هذا الخريف الذي يظنه الأعداء نهاية المطاف سيثمر عزاً ونصراً واستمراراً.
نعيش في عصر يهلّل به مسؤولون غربيون لعمليات قتل واغتيال القامات، كلّ مشروعها هو العيش بكرامة ورفع الظلم عن المظلومين وإسناد شعب أصيل يرزح تحت احتلال غاشم لا يعرف سوى الإبادة والإهانة والإذلال لأعرق شعب وأقدس مقدّسات. ويقف الإرهابيون على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة ليتفاخروا بإرهابهم وأدوات قتلهم وجرائمهم التي يجب أن يندى لها جبين البشرية، معتقدين أنهم يحقّقون انتصارات في الوقت الذي ينحدرون فيه إلى الدرك الأسفل من أيّ مستوى إنساني أو أخلاقي.
على مدى أربعين عاماً أسس سيد المقاومة حزباً وحركة مقاوِمة تعيد للمستضعفين شعورهم بالعزة والكرامة وبأسهم في حماية بلدانهم، بعد أن اجتاح الكيان الغاصب بيروت والجنوب في عام 1982 وارتكب أبشع المجازر بحقّ المدنيين، وحرق المكتبات والمراكز الثقافية واغتال الكتاب والشعراء والمناضلين، فأخذ سيد المقاومة على عاتقه بناء حركة مقاوِمة لبنة في إثر لبنة بناءً أخلاقياً ومجتمعياً وسياسياً يشكّل النقيض الأبرز لكلّ إرهاب وهمجية الصهاينة. وعمل السيد حسن نصر الله ومنذ اليوم الأول على نشر ثقافة المقاومة وتنشئة أجيالها على الخلق الرفيع الملتزم بروح القرآن الكريم وأخلاق الرسل والصدّيقين والصالحين، وأصبح من خلال عمله وتربيته لكوادره هو القدوة والمثل وهو أيقونة ثقافة المقاومة الملتزمة والمسؤولة.
ونتيجة لهذا العمل الاستراتيجي العظيم تمكّن حزب الله من تحرير الجنوب من دنس العدو الإسرائيلي عام 2000، فكانت هذه هي المرة الأولى التي يدحر بها هذا الكيان الغاصب من أرض احتلها رغم عدم التكافؤ في ميزان القوى، ولكن إيمان المقاومين البواسل بحقّهم وأرضهم وإيثارهم تراب الأرض على أنفسهم قاد إلى النصر والتحرير. وعاد الكيان الغاصب لشنّ عدوان على لبنان عام 2006 غير مرتدع بما شهده عام 2000 فقط ليتم دحره مرة أخرى وتحقيق نصر تموز المؤزّر. واستمرّت المسيرة للحزب وقائده دفاعاً عن المُعتدى عليهم في سوريا وفلسطين، وفق منظومة قيمية أخلاقية إنسانية وتحررية لا تخشى في الله لومة لائم، إلى أن بدأ العدوان الغاصب والسافر على الـشعب الفلسطيني في غزة والضفة في تشرين الأول/أكتوبر 2023م فشكّل الحزب وقائده جبهة إسناد دفاعاً عن المظلومين والمُعتدى عليهم.
إذا كان هذا العدوّ يظنّ كما يدّعي أنه حقّق نصراً في المنطقة وأنه استباح الإقليم بعد اغتيال سيد المقاومة، السيد حسن نصر الله، ورفاقه فهو واهم لأنّ ثقافة المقاومة التي أرساها السيد حسين نصر الله والنهج والمدرسة التي أسسها لها أتباع في المنطقة وفي كلّ بقاع الأرض ولن تهدأ ولن تهادن ولن تساوم على حقوق، ولن تستكين لاحتلال أو استيطان أو إذلال ومهانة.
هؤلاء الصهاينة والمتصهينون لا يعلمون معنى الانتماء للأرض ولثقافة المقاومة، ولا يدركون ما هو معنى الإيثار والتضحية لأنهم أقلّ بكثير من أن يدركوا هذه المعاني السامية. وكما أنّ القتلة اندثروا ولم يبقَ لهم أثر في كل تاريخ ديني أو سياسي، وبقيت أسماء ومراقد المدافعين عن الحقّ شواهد يؤمّها المؤمنون من كلّ أصقاع الأرض ويستلهمون تجربتها وصبرها وتضحياتها وفداءها، فإن روح السيد حسن نصر الله ودماءه الطاهرة ستُزكي مسار المقاومة وستشدّ من عضد المقاوِمين المخلصين، وستقلب الموازين ضدّ القتلة والطغاة والمعتدين. وهذا هو مسار التاريخ كما أنه وعد الله عزّ وجل: “إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد”.
أمّا دعم الغرب لآلة الإرهاب الصهيوني واعتزاز جريد كوشنر وأمثاله بجرائم هذا الكيان فهي البرهان الساطع القاطع على سقوط الغرب الأخلاقي والقيمي، وعلى أنه لا مستقبل لهذا الغرب مهما عتت قوته العسكرية والمادية، ومهما طغى اليوم وتجبّر فإنّ نهايته محسومة، إذ لا يمكن لهكذا منظومة مجرّدة من الأخلاق والقيم والإنسانية أن تستمرّ في مكان مرموق على السلّم السياسي والبشري والإنساني. إنّ هؤلاء الذين يهلّلون للقتل الغادر الخسيس لا يدركون أنّ ما يقترفونه سيرتدّ وبالاً عليهم وسيعلم الظالمون أيّ منقلبٍ سينقلبون.
مصائر الشعوب لا تقاس بالأيام ولا بالأشهر ولا بالسنوات؛ فهي أحياناً نتاج حقب من تراكم العمل الدؤوب واستمراريته، ولذلك فإن النشوة التي عبّر عنها الإعلام الصهيوني والغربي باغتيال سيد المقاومة ورفاقه دليل على أنهم طارئون على هذه الأرض لا يعرفون للتاريخ معنى ولا لمساره ذاكرة يتعلّمون منها أو يقتدون بها. أمّا سيد المقاومة فهو سليل حضارة وعراقة أبطال قضوا منذ قرون في سبيل إعلاء كلمة الحقّ وما زالت سيرهم تحرّك الملايين لوجهتهم من كلّ أصقاع الأرض، بينما لا يعلم أحد لقتلتهم قبراً أو مكاناً أو شاهداً على أنه مرّ يوماً من هنا أو كان على هذه الأرض في حين من الزمن.
هذا الخريف الذي يظنه الأعداء نهاية المطاف سيثمر عزاً ونصراً واستمراراً مؤزّراً لمقاومة تحرّر المقدّسات وتحرّر الأرض والإنسان وتنشر ضياءها وإنسانيتها ليس على المنطقة فحسب وإنما على كلّ الشعوب المستضعفة والطامحة للحرية والكرامة. وهذا بالذات أخشى ما يخشاه الإرهابيون والدائرون في فلكهم، والعاملون على تدمير الأخلاق والأسرة وكلّ الروابط والقيم الإنسانية والتي هي مصدر القوّة والأمان لكلّ إنسان. ومن هنا فإنّ رسالة المقاومة وثقافة المقاومة لا تعمل من أجل نصر عسكري وتحرير الأرض فقط، وإنما من أجل نصر على كلّ أنواع التشويه الذي يحاولون فرضه على الأسرة الإنسانية، ولا شكّ أن العاقبة للمدافعين عن القيم الإنسانية التحريرية البنّاءة.
خلال أشهر من إسناد حزب الله لشعب فلسطين لم يكن العدوّ الإسرائيلي يخشى صواريخ حزب الله التي تتساقط على شمال فلسطين فقط، وإنما يخشى أيضاً ثقافة الحياة والتحرير والبناء ويخشى حتى من وجود العرب على هذه الأرض، لأنّ مجرّد وجودهم يعدّه تهديداً لكيانه الغاصب الطارئ على الأرض والمنطقة. إلا أنّ أبناء هذه الأرض التي سقوها بدمائهم على مدى قرون ضدّ كلّ الغزاة والمعتدين وأنتجوا فيها حضارات وعلوماً وقيماً وإنجازات تشكّل معيناً ثرّاً للبشرية لن يهنأوا ولن يستكينوا إلا بتحقيق وجودهم كما يرتضونه ويعشقونه عزّاً وكرامة وكبرياء.
مفكرة عربية
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
المقاومة تلعب بذكاء والعدو يكرس فشله أكثر.. الهُدنة إلى أين؟
يمانيون/ تقارير
في تطورٍ مفاجئ، أعادت المقاومةُ الفلسطينيةُ فرضَ نفسِها طرفاً فاعلاً في مفاوضات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، عبر طرح مبادرةٍ تُلقي بظلالها على حسابات الكيان الصهيوني، وتُعقِّد موقفه التفاوضي. جاءت هذه الخطوة بعد تصاعد الضغوط الدولية الفاشلة لإجبار حركة حماس على التنازل عن شرطها الأساسي بوقف الحرب والانسحاب الكامل من غزة، فيما رأت أوساط في العدو الإسرائيلي أن الحركة الفلسطينية نجحت في الاستحواذ على زمام المبادرة عبر طرحها إطلاق سراح خمسة أسرى يحملون الجنسيتين “الإسرائيلية” والأمريكية، ما دفع الكرة إلى ملعب الصهاينة وأربك استراتيجيتها التفاوضية.
منذ اللحظة الأولى، حاول العدو الإسرائيلي تحميل الفلسطينيين وزر فشله العسكري والأخلاقي، فشنَّ حربًا استمرت عامًا وخمسة أشهر استشهد خلالها أكثر من 40 ألف فلسطيني، ثلثاهم أطفال ونساء، وفق تقارير أممية. لكن حماس، برغم الدمار، لم تنكسر، بل حوَّلت الملف الإنساني إلى سلاح تفاوضي. فبينما كان قادة الكيان يتباهون بـ”سحق الإرهاب”، يعترف المحللون والنخبة الصهاينة بشيء آخر مغاير من بينهم إيلان بيتون، القائد العسكري الصهيوني السابق، بالهزيمة والذي يقول في حديثه لإحدى القنوات العبرية:
“ارتكبنا خطأً قاتلًا عندما أوقفنا المرحلة الأولى من الاتفاق دون ضمانات. الآن، الأميركيون يتفاوضون مع حماس فوق رؤوسنا، وحكومتنا تتخبط كعجلة مكسورة!”
ويضيف: لم ندخل في المرحلة الثانية من موقع قوة، بل دخلنا في حالة من التأرجح. وعدم طرحنا لموقف خاص بنا أدخل الأميركيين إلى هذا الفراغ، وقد جاء مبعوث ترامب آدام بولر وطرح مواقفه واتصل بحماس، وقد ضرب بذلك قوة موقف ترامب إلى درجة اضطر ترامب للقول إننا لن نهجر أحدا من غزة!
لم تكن هذه الاعترافات صادرة عن ضميرٍ يقظ، بل عن إدراكٍ مرير بأن المبادرة الفلسطينية مزَّقت ورقة التوت عن عورة الكيان العسكري. فحتى الجنرالات الصهاينة بدأوا يتحدثون بلغة الهزيمة، مثلما سُرب عن قائد المنطقة الوسطى في جيش العدو الاسرائيلي قوله:
“غزة صارت مقبرة لشبابنا. كل بيت ندكّه يتحول إلى فخٍّ يفجر أبطالنا!”
أما على طاولة المفاوضات، فقد نجحت حماس في تحويل شروط واشنطن إلى سلاحٍ ضدها. فبعدما طالبت الإدارة الأمريكية بالإفراج عن أسرى يحملون جنسيتها، وافقت الحركة ببرودٍ على العرض، لكن بشمّاعة جديدة: الإفراج عن آلاف الأسرى الفلسطينيين ووقف الحرب إلى الأبد. هنا اشتعلت الأزمة في “تل أبيب”، حيث صرخ اليئور ليفي، المحلل الصهيوني، منفعِلاً في مقابلته مع قناة عبرية:
“هذه مناورة ماكرة! حماس تُظهر مرونة وهمية لتوريطنا أمام حلفائنا. العالم كله يسأل: لماذا ترفض إسرائيل السلام إن كانت حماس موافقة؟!”
لكن الأسئلة الأكثر إحراجًا تأتي من الداخل الصهيوني نفسِه، حيث خرج أهالي الأسرى الصهاينة يهتفون في شوارع “تل أبيب” آخرها مساء السبت الاحد : “كل يوم تأخير هو جريمة، حكومة نتنياهو تقتل أبناءنا بأيديهم!”. هذه الضغوطات تأتي بعد 15 شهرًا من العدوان على غزة، لم يتحرر سوى عدد من الأسرى الصهاينة، بينما قُتل 43 آخرون بقصف جيش العدو نفسه على غزة، وفق اعترافات مخابرات العدو.
على الصعيد الدولي، ما زال “الضمير العالمي” يتغذى على شعاراتٍ جوفاء. ففي الوقت الذي تدين فيه الأمم المتحدة “الانتهاكات الإسرائيلية”، يمنع الفيتو الأمريكي أي قرارٍ بوقف إطلاق النار. حتى الاتهامات الجديدة بجرائم حرب ضد قادة العدو لم تتحول إلى خطوات عملية، ما دفع تاليا ساسون، المسؤولة الصهيونية السابقة، إلى السخرية:
“أمامكم خياران: إما أن تعترفوا أن “القوة” فشلت في غزة، أو تواصلوا الكذب على أنفسكم حتى تسقط الأرقام عليكم!”
تعم حالة الإحباط الأوساط الصهيونية بمن فيهم المسؤولون السابقون؛ أحدهم ايلان سيغف – مسؤول سابق في الشاباك الصهيوني يقول: “نحن نلعب بالكرة مع أنفسنا ونركض من جهة إلى جهة أخرى لنركل الكرة، ونحن يجب أن نفرض عقوبات على حماس، لكن بعد عودة المختطفين أعتقد أنه قد جاء الوقت بعد عام وخمسة أشهر لنقول الكل مقابل الكل بما في ذلك وقف إطلاق النار لعشر سنوات.”
في الوقت ذاته، تصاعدت احتجاجات المستوطنين داخل كيان العدو الإسرائيلي للمطالبة بإبرام الاتفاق بشكلٍ عاجل، وقد حذّر أهالي الأسرى من أن “استمرار المماطلة يُهدد حياة أبنائهم”، وفق تصريحاتٍ متلفزة. هذه الضغوط الداخلية، إلى جانب الانقسامات المهيأة للتفاقم داخل الائتلاف الحكومي، تُفاقم أزمة مجرم الحرب نتنياهو، الذي يوازن بين مطالب الأسرى ورفضه تقديم تنازلاتٍ خشية إضعاف صورته كـ”زعيم أمني” وهو الذي يقف اليوم في قفص الاتهام القضائي بتهمة الفساد والخيانة والفشل.
يبدو كيان العدو الإسرائيلي اليوم رهن عجزه عن كسر الحلقة المفرغة بين خيارين: قبول صفقةٍ تُوقف الحرب مع الإفراج عن آلاف الأسرى الفلسطينيين، أو الاستمرار في حربٍ استنزافية تهدد بانهياره داخليًّا وخارجيًّا. وفي الوقت الذي تُعيد فيه حماس ترتيب أوراقها بذكاء، يبدو أن الكرة اليوم في ملعب “تل أبيب”، لكن الساعة تدقُّ لصالح من يملك إرادة التضحية.
نقلا عن موقع أنصار الله