هل الأفكار المهاجرة يتم توطينها أم تأتي اختيارًا ؟
تاريخ النشر: 2nd, October 2024 GMT
لا شكّ أن الأفكار ومنها النظريات والفلسفات والقيم عمومًا، تظهر في بيئات ومواطن وبلدان في كل الشعوب، وممكن للأفكار أن تهاجر من موطنها الأصلي، إلى دول وحواضر أخرى لظروف ومتطلبات كثيرة، وهذه الأفكار قد يتم تهجيرها عنوة إلى ثقافات وحضارات أخرى، لها ثقافتها الخاصة، ورؤيتها الفكرية والثقافية، التي قد تكون مغايرة للأفكار التي هُجرت ويتم توطينها في البلدان الأخرى، وقد يتقبل البعض أفكارًا من خارج بيئتها الأصلية، إما انبهارًا واعتقادًا من البعض أن الآخر ربما تقدم بسبب أفكاره ورؤيته المجردة، وإما تتقبل الأفكار لسبب آخر -سنشير إليه لاحقًا- لكن هذا فهم مغلوط للتقدم أو التحضر من خلال هذه النظرة القاصرة للثقافة والوعي المحدود للنهضة، لذلك التقليد لا يفيد هذا المقلد في شيء، ولا يعطيه الإبداع الذي هو أساس منهج التقدم والنهوض -كما حصل لشعوب أخرى- فالأفكار التي انتجت نهضتهم وتقدمهم ونجاحهم في العلوم والإدارة وغيرها من أسباب النهوض الأخرى، فحتى يتحقق لنا ما نسعى إليه مثلما حصل لتلك الدول الأخرى، والفرق شاسع بين أن نأخذ منهج العلم وأسس التقدم، وبين أن نقلد ونستهلك ما انتجه الآخرون، وهذا لا يحقق نهضة للمقلدين.
وهذا التوجه لفرض الأفكار من خارجها حصل في دول كثيرة من الوطن العربي، وفي أوطان أخرى، الهدف هو نفسه تخريف ثقافة وقيم الشعوب، وهذه الأفكار التي يتم فرضها تسمى عند البعض غزوًا، ويسميها البعض اختراقًا أو اجتياحًا، وهذه الأفكار التي تفرض، أو إحلالها محل الثقافة الأصلية، بدعوى أن الثقافة الغربية -مثلًا- نجحت وتقدمت، وحققت نهضةً ضخمةً فكريةً وعلميةً وفلسفيةً، بسبب هذه الأفكار التي أسهمت في هذه النجاحات، لكن هذه المقاربة ليست دقيقة؛ لأن النهضة العلمية التي حصلت في الغرب لها منطلقات أخرى وحركة دؤوبة للخروج من التخلف والجمود أشرنا إلى أسبابها في كتابات سابقة، فالثقافة واللغة وسبل العيش، وتملكها كل الشعوب، لكن الجانب الذي حقق النهضة العلمية والتكنولوجية، كان تراكمًا لمعارف وعلوم ورؤى، من كل الحضارات السابقة، وتم الإضافة عليها من المبدعين لدى كل ثقافة، وهذه قضية معروفة، وهو ما حققته الحضارة العربية / الإسلامية في العصور الأولى للإسلام، لكن ما قام به الاستعمار ليس هدفه نهضة الأمم المستعمرة، بل هدفه التخريب ثم التغريب، وبعد ذلك نهب ثروات لتلك الشعوب بعد ربط هذه الأوطان بالمركز الغربي، وقد سعى إلى ذلك بأدوار حثيثة، وأهم هذه الأدوار الحط من الأفكار الأصلية، والحل في تطبيق اللغة والثقافة الوافدة، لتحل محل الثقافة الوطنية اللصيقة بفكر الأمة وقيمها ورؤيتها العامة، كما توارثوها عبر قرون مضت، صحيح أن رجالًا من علماء ومفكرين ومناضلين، تصدوا لهذا المخطط التغريبي، وواجهوه مواجهة باسلة بقدر استطاعتهم، خاصة في المغرب العربي، الذي كان شرسًا وقاسيًا في تطبيق ما يراه حقًا لصهر وتخريب ثقافتهم وإقصائها، خاصة الاستعمار الفرنسي، الذي كان مهووسًا، وخطط قبل حتى أن يعمد إلى الاحتلال بصورة دائمة لتلك الشعوب، واعتبر بعض دول المغرب العربي -الجزائر مثلًا- جزءًا لا يتجزأ من فرنسا ومشروعها الاستعماري الاستيطاني، واستعمل كل الوسائل لإبقاء هذه الدول مع فرنسا تابعة له، لكن هذه الشعوب قدمت التضحيات الأليمة والكبيرة للحفاظ على استقلالها وثقافتها وهويتها الوطنية، وهذا ما تحقق في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي في المشرق العربي، وكذلك بقية دول المغرب العربي.
وفي فكرة أن المغلوب كما قال البعض من المهتمين بالفكر والتاريخ، دائمًا ينصاع لثقافة الغالب وفكره وسبل حياته وطريقة تفكيره، ومن هؤلاء الذين أشاروا لهذه الرؤية العلامة والفيلسوف العربي ابن خلدون، وهو أن: (المغلوب مولع باقتداء الغالب)، وهذه لا شك أن فيها الكثير من الصحة، كما حصلت عند الكثير من شعوب العالم، لكنها لا تخلو من تعثرات فكرية وتاريخية في الواقع، عبر التاريخ كونها ليست نظرة ثابتة وعامة عند الجميع، فقد ظهر شيء نادر الوقوع في التاريخ الإنساني، وهو أن الغالب يسلّم بفكر المغلوب، وليس العكس وينصهر فيه، ويتخلى عن ثقافته وقيمه، فعندما هجم التتار على البلاد العربية والإسلامية، واحتلوا بغداد ومصر والشام وجزءًا من العالم الإسلامي آنذاك، فإنهم أسلموا بعد ذلك، وذابوا في المحيط العربي الإسلامي، وهذا يعدُّ هجرةً لأفكار جاذبة للآخر الغالب لفكر المغلوب، أو انتصارًا لفكر المغلوب، وهذه من الحالات النادرة في التاريخ الإنساني.
ومن المفكرين العرب الكبار البارزين في القرن العشرين الذين اهتموا بقضية الصراع الثقافي، المفكر الجزائري المعروف مالك بن نبي، في العديد من مؤلفاته، منها كتبه: (مشكلة الثقافة)، وكتاب (مشكلة الأفكار)، وكتاب (قضية الصراع الثقافي مع البلاد المستعمرة)، وغيرها من الكتابات والمؤلفات الفكرية والسياسة والاقتصادية، وقد ركز في بعض هذه المؤلفات، على قضية الصراع الثقافي داخل بلده الجزائر، وما نتج عن ذلك من غرس المفاهيم الفكرية للمستعمر الفرنسي، بهدف استتباع هذا البلد لفكر الآخر ونظرته ومنها اللغة التي تعدُّ رأس الأفكار وأجلها، وأعطى هذه المسألة مصطلحًا متميزًا لفهم الهدف الاستعماري، وهي فكرة (القابلية للاستعمار)، بما يستهدفه من تغيير في النظرة النفسية والسلوكية للشعوب التي استُهدِفت من الدول التي قامت باحتلالها قسرًا، وإرغامًا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وهذه الأهداف كما يرى ابن نبي، هي الأخطر من الاستعمار نفسه؛ لأن ذلك يتعلق بتقبل فكره ونموذجه ليسهل له ما يراه في نجاح خطوته الاستيطانية، لتصبح هذه الشعوب تابعًا له في كل توجهاته الفكرية والثقافية، وقابلة بذلك التوجه، ويقول ابن نبي لشرح فكرة الاستعمار لبلوغ أهدافه فيقول في كتابه (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة): «الاستعمار قد جاء إلى العالم الإسلامي نتيجة مرض أساسي عندنا، هو القابلية للاستعمار.. وهو نتيجة الصراع الفكري الذي خطط له الاستعمار وأحسن إحكام الخطة.. لقد سلط الاستعمار الأضواء على المشكلات الهامشية، بينما ترك في الظلام كل رؤية منهجية سليمة.. تفتح الطريق أمام حركة التاريخ». كما أكد مالك بن نبي على المفهوم نفسه في كتاب «شروط النهضة»، حيث تحدث عما يسمّيه «معاملين» فعلا فعلهما في الإنسان المستعمَر: «المعامل الاستعماري» و«معامل القابلية للاستعمار».
ولا شك أن النظرة الاستعمارية لها الكثير من الطرق والأساليب المتعددة التي تهدف إلى بسط سيطرته ونفوذه، وتقبل فكره وثقافته، وتخريبه للأفكار الأصلية لهذه الشعوب، وهناك تمايز جوهري بين الدول الاستعمارية في كيفية اتخاذ المواقف وتحويل الفكرة الناجحة والمؤثرة في التطبيق بوسائل ناعمة حينًا، وأحيانًا فرضها بالقوة في أحايين أخرى، وما يراه حقًا لصهر وتخريب ثقافتهم وإقصائها، وهذا كان قديمًا منذ ما يقرب من قرن.. لكن هل أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي طرق متاحة لنقل الأفكار السلبية والمضادة للقيم الأساسية للشعوب الأخرى؟ وهذا ما يجب أن نأخذه في الحسبان راهنًا ومستقبلًا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأفکار التی هذه الأفکار
إقرأ أيضاً:
جثث بالمتاحف.. دعوات لوقف عرض رفات أفارقة جُلب لبريطانيا خلال حقبة الاستعمار
دعا بعض المشرعين البريطانيين والمنظمات غير الحكومية والباحثين الحكومة إلى معالجة ما وصفوه "بالفراغ التشريعي"، الذي يسمح للمتاحف ومؤسسات أخرى بحفظ وعرض رفات أفارقة أُخذ خلال الحقبة الاستعمارية.
وعلى مدى قرون، كان رفات لأفارقة، مثل جثث محنطة وجماجم وأجزاء أخرى من الجسم، يُجلَب إلى بريطانيا وغيرها من القوى الاستعمارية السابقة، غالبا "كغنائم" أو كسلع تُباع ويجري عرضها في المتاحف.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"لغة استقلال الهند".. حرب اللغات في شبه القارة تستهدف الأردية المتأثرة بالفارسية والعربيةlist 2 of 2المقامات الدينية الدرزية تستعيد نفوذها في السويداء مع تصاعد الاهتمام بالروحانياتend of listوتتزايد عالميا دعوات لإعادة هذا الرفات، وكذلك الأعمال الفنية المنهوبة، إلى مجتمعاتها أو بلدانها الأصلية.
تحرير الأرشيف من الاستعمارورغم بذل بعض الجهود لمواجهة هذه القضية التي طال أمدها، ما زال رفات أفارقة محفوظا في مؤسسات مختلفة بجميع أنحاء البلاد، مثل المتاحف والجامعات.
وقالت كوني بيل، من مشروع "تحرير الأرشيف من الاستعمار"، في فعالية نظمتها أمس الأربعاء مجموعة برلمانية متعددة الأحزاب معنية بالتعويضات، برئاسة النائبة عن حزب العمال بيل ريبيرو-آدي "لا يمكننا السماح بانتزاع إنسانية أسلافنا".
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024، عرضت ريبيرو-آدي القضية على البرلمان، قائلة إن دور المزادات تدرج رفاتا يعود إلى الحقبة الاستعمارية للبيع على منصات التجارة الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي.
إعلانوقبل شهر من تصريحات ريبيرو-آدي، تراجعت دار مزادات في تيتسوورث أوكسفوردشاير عن بيع رفات بشري، منه جماجم تعود لشعب إيكوي في غرب أفريقيا، وذلك بعد انتقادات وجهها سكان محليون ونشطاء.
وصرّحت نائبة رئيس الوزراء البريطاني أنجيلا راينر أنه من المروع سماع رواية ريبيرو-آدي، ووافقت على مواصلة مناقشة القضية، وقالت ريبيرو-آدي أمس إنه سيُعقد اجتماع مع وزير الثقافة قريبا.
وستقدم المجموعة متعددة الأحزاب إلى الحكومة 14 توصية سياسية، منها تجريم جميع عمليات بيع الرفات "على أساس أنه ليس سلعا تجارية بل بشر".
جثث بالمتحفخلال ذروة الاستعمار الأوروبي في أفريقيا، تم جمع الرفات البشري بنشاط كجزء من الممارسات العلمية والأنثروبولوجية والاستعمارية، وغالبا ما كان هذا الجمع مدفوعا بالفضول الأوروبي والنظرة لأوروبا كمركز وبقية العالم كهامش، بالإضافة لأيديولجيا ومفاهيم التفوق العرقي، والرغبة في دراسة وتصنيف التنوع البشري من منظور توكيد فوقية الغرب، وتأكيد الاستعلاء وقهر الشعوب المحتلة.
وكان الاستيلاء على الرفات البشري سمة متكررة في الحروب الاستعمارية، مدفوعا بعلاقات القوة غير المتكافئة والأساليب الوحشية للحرب التي لا تضفي حرمة على الجسد الإنساني.
وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، زاد الطلب على جماجم البشر للدراسة مع ظهور التخصصات العلمية مثل تصنيف تقسيم القشرة الدماغية وعلم جمجمة الإنسان، وتم استخدام هذا الرفات لترسيخ الروايات العرقية التاريخية في العلوم الطبيعية، وغالبا ما كانت تعزز الأيديولوجيات العنصرية.
وأثناء استعمارها لربع أنحاء العالم أخذت بريطانيا الكنوز والمصنوعات اليدوية وقدمتها للجمهور البريطاني ليبدي إعجابه بها في المتاحف، لكن الآن لا يوجد مبرر للاحتفاظ بهذه المقتنيات المسروقة، كما تقول بلدان المستعمرات السابقة.
إعلان