ما زالت عناصر التضليل الأسطوري تستخدم إلى اليوم، وتستعمل بصورة منتجة فـي الدعاية والإعلان والسياسة. فالسحر والخزعبلات يُمارس تأثيرها على نحو روتيني ويومي فـي البيت والمخزن والمكتب، وينتشي الناس ويدهشون بالإنجازات العقلانية التي تحجب لاعقلانية مجمل النظام. فعندما ينكب رجال العلم على مشكلة الإبادة الجماعية الباعثة على القلق، فـيجرون حسابات رياضية عن كيفـية القتل بصورة مُثلى ويحسبون المسافات التي يمكن أن تغطيها الإشعاعات ويجرّبون تحمل الأجسام فـي شروط غير طبيعية، يكون العلم قد انساق إلى التضليل الأسطوري، وذلك بمقدار ما يتطلب بل يفرض سلوكا يقبل بذلك المشروع الجنوني.
نشر ماركوز كتابه فـي منتصف القرن العشرين -عام 1964م تحديدا- وهو عمل فلسفـي ونقدي كان له تأثيره البارز والقوي فـي أوروبا والعالم. فحينها قد خرج العالم من رحم الحرب العالمية الثانية، ولم تزل جراح الحرب نازفة لم يطوها الزمان، ومع التوترات التي رافقت تلك الحقبة من التاريخ، فقد ظهرت مشكلة جديدة رصدها ماركوز، وهي تأثير التقدم التكنولوجي على المجتمع البشري وكيف أن هذا التقدم يؤدي إلى تقليص الأبعاد الإنسانية للمرء وينتج أفرادًا ذوي بُعد واحد. إنه يتحدث بشكل مباشر عن تأثير الأنظمة الاجتماعية والسياسية كالرأسمالية فـي حياتنا، وكيف استطاعت تغيير العين التي نرى بها الأشياء، فتغلغلت فـي المفاهيم المجتمعية وطبّعت ما كان يبدو منكرا وغير قابل للعقلنة فضلا عن التطبيع، فليس من الطبيعي بتاتا أن يكون القتل مادة للدراسة جنبا إلى جنب مع دراسة التطور الذي لحق بقصب السكر وتأثير الإشعاعات النووية على شجرة اللوز فـي اليابان!. فغدا النقد الفكري والمجتمعي والسياسي فـي طي النسيان، نتيجة لقضاء النظام المعاصر على فردانية المرء الفكرية، وغدا الأفراد نسخا مكررة من الأفكار والتوجهات والاعتقادات، بغض النظر عن الدين والعرق والبقعة الجغرافـية. فالفكرة شيء محرم يتطلب قمعها من الرقيب الداخلي أولا قبل الرقيب الخارجي المتمثل فـي المجتمع والوظيفة المسؤولة عن الرقابة.
كان للكتاب تأثيره البالغ فـي ثورة مايو 1968 فـي فرنسا، والتي انطلقت لتشمل جامعات عدة تجاوزت الحدود الأوروبية حينها. إن للكتب الحقيقية التي تناقش وتثور على حال سيئ وشنيع يلاحظه الجميع ولا يتحدثون عنه -تغافلا أو رهبة-، تأثيرًا مفصليًا فـي التاريخ البشري، فالمعنى الحقيقي للثورة فـي الصناعة والفكر والسياسة هو تبديل الوضع السيئ طلبًا للوضع الأفضل، فكيف بعالم غدت فـيه أرواح الأبرياء أرقامًا تظهر فـي شاشات الإحصاء، وأحلامهم وهوياتهم مجردة من قدسية النفس البشرية!. لا يخفى على أحد أهمية التقدم التكنولوجي وتأثيره علينا جميعًا نحن ساكني هذه المعمورة؛ لكن لا ينبغي للتقدم التكنولوجي أن ينسينا المعنى السامي والرفـيع للنفس البشرية، لا ينبغي لأي تقدم علمي أن يُقدّم على روح إنسان، فالتطور فـي نشأته لأجل الإنسان وبقائه وتحسين ظروف حياته، لا لقتله وإبادته. إن ما يحدث اليوم من إبادة جماعية على أهلنا الفلسطينيين على شاشات التلفاز؛ يجعلنا نفهم تعامل الغربي -السياسي غالبًا- مع البيئة واهتمامه بها، فغدا للسؤال «لماذا يتحدثون عن حقوق الحيوان والحفاظ على البيئة فـي الوقت الذي يبيدون فـيه البشر؟»، إن الإنسان الغربي لا ينظر إلى الشجرة بوصفها روحًا حية ينبغي تثميرها والمحافظة عليها لأجل ذاتها، بل لأجل ما يجنيه منها؛ فالبيئة مجرد أداة كبقية الأدوات التي تضمن له راحته وتفوقه على بقية العالم، جنبا إلى جنب مع الطائرة والسيارة وسكّان العالم الثالث الذين يتعامل معهم كفائض بشري لا أهمية له ولا وزن، إن الإنسان غربيًا كان أو غير ذلك، نتاج للمجتمع الذي يعيش فـيه والتأثيرات الطارئة على ذلك المجتمع من السياسة وغيرها؛ فليست محاكمة الإنسان ونقده فكريًا وفق عرقه أو الجغرافـيا التي أتى منها من منظور جغرافـي مجرّد، بل من منظور فكري شائع وعام، أي أنها غير نابعة من العنصرية المضادة بعبارة أوضح وأكثر دقة، بل نتاج الملاحظة والتدوين.
إنه من المهم لنا أن نقرأ المدارس الفكرية التي تشبه مدرسة فرانكفورت؛ لنفهم ما يحدث اليوم ونبني عليه تصوراتنا وبالتالي نعرف المسار الذي نسير فـيه ونتجه نحوه، جنبا إلى جنب مع النقد الذاتي فـي كل مرحلة. إن المراحل الحرجة هي التي تُسمَّى «تاريخًا»، وهي التي تصنع الدول والقادة والرجال؛ وما لم يكن المرء فاعلًا فـي مرحلة حرجة يغلي فـيها العالم، فمتى سيكون ذلك؟. لنتأمل قليلا كيف تغيرت المعادلة وتوغّلت الشركات فـي صنع سياسة الدول، فمن كان يتخيل أن ينتقص رائد عمل ثريًا من حاكم دولة وينتهك سيادة الدولة قولا -وفعلا ربما- كما فعل ماسك مع مادورو رئيس فنزويلا!. ينبغي للمرء أن يفتح عينيه على الحشائش الضارة قبل أن تغدو حقلا شاسعا يصعب اقتلاعه، ومن يظن بأن هذا المثال مثال خيالي، يمكنه زيارة سمائل ومشاهدة أشجار «الرُّوغ» التي ملأت الوادي بعدما تجاهلتها الجهة المسؤولة لسنوات طوال، فغدت مستعمرةً للأفاعي وممتصة للمورد الأهم فـي الحياة (المياه). إن الحشائش الفكرية أكثر أهمية وأشد حاجة إلى التشذيب والقلع من كثير من المشكلات الأخرى، فلينظر المرء إلى حقله ويشذّبه كي لا يغتاله الروغ فـيندم ولات حين مندم.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
شيخ الأزهر: الاختلاف بين السنة والشيعة كان في الفكر والرأي وليس في الدين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، رئيس مجلس حكماء المسلمين، إن الاختلاف بيننا وبين إخواننا الشيعة هو اختلاف فكر ورأي وليست فرقة دين، ودليل ذلك ما ورد عن النبي "صلى الله عليه وسلم" في حديثه المعجز، الذي استشرف فيه المستقبل فحذرنا من مخاطر الانقسام التي قد تنبني على ذلك حين قال: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ" بمعنى نحسند بعضنا دولنا على بعض، ونحسد بعض شعوبنا على بعض، ثم قال: "وَهِيَ الْحَالِقَةُ، وَلَكِنْ حَالِقَةُ الدَّيْنِ"، ثم فسر قائلا: لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، فاستكمل:"وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثْبِتُ ذَلِكَ لَكُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بينكم"، بمعنى رسخو السلام بينكم وعيشوا فيه معا.
وبيِن الإمام الطيب، خلال ثاني حلقاوأكد شيخ الأزهر، أن الأمة الإٍسلامية حاليا في أشد الحاجة إلى الوحدة في القوة والرأي لمجابهة تحديات العصر والانتصار على أعداء الأمة، فهناك كيانات عالمية اتحدت دون وجود ما يوحدها، كما اتحدت دول الاتحاد الأوروبي، وغيرها، ليس لشيء سوى أنها رأت ذلك ضرورة من الضرورات الحياتية العملية، ونحن أولى منهم بذلك بكل ما بيننا من مشتركات.
واختتم فضيلته أن هذا اختلاف طبيعي في ذلك الوقت، خضع في تغليب أحدنا على الآخر لضرورات حياتية عملية فرضتها الظروف حينها، ولا يجب أن يكون هذا الاختلاف سببا في أن يكفر أحدنا الآخر، بل يجب فهم أن في هذا النوع من الاختلاف رحمة، فالصحابة رضوان الله عليهم قد اختلفوا، وقد أقر النبي "صلى الله عليه وسلم" اختلافهم، ولكن لم يكفر أحد أحدا من الصحابة، كما أننا نحن السنة لدينا الكثير من المسائل الخلافية، فلدينا المذهب الحنفي والمذهب الشافعي وغيرها من المذاهب، بكل ما بينها من أمور خلافية.ت برنامجه الرمضاني «الإمام الطيب»، أنه قد حدثت بعض الخلافات بين صحابة النبي "صلى الله عليه وسلم" ومن ذلك ما حدث على الخلافة، وقد قيل فيه "ما سل سيف في الإسلام مثلما سل على هذا الأمر"، كما اختلفوا في عهده "صلى الله عليه وسلم"، لكنهم لم يسلوا السيوف على أنفسهم، موضحا أن الخلاف بين السنة وإخوانهم الشيعة لم يكن خلافا حول الدين، وعلى كل من يتصدى للدعوة أن يحفظ حديث النبي "صلى الله عليه وسلم" حين قال: " من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، فذلكم المسلم الذي له ذمة الله ورسوله فلا تخفروا الله في ذمته"، ويتقن فهمه الفهم الصحيح.