«أمهات الأشجار».. دعوة للتأمل من إصدار «كلمات»
تاريخ النشر: 2nd, October 2024 GMT
الشارقة (الاتحاد) العلماء معروفون باتباعهم لقواعد صارمة ومنهجية موضوعية بعيدة عن العاطفة، ومع ذلك، فإن الدكتورة سوزان سيمارد، أستاذة علوم البيئة والغابات في جامعة كولومبيا البريطانية بكندا، في كتابها «أمهات الأشجار» الصادر عن دار روايات التابعة لمجموعة «كلمات» بترجمة باسمة المصباحي، ركزت على حدسها وتواصلها الحسي مع الأشجار، وقصصها الواقعية مع البيئة والعائلة والعمل منذ كانت صغيرة، إلى جانب ثرائه بالحقائق العلمية وخلاصة تجاربها، ما يجعل القراء، وحتى من غير المتخصصين، أمام سيرة ومسيرة غنية بالإلهام والمعرفة.
«أمهات الأشجار» للدكتورة سوزان سيمارد، عمل علمي وأدبي يجمع بين البحث العلمي العميق، والسرد الشخصي المؤثر، ففي هذا الكتاب، تأخذنا سيمارد في رحلة استكشافية عبر الغابات، كاشفة عن الروابط الخفية التي تربط الأشجار ببعضها بعضاً من خلال شبكات الفطريات الجذرية.
سخاء استثنائي
الترابط هو عنصر البداية، فمع أنها تحدثت عن أسمى تجلياته بين الأشجار والتربة وعناصر الطبيعة من ماء وهواء ونار، إلا أن المقدمة تخلق نوعاً من ترابط آخر بين القارئ والكتاب، من خلال تمهيد ذكي من الكاتبة بدأت فيه بالحديث عن السخاء الاستثنائي الذي يربط دورة الحياة، وقصتها مع عائلتها التي امتهنت «الحطابة» على مدى أجيال، هذا الترابط الذي انسلّ إليها أيضاً، إذ تقول: «شاهدت الغابات، وأصغيت إليها، سرت حيث قادني فضولي، واستمعت لقصص من عائلتي ومن الناس، وتعلمت من باحثين وعلماء، كعميل سري سعيت لتسخير كل ما بوسعي لعلاج العالم الطبيعي».
اكتشاف مذهل
يتتبع الكتاب قصة سيمارد مع اكتشافها المذهل لشبكة الفطريات الجذرية التي تربط الأشجار بعضها ببعض، هذه الشبكة تعمل كنظام تواصل معقد يشبه دماغ الإنسان، حيث تُصدر الأشجار إشارات كيميائية شبيهة بالناقلات العصبية، وعن ذلك تقول سيمارد «في باطن تربة الغابات، هناك شبكة مشفرة مؤلفة من الفطريات، وهي شبكة ممتدة على أرضية الغابة بأكملها، في نظام دقيق تشكل الأشجار المعمرة محاوره، والفطريات موصلاته».
وتصف سيمارد الأشجار المعمرة بأنها «أمهات الأشجار»، وهي مراكز التواصل والحماية والوعي في الغابة، فعندما تموت هذه الأشجار، فإنها تورِّث حكمتها لسلالتها، مما يساعد الأشجار الصغيرة على البقاء والتكيف مع التغيرات البيئية.
ومن خلال الكتاب، تتحدى سيمارد النظرة التقليدية للأشجار ككائنات منعزلة تتنافس على الموارد، بدلاً من ذلك، تقدم رؤية للغابات كمجتمعات تعاونية ومترابطة، حيث تتواصل الأشجار ويدعم بعضها بعضاً، هذا الكشف يعيد تعريف فهمنا للطبيعة وللعلاقات بين الكائنات الحية.
خلطة سحرية
أما السرد والحقيقة العلمية والذاكرة، فهي مكونات خلطة سحرية صاغتها سوزان في كتابها لوصف رحلتها مع الغابات، حيث تتحدث في أحد الفصول عن «أشباح» ظهرت لها، «مسكونة بروح أجدادي»، هذا الوصف يخلق جواً من الغموض والإثارة، ويعكس ارتباطها العميق بالطبيعة وبتراثها العائلي، وفي نفس السرد تعبر عن الحقائق العلمية، قائلة «مع انتصاف النهار، كشفت قطرات الضوء المنكسر عوالم كاملة، تفجرت فروع زمردية جديدة على نسيج من إبر التنوب الأزغب، إنها لأعجوبة، إصرار البراعم على العودة للحياة بحلول الربيع، بغض النظر عما مرت به من صعوبات الشتاء».
علاقة عاطفية
الوصف في كتاب سوزان يعكس العلاقة العاطفية بين الأجيال المختلفة من الأشجار، وكيف تتعاون وتدعم بعضها، ففي أحد تلك الأوصاف ترسم سيمارد صورة لكيفية اتكاء الشجيرات اليافعة في أحضان الأشجار المسنة، مشبهة ذلك بالعائلات التي تتجمع في الطقس البارد، وتقول «في أحضان الأشجار المسنة الشامخة تتكئ الشجيرات اليافعة، وبمحاذاتها الشتلات الأصغر سناً، مجتمعين معاً كما تفعل العائلات في الطقس البارد».
دعوة للتأمل
ومع تلك السردية الحافلة بمشاعر الوفاء للعائلة والماضي والطفولة، استطاعت سيمارد أن تتنقل ببراعة إلى وضع الحقائق العلمية في نصابها، ففي حديثها عن أهمية تجديد نبات الخمان لغاز النيتروجين المفقود إثر حرائق الغابات، تقول «يساعد الخمان المتناثر على تجديد النيتروجين المفقود إثر حرائق الغابات، يتم ذلك عن طريق دعم نوع خاص من البكتيريا التكافلية التي تنمو على جذوره وتعمل على إعادة تحويل غاز النيتروجين إلى صيغ تمكن النباتات والأشجار من الاستفادة منه».
لا ريب أن «أمهات الأشجار» أظهر براعة لا محدودة لسوزان سيمارد وقدرة على تقديم رؤية شاملة ومعمقة للعلاقات البيئية في الغابات، وكيف تتعاون الكائنات الحية للحفاظ على التوازن البيئي، وموقفنا كبشر تجاه هذه العوالم الظاهرة والخفية في آن واحد.
كتاب «أمهات الأشجار» هو دعوة للتأمل في جمال وتعقيد العالم الطبيعي، وكيف يمكن لهذه الحكمة أن تلهمنا في حياتنا اليومية، فهو كما تقول سوزان «لا يتحدث عن دورنا في إنقاذ الأشجار، بل عن قدرة الأشجار على إنقاذنا».
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الغابات البحث العلمي السرد
إقرأ أيضاً:
كلمات في البناء والنماء وفق فقه الميزان.. إلى القادة في سوريا الحرة
إن المرحلة التي يعيشها السوريون بعد سقوط الطغيان وخلع النظام الاستبدادي هي من أعظم النعم التي أكرم الله بها هذا الشعب المكلوم، لكنها أيضا من أشد الابتلاءات التي تتطلب حكمة ورشدا وتبصرا في إدارة شؤون بلد عريق كسوريا.
فالتحرر من الظلم هو بداية الطريق، وليس نهايته، إذ إن بناء الأوطان وصون الحقوق وتحقيق العدالة يتطلب جهدا جماعيا وتوافقا بين مختلف المكونات.
أولا: وحدة الصف وعصمة الدماء
إن شريعتنا الغراء تدعونا إلى وحدة الكلمة ورص الصفوف، فإن الفرقة والتنازع لا يجلبان إلا الضعف والهوان. قال الله تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعا وَلَا تَفَرَّقُوا" (آل عمران: 103). وإن عصمة الدماء واجب شرعي لا يقبل المساومة، فقد قال النبي ﷺ: "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق". وعليه، فإننا ندعو إلى نبذ كل أشكال الانتقام أو الثأر، وأن تكون العدالة وفق ميزان الشريعة هي الفيصل في حل النزاعات.
التحرر من الظلم هو بداية الطريق، وليس نهايته، إذ إن بناء الأوطان وصون الحقوق وتحقيق العدالة يتطلب جهدا جماعيا وتوافقا بين مختلف المكونات
ثانيا: التوافق على القضايا الكبرى
إن الشريعة الإسلامية تقدم لنا رؤية متكاملة لبناء المجتمعات على أسس العدالة والرحمة والإحسان. ومن هذا المنطلق، يجب أن يكون التوافق على القضايا الكبرى أساسا لعملنا المشترك، ومنها:
- إعادة الإعمار المادي والمعنوي: بناء الوطن لا يقتصر على إعادة المباني، بل يتعداه إلى ترميم النفوس وتعزيز روح الأخوة بين أبناء الشعب.
- العدالة الانتقالية: إقامة نظام قضائي عادل يضمن محاسبة المجرمين دون ظلم أو تحامل، ويعيد الحقوق لأصحابها.
- ترسيخ قيم المواطنة: تحقيق التوازن بين انتمائنا الديني وهويتنا الوطنية، بحيث يشعر كل مواطن بأنه جزء من هذا الوطن، وله فيه حق وواجب.
ثالثا: تفويت الفرصة على التدخلات الدولية
إن استقلال القرار الوطني هو من أسمى الأهداف التي يجب أن يجب أن نسعى إليها، ولن يتحقق ذلك إلا بإغلاق أبواب الفتن التي تتسلل منها التدخلات الدولية والإقليمية. وهذا يتطلب منا تجاوز المصالح الشخصية والفئوية، والعمل بروح الفريق الواحد، ووضع مصلحة سوريا فوق كل اعتبار.
استقلال القرار الوطني هو من أسمى الأهداف التي يجب أن يجب أن نسعى إليها، ولن يتحقق ذلك إلا بإغلاق أبواب الفتن التي تتسلل منها التدخلات الدولية والإقليمية
رابعا: التربية على المسؤولية الجماعية
إن الأمة لا تنهض إلا ببناء الفرد الصالح والمجتمع المتماسك. وهذا يقتضي تربية أنفسنا وأبنائنا على القيم الإسلامية الأصيلة التي تجمع بين القوة في الحق والرحمة بالخلق. قال الله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى" (النحل: 90).
خامسا: بناء مشروع فكري جامع
إن أي نهضة مجتمعية أو سياسية لا تستقيم إلا بوجود مشروع فكري واضح المعالم، يستند إلى مبادئ الإسلام السمحة وقيمه الخالدة، مع استيعاب متطلبات العصر ومستجداته.
وهذا المشروع يجب أن يكون جامعا لا يقصي أحدا، ويقوم على قضايا مشتركة مثل الكرامة الإنسانية، والحرية المسؤولة، والعدالة الاجتماعية، والتنمية الشاملة.
سادسا: إدارة الاختلاف ضمن إطار الشريعة
لقد أقر الإسلام بالاختلاف كظاهرة طبيعية بين البشر، لكنه وضع له ضوابط تضمن أن يكون وسيلة للتكامل لا للتنازع. قال الله تعالى: "وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ" (الأنفال: 46). وعليه، فإن إدارة الخلافات في المرحلة المقبلة يجب أن تكون ضمن الأطر الشرعية التي تضمن احترام الآراء المختلفة والعمل على تحقيق المصلحة العامة.
سابعا: الاهتمام بالشباب وتأهيلهم لقيادة المستقبل
إن الشباب هم عماد أي أمة ووقود نهضتها. ولذا، يجب أن تكون لهم الأولوية في التخطيط والبناء، من خلال برامج تعليمية وتربوية وثقافية تعيد لهم الثقة في أنفسهم، وتؤهلهم لتحمل المسؤولية. وهذا يتطلب غرس قيم الإبداع، وحب الوطن، والالتزام الأخلاقي في نفوسهم.
ثامنا: الشراكة المجتمعية وإحياء روح التكافل
إن المجتمع السوري مرّ بسنوات طويلة من الألم والتشريد، ولا يمكن أن ينهض إلا بروح الشراكة بين جميع مكوناته. قال النبي ﷺ: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". فليكن شعارنا في المرحلة المقبلة: "التكافل يعيد بناء الوطن".
تاسعا: الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية
في ظل محاولات طمس الهوية الإسلامية وتشويه معالمها، يجب أن نحرص على تعزيز ارتباط شعبنا بثقافته وهويته، دون تعصب أو انغلاق، مع الانفتاح الواعي على العالم.
عاشرا: الاعتماد على الكفاءات لا الولاءات
إننا أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرر، وإن إضاعة هذه الفرصة بالتنازع أو التهاون هو خيانة لله وللشعب وللتاريخ
إن المرحلة المقبلة تتطلب الاعتماد على أهل الخبرة والكفاءة في جميع مجالات العمل، بعيدا عن المحاصصة والاعتبارات الشخصية. فبناء الوطن يحتاج إلى عقول مبدعة وسواعد مخلصة تعمل لصالح الأمة.
ختاما، نذكر أنفسنا وإياكم بقول الله تعالى: "فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (آل عمران: 159). فلنكن على قدر هذه المسؤولية العظيمة، ولنجعل من سوريا نموذجا يُحتذى به في الوحدة والبناء والسلام.
إننا أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرر، وإن إضاعة هذه الفرصة بالتنازع أو التهاون هو خيانة لله وللشعب وللتاريخ. فلنتق الله في أمتنا، ولنعمل جاهدين على تحقيق مقاصد الشريعة في العدل والإصلاح والبناء.
نسأل الله أن يوفقنا جميعا لما فيه خير البلاد والعباد، وأن يجعلنا من الذين يعملون لإعلاء كلمته وإقامة عدله في الأرض.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.