجب أن توفره الدول الأوروبية إلى حد كبير. لكن، ماذا يعني هذا بالنسبة لأوروبا؟
أدلى هيغسيث بهذا التصريح وسط محادثات جارية بين الوفدين الروسي والأمريكي في المملكة العربية السعودية. وتقدم هذه المحادثات دلالات حول ما قد تكون عليه استراتيجية ترامب لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
وفي حديثه في مؤتمر ميونيخ الأمني يوم الجمعة 14 فبراير/ شباط الجاري، شدد نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس على “ضرورة اتخاذ أوروبا خطوة كبيرة للدفاع عن نفسها”.
أثار هذا التحول الحاد في السياسة من قبل الولايات المتحدة قلق القادة الأوروبيين، وعُقد اجتماع طارئ في باريس في 17 فبراير/ شباط الجاري لمناقشة الحرب الروسية الأوكرانية وأمن القارة.
وهذا يثير تساؤلات حول مدى اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة لأمنها وما إذا كان بإمكانها البقاء على قيد الحياة بمفردها.
ما أسباب تعاون الولايات المتحدة مع أوروبا ؟نظرت الولايات المتحدة إلى أوروبا القوية اقتصاديًا وعسكريًا كعنصر حيوي في منع التوسع السوفيتي و قدمت مساعدة واسعة النطاق للدول الأوروبية بعد الآثار المدمرة للحرب العالمية الثانية.
وبالوقت الراهن، يتفق 32 عضوًا في الناتو، بما في ذلك بعض دول أوروبا الشرقية، على أنه يجب عليهم الدفاع عن بعضهما البعض في حالة تعرض أحدهم للهجوم.
لكن التطورات الأخيرة تضع الهيكل الأمني الذي تم إنشاؤه لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية في خطر. لا تزال الولايات المتحدة جزءًا من حلف الناتو، لكن القادة الأوروبيين قلقون من أنهم قد لا يعودوا قادرين على الاعتماد على مساعدة الولايات المتحدة.
كم تنفق الدول الأوروبية على الدفاع ؟يريد الحليف الأمريكي من الدول الأعضاء بالناتو تخصيص ما لا يقل عن 2 في المئة من دخلها القومي للإنفاق الدفاعي.
ووفقًا لتقديرات الناتو لعام 2024، كانت بولندا هي الدولة الأكثر إنفاقًا للسنة الثانية على التوالي، حيث خصصت 4.1 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع.
تحتل إستونيا المرتبة الثانية بنسبة 3.4 في المئة، بينما تحتل الولايات المتحدة المرتبة الثالثة بنسبة 3.4 في المئة وهو ما ظلت تنفقه على مدى العقد الماضي.
تحتل المملكة المتحدة المرتبة التاسعة بنسبة 2.3 في المئة. وقال وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، إن بلاده ملتزمة “تمامًا” بإنفاق 2.5 في المائة على الدفاع وستكشف النقاب عن خطة لتحقيق هذا الهدف في غضون بضعة أشهر.
ويقدر متوسط إنفاق أعضاء الناتو في أوروبا وكندا بنسبة 2 في المئة.
وأوضح كاميل جراند، الأمين العام المساعد السابق لحلف الناتو للاستثمارات الدفاعية، لبي بي سي أنه ليس من المستغرب أن تطلب الولايات المتحدة المزيد من الاستثمارات من أوروبا قائلا: “كان الأوروبيون ينفقون أقل من اللازم منذ عقود ويدفعون الآن الثمن. الطلب الأمريكي مشروع تمامًا. لماذا لا تنفق الدول الغنية أكثر ؟”
هل يمكن تشكيل “جيش أوروبي “؟دعا الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في الرابع عشر من فبراير/ شباط الجاري إلى إنشاء “جيش أوروبي” في حالة سحب الولايات المتحدة للمساعدات قائلا: “دعونا نكون واقعيين. لم يعد بإمكاننا استبعاد احتمال أن تقول أمريكا لا لشيء يهدد أوروبا. لقد تحدث الكثير والكثير من القادة عن الحاجة إلى أن يكون لأوروبا جيشها الخاص، جيش أوروبي”.
ولطالما دعم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إنشاء القوة العسكرية الأوروبية الخاصة لتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة، لكن هذه الفكرة سرعان ما رفضها رئيس الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، كاجا كالاس.
وأوضح ريتشارد ويتمان، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة كنت، لبي بي سي أن دول الناتو في أوروبا غنية بما يكفي لبناء دفاعات ضد قوة مثل روسيا، لكن المشكلة الحقيقية هي التنظيم قائلا: “بر مشكلة في أوروبا هي كيفية الجمع بين كل هذه العناصر العسكرية ومزامنتها مع بعضها البعض. على سبيل المثال، كيفية ربطهم للتقنيات المتقدمة مثل أنظمة الأقمار الصناعية هي علامة استفهام كبيرة “.
ترى البروفيسور أميليا هادفيلد، ،المديرة المؤسسة لمركز أوروبا وإنجلترا بجامعة سري، أنه من غير المرجح تمامًا” أن يتمكن الجيش الأوروبي من الدفاع عن نفسه ضد قوة مثل روسيا.
وأشارت هادفيلد إلى قدرة الجيوش المختلفة على العمل مع بعضها البعض قائلة: “”لكنك تطلب منهم، بعد ثلاث سنوات على الهامش، أن يغرقوا في أزمة ساخنة، وأن يكونوا مستعدين وأن يتأكدوا من قدرتهم على بناء قوة حفظ سلام فعالة دون نقص في المعدات والأفراد وقابلية التشغيل البيني”.
منذ تأسيس الناتو، كانت عملياته العسكرية بقيادة وتنسيق القائد الأعلى لقوات الحلفاء لأوروبا (SACEUR). ولطالما تم تعيين ضابط أمريكي في هذا المنصب. وقد منحهم ذلك خبرة واسعة في عمليات زمن الحرب.
يؤكد البروفيسور ويتمان أن الجنرالات الأوروبيين ليس لديهم هذا المستوى من الخبرة مفيدا أن هذا سيكون عيبًا كبيرًا لـ “الجيش الأوروبي”.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الفراغ السياسي الذي سينشأ مع انفصال الولايات المتحدة هو أيضًا قضية مهمة.
يشير البروفيسور ويتمان إلى أن الولايات المتحدة لا تقدم ضمانًا عسكريًا فحسب، بل تمنح أيضًا العمليات العسكرية سلطة سياسية مفيدا أنه لا يوجد مثل هذا الهيكل لصنع القرار في أوروبا سواء بشكل مباشر أو جماعي.
قد يؤدي ذلك إلى صراع على السلطة حول من سيأخذ زمام المبادرة في استراتيجية الدفاع الأوروبية.
وفقًا لهادفيلد، قد تكون فرنسا والمملكة المتحدة، وهما أكبر شركاء الأمن والدفاع في أوروبا، أقوى المرشحين للقيادة. ومع ذلك، يجب أيضًا الإجابة على أسئلة مثل كيفية تقسيم النفقات ومن سيتحمل العبء الأكبر.
هناك قضية حرجة أخرى وهي “الوقت”.
يتساءل البروفيسور ويتمان ما مدى السرعة التي يمكنك بها بناء الأقمار الصناعية وإطلاقها مفيدا أن هذا الأمر لا يستغرق الأمر أيامًا أو أسابيع أو شهورًا ؛ بل يستغرق سنوات.
وهذا يثير أيضا التساؤل عن مدى فائدة “الجيش الأوروبي” للأزمة الحالية في أوكرانيا.
وذكرت كاميلا جراند أن أكبر التحديات التي ستواجه أوروبا ستكون “الحجم والاستعداد” مفيدة أنهه من المهم ليس فقط عدد القوات، ولكن أيضًا مدى استعدادها للحرب. وأوضحت جراند أن التقنيات المتقدمة مثل التزود بالوقود جوًا والمركبات الجوية بدون طيار والصواريخ طويلة المدى ستكون من بين التحديات.
وأسردت جراند ورفاقها مشاهداتهم في مقال نشر في مركز بيلفر للعلوم والعلاقات الدولية في جامعة هارفارد على النحو التالي:
“”لن يتم بناء قدرة دفاعية أوروبية قوية، والتي تعد جزءًا لا يتجزأ من الشراكة عبر الأطلسي، بين عشية وضحاها. وسيتطلب الأمر سنوات من الجهد والالتزام المستمرين. لضمان حرية أوروبا ومكانتها العالمية، وللحفاظ على القيادة الأمريكية في عصر عدم اليقين العالمي، يجب على كل من أوروبا وأمريكا إجراء تغييرات صعبة”.
ماذا يعني هذا لمستقبل أوروبا؟بسبب الثغرات في القدرة العسكرية لأوروبا، يشعر الكثيرون بالقلق إزاء التهديد بسحب الدعم الأمني الأمريكي.
وذكر البروفيسور ويتمان أنه من الصعب تخيل أن أوروبا آمنة عسكريًا بدون الولايات المتحدة.
وأفاد جراند، وهو مسؤول تنفيذي سابق في الناتو، أنه سيتعين على الدول الأوروبية الاستمرار في زيادة إنفاقها بشكل كبير من أجل بناء جيش مستدام وجماعي.
ويشعر آخرون بالقلق بشأن ما إذا كانت روسيا ستختبر تغيير توجه الاهتمام الأمريكي.
وقال البروفيسور هادفيلد: “من المحزن أن نقول إن الناس معتادون على فكرة أن أوكرانيا ستتفكك وسيتعين علينا إعادة بنائها، لكنهم غير معتادين على فكرة أن روسيا ستضرب السويد أو بولندا أو حتى بريطانيا، وهذا مستوى آخر من الصراع. سيتعين على الناتو تحديد هويته بسرعة كبيرة دون أن يكون عضوًا مؤسسًا”.
Tags: التوترات بين أوروبا وأمريكاالحرب الروسية الأوكرانيةجيش أوروبيحلف الناتودونالد ترامب