لا إنقاذ لحزب الله

إلا بقطف رأس نتنياهو سريعًا


الحزب فقد سمعته السياسية وكوادره العسكرية وعانى من الاختراقات الأمنية ولعبة الصمت الاستراتيجى الإيرانية  الاستخبارات الإسرائيلية قصقصت ريش «نصر الله» باغتيال مساعديه الكبار والصغار ثم تخلصت منه  عملية الاغتيال استغرقت ثوانى وشاركت فى تجهيزها ثلاث فرق عسكرية

أطلقت إسرائيل على عملياتها فى لبنان «سهام الشمال» للرد على صواريخ «حزب الله».

استهلكت فى هذه العملية ٣٥٠٠ قنبلة وصاروخ ومسيرة أدت إلى ترك نحو مليون لبنانى منازلهم.

لكن ما إن اغتالت أمين عام الحزب «حسن نصر الله» حتى غيرت الاسم إلى «ترتيبات جديدة».

كأنها تعلن أن التخلص من الرجل الأول فى الحزب تحت أنقاض مقره فى «الضاحية الجنوبية» من بيروت بداية سيناريوهات مختلفة فى الحرب على لبنان.

كانت ساعة الصفر الساعة السادسة والعشرين دقيقة من مساء يوم الجمعة حين انطلقت ثلاث طائرات «إف ١٥» من قاعدة «حتسريم» الجوية القريبة من مدينة «بئر سبع» فى طريقها إلى الهدف الذى لا يبعد أكثر ٢٩٣ كيلومترا.

أطلقت الطائرات ثلاثة صواريخ فى ثانية واحدة وألقت ٨٠ قنبلة من طراز «هايفى هايد» التى تزن الواحدة منها طنا وتخترق التحصينات حتى ٧٠ مترا تحت الأرض.

لم يزد التوقيت عن عشر ثوان.

نفذت العملية الوحدة «١١٩» فى سلاح الجو الإسرائيلى المعروفة باسم «بات» بعد معلومات سيبرانية أكدتها مصادر بشرية على الأرض.

تدرب الطيارون على العملية ثلاثة أيام ولم يعرفوا شخصية الضحية إلا قبل ساعة من التوقيت المحدد.

قبل ثلاثة أيام أيضا بالتحديد يوم الأربعاء ضغط وزير الدفاع «يواف جالنت» وقيادات الجيش فى اجتماع مجلس الوزراء المصغر «الكابنيت» ليحظوا بالموافقة على تنفيذ العملية لرفع معنويات الضباط والجنود الذين يحاربون فى غزة وهم فى حالة نفسية سيئة بعد نحو السنة من القتال الذى بدا بلا نهاية.

لكن اعترض الوزراء الأكثر تشددا على العملية.

رفضها وزير المالية «بتسلئيل سموتريش» ووزير العدل «ياريف لافين» وانسحب «نتنياهو» دون التصديق على العملية.

فى الاجتماع أثيرت أسئلة تتعلق بشكل العملية وطريقة تنفيذها وحدود التنسيق مع الولايات المتحدة.

استمرت المباحثات يوم الخميس التالى وامتدت المشاورات بين «نتنياهو» و«جالنت» عبر التليفون ثم كانت مشاورات أخرى بين «نتنياهو» ورئيس هيئة الأركان «هرتسى هاليفى» وبينه وبين مدير الموساد «ديفيد برنباع» ومدير المخابرات العسكرية «شلومى بيندر».

سافر «نتنياهو» إلى نيويورك ليلقى كلمة إسرائيل أمام الجمعية العامة دون أن يصدق على العملية.

كان فى الفندق حين أعطى إشارة البدء ثم اتجه إلى مبنى الأمم المتحدة القريب ليلقى خطابه وما إن انتهى منه حتى تلقى تمام المهمة وفى هذه اللحظة بدأ حالة نشوة لم يخفف منها سوى المظاهرات التى طالبت باعتقاله كمجرم حرب بسبب ما يفعل فى غزة.

ولكن الشرطة الأمريكية لم تعتقله وإنما اعتقلت ٢٨٤ ناشطا مسلما ويهوديا تضامنوا معا ضده.

سارع بالعودة إلى تل أبيب وفى لحظات هبوط طائرته تعرض مطار «بن جوريون» إلى صاروخ أطلقه الحوثيون فى اليمن لكنه لم يصب شيئا.

شارك «نتنياهو» أيضا فى خطة الخداع التى سبقت العملية حين تحدث عن مناقشة جدية لوقف القتال فى غزة بينما هو فى الحقيقة أمر بتوسيع الحرب فى لبنان.

فى صباح يوم الجمعة وقبل التنفيذ بساعات التقى «جالنت» بقائد المنطقة العسكرية الشمالية اللواء «أورى جوردين» ليطمئن منه على استعداد قواته لخوض عمليات كاملة فى لبنان تحسبا لرد فعل اغتيال «نصر الله».

بعد وقت قصير أبلغه رئيس الأركان أن كل الظروف متاحة للتخلص من الرجل الذى هجرت صواريخه نحو ١٥٠ ألف إسرائيلى من بيوتهم وأجبرتهم على الإقامة فى الملاجئ ثم كان ما كان.

حسب صحيفة «يديعوت أحرنوت» فإن التخطيط لعملية الاغتيال تمتد إلى عقد من الزمن وساهمت فى تنفيذها ثلاث وحدات عسكرية.

الوحدة ٩٩٠٠ التى تجمع المعلومات البصرية وتحدد إحداثيات المكان.

الوحدة ٥٠٤ المتخصصة فى جمع المعلومات من العملاء.

والوحدة ٨٢٠٠ التى تعتمد على التكنولوجيا المتطورة.

لكن أخطر معلومة سربتها إسرائيل عن العملية وجود جواسيس على الأرض جندهم الموساد أبلغوا بدقة عن توقيت اجتماع «نصر الله» مع مساعديه كما قدموا رسومات تفصيلية عن مقر إقامته وعاداته اليومية ومواعيد تناول الطعام.

إن عملاء إسرائيل هم أهم أسباب سلسلة الاغتيالات التى نفذتها إسرائيل ضد قيادات حزب الله وتصاعدت وتيرتها قبل أسبوعين انتهت باغتيال «الرجل الكبير».

لقد تأسس الحزب فى عام ١٩٨٢.

أعلن أنه حزب سياسى إسلامى شيعى مسلح ليكون جزءًا من المقاومة فى المحور الذى تقوده إيران ضد الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما فى الشرق الأوسط.

فى عام ١٩٨٩ انتخب الحزب قيادته من ثلاثة أمناء عامين وهم من رجال الدين الشيعة المعتمدين يعتمر أولهم «صبحى الطفيلى» عمامة بيضاء بينما يضع الآخران وهما «عباس الموسوى» و«حسن نصر الله» العمامة السوداء التى يعتمرها من يحملون لقب «السيد» نسبة إلى امتداد نسبهم للسلالة النبوية.

كان «صبحى الطفيلى» أول أمين عام للحزب ولكنه أبعد بعد عامين ليتولى المنصب «عباس الموسوى».

فى ١٦ فبراير ١٩٩٢ وبعد أقل من عام فى المنصب اغتالته إسرائيل بطائرة مروحية تربصت بموكبه وأطلقت صواريخ حرارية حارقة على سيارته فقتل هو وزوجته (سهام) وولدهما الصغير (حسين) وتحول مرقده إلى مزار.

لكن ما إن انتصر الحزب فى حربه ضد إسرائيل التى استمرت من ١٢ يوليو إلى ١٤ أغسطس ٢٠٠٦ حتى بدأ الموساد فى تصفية القيادات العسكرية للحزب.

بدأت المخابرات الإسرائيلية بأهم قائد عسكرى وهو «عماد مغنية».

فى ١٢ فبراير ٢٠٠٨ قتلته فى حادث انفجار سيارة فى حى كفر سوسة فى دمشق.

بعد الحادث ساد هدوء بين الطرفين وبدا أنهما اتفقا على هدنة غير معلنة بينهما.

كان السبب تورط حزب الله فى السياسة الداخلية والخارجية فى لبنان وتحكمه فى اختيار الرئيس نفسه.

ثم امتد الانشغال إلى دول الإقليم المجاورة وعلى رأسها سوريا والعراق ثم فلسطين ليتحول من قوة مقاومة إلى قوة سيطرة.

ولا شك أن هذا التحول الذى أفسد الحزب وأفسد الحياة فى الدولة اللبنانية وجيرانها كان أحد أسباب انهيار الحزب التى ستظهر فيما بعد.

حاول الحزب أن يسترد ما فقد من هيبة وشعبية بمساندة المقاومة فى غزة بعد عملية «طوفان الأقصى» التى بدأت يوم ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ وردت عليها إسرائيل بإعلان حرب على غزة استمرت نحو العام دون توقف لتسجل أطول حرب خاضتها إسرائيل منذ فرضها على المنطقة العربية عام ١٩٤٨.

لكن حزب الله لم يساند المقاومة الفلسطينية كما يجب واكتفت بإطلاق دفعات صواريخ من وقت إلى آخر لم تحقق خسائر تذكر للطرف الإسرائيلى الذى بدأت التخطيط لإضعاف الحزب بالعودة إلى تصفية قياداته العسكرية كما حدث من قبل.

فى ليلة ٤ ديسمبر ٢٠١٣ أطلق مسلحون النار على رأس القائد العسكرى فى الحزب «حسان اللقيس» من مسافة قريبة عند وصوله إلى بيته.

وفى يوم الثلاثاء ٣٠ يوليو استهدفت غارة إسرائيلية «فؤاد شكر» المستشار العسكرى للأمين العام للحزب.

وفى ٢٠ سبتمبر ٢٠٢٤ اغتيل «إبراهيم عقيل» عضو مجلس الجهاد فى الحزب ومسئول وحدة الرضوان (وحدة النخبة) فى غارة جوية إسرائيلية على بيروت وقتل معه عشرة من القيادات العسكرية المساعدة.

وبعد أربعة أيام استهدفت إسرائيل «إبراهيم قبيسى» قائد منظومة الصواريخ فى غارة جوية على الضاحية الجنوبية.

وبعد يومين اغتيال «محمد حسين سرور» قائد القوة الجوية فى غارة نفذتها طائرة إسرائيلية (إف ٣٥) أطلقت ثلاثة صواريخ على مبنى يسكنه فى الضاحية الجنوبية.

وفى الفترة ذاتها أجهزت إسرائيل على نحو خمسة آلاف عضو فى الحزب بتفجيرات البيجر وأجهزة اللاسلكى.

وبدا واضحا أن خطة الاغتيال لم تكن عشوائية وإنما استهدفت القيادات العسكرية العليا والوسطى والصغرى قبل التخلص من الرأس الكبير «حسن نصر الله».

قصقصت ونتفت ريشه حتى أصبح عاريا ثم فجرته ليصبح الحزب فى أزمة صعبة ومعقدة يصعب الخروج منها بعد اغتياله.

ولكن الحقيقة أنه هو من بدأ الأزمة حين شعر «نصر الله» أنه السلطة العليا فى لبنان يأمر وينهى فى البلاد كما يشاء.

وبمساهمته فى عمليات عسكرية فى سوريا والعراق واليمن صنفت الولايات المتحدة الحزب منظمة إرهابية واعتبرت اغتيال «نصر الله» تحقيقًا للعدالة بعد اتهامه بقتل جنود من مشاة البحرية الأمريكية فى لبنان.

بل اعتبرت الولايات المتحدة مقتله لا يقل أهمية عن مقتل «أسامة بن لادن».

يضاف إلى ذلك الاختراقات الأمنية المتوالية التى تعرض لها الحزب بصورة يصعب تصديقها وبتكلفة متدنية تحملتها إسرائيل وكأن جزءًا من التجسس على الحزب هو الكراهية التى تحملها جماعات كثيرة فى لبنان وما حولها.

لكن هناك سببًا أهم وراء انهيار الحزب وهو موقف إيران الذى يوصف بالصمت الاستراتيجى الذى لجأت إليه حتى لا ترد على اغتيالات علمائها المسئولين عن برنامجها النووى واغتيال رئيسها «إبراهيم رئيسى» واغتيال «إسماعيل هنية» على أرضها وسرقة الأسرار النووية باختراقات سيبرانية.

بل أكثر من ذلك تركت أذرعها فى المنطقة تحارب وحدها وراحت تتفرج عليها.

وكانت حجتها أنها لا تريد أن تتورط حتى تنتهى من القنبلة النووية وساعتها ستكون قادرة على الردع النووى بينها وبين إسرائيل.

والحقيقة أن هذه سذاجة استراتيجية فى التحليل السياسى فالردع النووى لا يوقف الصراعات الإقليمية مثل الهند وباكستان وروسيا وأوكرانيا.

وعندما تصل إيران إلى ما تحلم به ستكون إسرائيل قد حققت كل ما تريد عسكريا وسياسيا لتصل بالمنطقة إلى نظام إقليمى جديد لن يكون لنظام آيات الله فى طهران تأثير يذكر فيه.

ويبدو الحديث عن مستقبل حزب الله المرشح لقيادته «هاشم صفى الدين» حديثا مؤسفا فقد أصابه الضعف ويعانى من صورة ذهنية سيئة.

ولن تقوم له قيامة إلا إذا نجح فى تغيير الصورة الذهنية السيئة بعدم التدخل فى شئون الدول مهما كان وجوده فيها.

بجملة أخرى يجب تغيير سياساته الداخلية والإقليمية.

لكن الأهم لا بد من عمليات عسكرية نوعية قوية حاسمة ومؤلمة وسريعة ضد إسرائيل تعادل اغتيال «نصر الله» ومساعديه الكبار والصغار.

دون هذه العمليات الموجعة غير القابلة للانتظار لن يثق أحد فى الحزب وسينتظر الجميع مراسم دفنه.

ليكن «صفى الدين» عند كلمته عندما أعلن أنه سيقصف بيت «نتنياهو» ولكن بشرط أن يقتله كما توعد وإلا اعتذر عن قيادة الحزب.

ولن تكون هذه العمليات مجرد انتقام فقط وإنما ستوقف المخطط الإسرائيلى عند حده.

إن إسرائيل حاصرت لبنان بعد اغتيال «نصر الله» ومنعت طائرة إيرانية من الهبوط فى مطار بيروت كما حذرت السفن الإيرانية من الرسو فى موانئ لبنان.

وعندما تغير إسرائيل اسم عمليتها فى لبنان إلى «تقديرات جديدة» فإنها تفتح جميع السيناريوهات للتعامل معها ومنها الغزو البرى واحتلال خطوط استراتيجية فاصلة آمنة لها.

لقد حاربت «حماس» إسرائيل سنة كاملة ولا تزال صامدة ونجحت فى وضع مؤسساتها العسكرية والأمنية والسياسية فى حرج شديد وأشعلت الغضب فى شعوب العالم ضدها واستردت القضية الفلسطينية وجودها رغم الثمن الفادح الذى دفعه الشعب فى غزة والضفة الغربية.

لكن بمشهد اغتيال «حسن نصر الله» الذى سيطر على الدنيا كلها قبل أن تكمل الحرب سنتها الأولى بدأت إسرائيل تسترد بعضا من هيبتها وسمعتها وقدرتها المفقودة على الردع.

إن الضربة للأسف جاءت للمقاومة من جهة المساندة.

على أن عواصف النار لم تهدأ بعد.

ولا أحد يعرف من سيحترق بها فى بداية السنة الثانية من الحرب.

 


بالاشتراك مع: الحسين محمد

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: حزب الله نتنياهو نصر الله لبنان حسن نصر الله غزة عادل حمودة الولایات المتحدة حسن نصر الله على العملیة حزب الله فى لبنان فى الحزب فى غزة

إقرأ أيضاً:

اغتيال حسن نصر الله.. ماذا يجب أن يبقى من سيد المقاومة بعد رحيله؟

ـ 1 ـ

ولخطابات المراثي مكانتها. فهي تخليد لذكرى الميّت واعتراف له ونحن نودّعه الوداع الأخير. وقد قيل في حسن نصر الكثير من قبل من التقوه أو تقاطعوا معه في محطات مّا. ولكن هذه الخطابات عاطفية يغلب عليها تصوير هول الفاجعة تعمّق إحساسنا الحداد. وتدفعنا إلى حالة من الإحباط والانكفاء. وليس أفضل من إكرام حسن نصر إحياءه بأن نجعل حدث اغتياله موضوع تفكير وأن تستشرف مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي بعد رحيله.

ـ 2 ـ

لم تأت مكانة حسن نصر الله الأمين العام الثالث والحالي لحزب الله منذ 16 فبراير 1992 من فراغ. فقد راكم التجارب التي صنعت منه القائد الرّمز  والخطيب الذكيّ المناور صاحب الحسابات الدقيقة، حتّى لقّب بسيد المقاومة ومثّل بارقة أمل تخلِّص الشعوب العربية المحبطة من حالة اليأس التي تعيشها. فقبْل أن يتولّى أمانة الحزب خلفًا لعباس الموسوي تلقى دراسات إسلامية في لبنان وفي الحوزة الشيعية في النجف وفي إيران ثم انخرط في حركة أمل الشيعية  وأصبح لاحقًا مندوبا لها في البقاع، وعضوًا في مكتبها السياسي المركز.

ما من شك في أنّ اغتيال حسن نصر الله حدث كبير جدا سيقدّم نتنياهو المنتهي الصلاحية، باعتباره بطلا قوميا من جديد وسيمنحه حياة سياسية أخرى وما من شك في أنّ الجيش الإسرائيلي سيتعيد شيئا من كبريائه الذي جرّدته منه أحداث طوفان أقصى يوم 07 أكتوبر 2023.وفي تجربته العراقية تعرّف على عباس الموسوي وتوطدت الصلة بينهما وانتهت إلى الاشتراك في تأسيس حزب الله لاحقًا. فبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، ظهر تياران في حركة أمل، لا يرى الأول ، ضيرا في الانضمام إلى هيئة الإنقاذ الوطني، ويقوده نبيه بري. ويرفض الثاني الانخراط في الهيئة احترازا على وجود بشير الجميل فيها لتحالفه مع إسرائيل. ويمثله  عباس الموسوي. وانتهى الخلاف إلى انشقاق الثاني ليؤسس "حزب الله" ويرفع لواء المقاومة ولينضمّ إليه حسن نصر ومجموعة أخرى من الشباب المتحمّس. ولكن ارتداءه لثوب المجد سيتحقّق خاصّة بداية من سنة 2000، لمّا دفع الحزب بإسرائيل إلى الهروب الذليل من الجنوب، بلا ترتيبات أو اتفاقية مع لبنان كما كانت تشترط، متخلية عن أسلحتها وعن عملائها من جيش لبنان الجنوبي بقيادة لحد.

ـ 3 ـ

مثلت الحرب مع إسرائيل 2006 ملحمة الثانية. فقد شنّت إسرائيل هجومها على لبنان بعد أن قامت قوات من الحزب بقتل ثلاثة جنود إسرائيليين وأسر جنديين ضمن عملية أطلقت عليها اسم الوعد الصادق. واستمرت العمليات القتالية لأكثر من شهر وانتهت بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701.  وإثرها، ورغم الدمار الكبير الذي لحق بالضاحية الجنوبية لبيروت، أعلن حسن نصر الله "النصر الإلهي" بالنّظر إلى حسن بلاء مقاتليه وإلحاقه أذى كبيرا بالعدوّ. وتحوّل إلى بطل قومي عند عديد المواطنين العرب. فقد حطّم فكرة الجيش الإسرائيلي الذي لا يهزم، التي رسّختها فينا الهزائم العربية.

ومع ذلك وتناغما مع  اتجاه من الرأي العام اللبناني الذي عارض "مغامرات" حزب الله، اعتبر هذه الحرب خطأ وسوء تقدير منه. فقد صرّح نصر الله في مقابلة مع قناة "الجديدة في 27 أغسطس" 2006 بأنه نادم على العملية ولم يكن ليأمر بأسر الجنديين لو كان يعلم أنها ستؤدي لحرب بهذا الشكل. "قيادة الحزب لم تتوقع ولو واحدًا في المائة أن تؤدي العملية إلى حرب بهذه السعة وبهذا الحجم. أنا مقتنع ومتأكد أن هذه الحرب كان مخططًا لها وأن أسر الجنديين كان ذريعة لإطلاقها. لو عرفت في 11 تموز أن العملية ستؤدي لحرب بهذا الشكل، هل كنت سأقوم بها؟ أقول لا، قطعًا لا."

ـ 4 ـ

للحزب، بقيادة حسن نصر الله إذن، فضل في ترسيخ الفكر المقاوم. وفضل في تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي وفي دعم الفلسطينيين في غزّة المحاصرة خاصّة. ولكن له:

ـ إيديولوجيته التي تثير إشكالا عويصا وخطرا على فكرة المقاومة نفسها. فشريعته تقوم على فكرة ولاية الفقيه التي أسّس لها الخميني. فتجعل ولاءه إلى "المجتمع المسلم" قبل ولاءه للوطن. وليس هذا المجتمع المسلم غير النموذج الإيراني الرّاهن. فبيانه لسنة يعلن1985[نحن أبناء الأمة (مجتمع مسلم) - حزب الله الذي طليعة منه الذي انتصر من قبل الله في إيران. هناك نجحت الطليعة في إرساء قواعد دولة مسلمة تلعب دورا محوريا في العالم. نحن نطيع أوامر أحد الزعماء الحكيم والعادل من معلمنا الفقيه الذي يستوفي جميع الشروط اللازمة: روح الله الموسوي الخميني ....]

ـ وله تمويلاته الخاصّة. فقد أعلن حسن نصر الله بنفسه في خطاب له بتاريخ 07-02- 2012 : "أغنانا الله من إيران عن كل فلس في العالم.. لسنا محتاجين" مضيفا أنّ الإيرانيين "يدفعون أثمانا باهضة لوقوفهم إلى جانب لبنان وفلسطين".

وكلا الإكراهين كان مقيّدا له يجعله ملحقا بالمشروع الإيراني في المنطقة. فيواجه مشكلة استقلالية القرار بعمق. ولا يستطيع أن يتحرّك إلا في دائرة المصالح الإيرانية وإن على حساب المصلحة اللبنانية. ويدين بالولاء لها ولحلفائها قبل ولائه للوطن.

هذا ما جعله مثيرا للجدل في لبنان وخارجه، خاصّة بعد أن امتدت عملياته إلى التراب السوري لنصرة نظام بشار الأسد ضد الثوار ومساعدته على الصّمود وحمايته من السقوط بفعل الثورة.

ـ 5 ـ

من هذا الارتباط بالخارج ستنشأ مختلف متاعب الحزب:

 فقد وجّهت إلى مصطفى بدر الدين الرّجل الثاني في الحزب وقتها تهمة التخطيط لجريمة اغتيال الرئيس الحريري في فيفري 2005 والأشراف على تنفيذها  بمشاركة  عناصر من حزبه، بعد أن انقلب الأخير على النظام السوري حليف الإيرانيين وأعلن أنّ وجود قواته في الأراضي اللبنانية لم يعد ضروريا. وتعطّلت الحياة السياسية اللبنانية طويلا لرفض الحزب تدويل القضية. ثم قتل مصطفى بدر الدين في عام 2016. فأعلنت محكمة العدل الدولية التوقف عن ملاحقته نتيجة لذلك. وطويت صفحة الخلاف.

ـ اتهم بالتواطؤ مع النظام السوري. ووجد كثيرون في دعم عناصره لقوات بشار  خدمة للاستبداد وحيلولة دون تطلعات الشعب السوري للحرية فيما ناصرها بعض آخر لأنه كان يرى في تصفية نظام بشار تدميرا لمحور المقاومة.

ـ لم يسلم من الاتهام بالانخراط الفساد وفي حماية الموظفين الفاسدين الذين يسهّلون تهريبه للسلاح وتبييضه للأموال. وعُدّ مسؤولا، كما الطبقة السياسية بأسرها، عن الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة في لبنان. وفي 17 أكتوبر 2019، كان حزب الله، موضوعا لمظاهرات حاشدة وتدعو إلى حكومة تكنوكرات مستقلين وإجراء إصلاحات شاملة تنقذ لبنان من أزمته. فرفع الشعار  "كلن يعني كلن نصر الله واحد منن".

ـ أُتهم حزب الله بالمسؤولية عن انفجار 2750 طن من مادة نترات الأمونيوم كانت مخزنة في العنبر 12 في مرفأ بيروت الذي جدّ  في 4 أغسطس 2020. ومن نتائجه هلاك أكثر من 190 بين لبناني وأجنبي، أكثر من 6500 مصاب، وخسائر الماديّة بأكثر من 15 مليار دولار أمريكي وتضرر آلاف المنازل بدرجات متفاوتة.

ـ 6 ـ

بعد النصر الإلهي في حرب تموز 2006 تغيّرت الأمور كثيرا. فثمانية عشر سنة كانت كافية للجيش الإسرائيلي المدعوم أمريكيا ليعيد ترتيب أوراقه من جديد. فقد تمّ تحييد قدرات حزب الله إلى حدّ كبير، فالتقدم التكنولوجي والقبة الحديدية وتدخل الذكاء الاصطناعي في التصدي إلى الصواريخ جعل ترسانته قديمة قد تجاوزها الزّمن. والتسلّح بالأجهزة الحديثة لم يعد بالسهولة التي كان عليها سابقا بسبب تشديد الحصار عليه.

وسمحت المدة الفاصلة بين طوفان الأقصى (7 أكتوبر2023) وحدث اغتياله (27 سبتمبر 2024)  لإسرائيل باختبار قدرات الحزب والتأكد من مدى استعداد إيران التي يدين إليها بالولاء على حمايته. فاستهدفت قنصليتها في دمشق بغارة جوية في 1 أفريل 2024. ثم شجّعها الرد الإيراني الخجول في عملية الوعد الحق لتتقدّم خطوة إلى الأمام. فاغتالت إسماعيل هنية على أرضها بشكل استعراضي مهين تزامن مع تنصيب رئيسها الجديد. وبات واضحا لديها أنّ إيران لن تغامر بحلم القنبلة النووية ولن تدخل حروبا جانبية قد تعيقها عن تحقيقه مهما كانت الأسباب.

ـ 7 ـ

بعد هذه المعطيات جميعا بدأت إسرائيل خطتها لتنفيذ الاغتيال. فاستهدفت قادة الحزب. وجعلت حلقات سلسلته المتماسكة تنقطع. وفجّرت أجهزة التواصل بين عناصره "بيجرز"، ذلك الحدث الذي خلناه هدفا فإذا به وسيلة ترمي إلى إفقاده لثقته بنفسه للاختراق الأمني الكبير الذي وصل إلى دوائر القيادة. هذا ما عبّر عنه حسن نصر الله نفسه الذي صرّح يوم 19 ـ 09 ـ 2024 تعقيبا على تفجير أجهزة الاتصال، بأن الحزب قد تعرّض إلى ضربة قاسية وغير مسبوقة.

على الأحزاب الشيعية التي تعلن الانخراط في المقاومة وتتبنى التصدي لإسرائيل أن تتخذ مسافة من الهيمنة الإيرانية وعليها أن تتعامل مع المقاومة بعيدا عن مصالحها الضيقة (هاجس القنبلة النووية والهيمنة الإقليمية)في الأثناء كان الحزب يعمل ضمن ما أسماه بجبهة الإسناد. فيشاغب إسرائيل مشاغبة غير مؤلمة.  وينشّط  الحدود الشمالية دون أن يفتح جبهة حقيقية تشتت المجهود الحربي الإسرائيلي للتخفيف من معاناة فلسطينيي خطابات طويلة لأمينه العام تكتفي بالوعيد. وكانت هذه العناصر جميعا تمنح الفرصة لإسرائيل للإيقاع بصيدها الثمين ليخرج رئيس أركان جيشها متباهيا فيصف هذا الاغتيال بكونه " قد تم التخطيط له منذ فترة طويلة وتم تنفيذه في الوقت المناسب".

ـ 8 ـ

ما من شك في أنّ اغتيال حسن نصر الله حدث كبير جدا سيقدّم نتنياهو المنتهي الصلاحية، باعتباره بطلا قوميا من جديد وسيمنحه حياة سياسية أخرى وما من شك في أنّ الجيش الإسرائيلي سيتعيد شيئا من كبريائه الذي جرّدته منه أحداث طوفان أقصى يوم 07 أكتوبر 2023. وهذا جليّ من تصريح قائد أركانه بقوله عن الاغتيال "الرسالة واضحة سنصل إلى كل من يهدد مواطني إسرائيل". ومن الجهة المقابلة سيعيش الحزب حالة من الإرباك قبل أن يستعيد توازنه ويعيد تنظيم صفوفه. ولكن تبقى عودته إلى سالف قوته تحديا كبيرا. وسيسعى البعض إلى فرض تسويات سياسية على حساب لبنان. ولكن كل ما ذكرناه ليس سوى تفاصيل في المعركة الكبيرة مهما بلغ مداه.

أمّا الثابت القارّ منها  فنوجزه في النّقاط التالية:

ـ ليس حسن نصر الله شهيد اغتيالات إسرائيل الوحيد. فقبله ضمت القائمة أبو جهاد وياسر عرفات وسمير قصير وعماد مغنية وأحمد يس وعبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل هنية وغيرهم. والقضية لن تحسم عبر الاغتيالات. فيذهب قادة ويأتي آخرون ليواصلون المشوار.

ـ فلسطين أرض عربية محتلة منذ بداية الانتداب البريطاني في 1915.  أي ما يزيد عن القرن. ولا يزال طريق تحريرها طويلا جدا. ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بالمقاومة طويلة النفس التي تتطلب البحث عن طرق مبتكرة تأخذ بعين الاعتبار المعادلتين التاليتين المتعاكستين:

ـ الإيمان بأن موازين القوى لا تخدم الفلسطينيين في المواجهات المسلحة المباشرة.
ـ التراخي في المقاومة سيمكّن إسرائيل من تهويد فلسطين كاملة.

ـ  فلسطين أرض عربية محتلة  وإسرائيل مجرّد واجهة للاحتلال الغربي الإمبريالي الذي يهدف إلى التخلص من الثقل اليهودي، ولأن اليهود يسيطرون على أسواق المال والذهب ويبسطون سلطانهم على الحياة الاقتصادية في المجتمعات التي يعيشون فيها، ولغرس خنجر في قلب المشرق الإسلامي ضمن تصور لا يؤمن بالتعدد الثقافي واختلاف الحضارات والمساواة بينها رغم كل الشعارات المرفوعة. ولذلك فالقضية عربية إنسانية قبل أن تكون فلسطينية.

ـ على الأحزاب الشيعية التي تعلن الانخراط في المقاومة وتتبنى التصدي لإسرائيل أن تتخذ مسافة من الهيمنة الإيرانية وعليها أن تتعامل مع المقاومة بعيدا عن مصالحها الضيقة (هاجس القنبلة النووية والهيمنة الإقليمية) ولكن ذلك يظل أمرا بالغ الصعوبة بالنظر إلى ارتباطها بها إيديولوجيا وماليا بما يجعل انتماءها إلى خطّها الإيديولوجي أعلى من التزامها الوطني. فالأطياف السياسية الشيعية في العراق واليمن ولبنان تجعل من إيران هدفا وغاية وتذهب في الولاء إليها إلى النهاية. أما إيران فلا ترى فيها غير وسائل وللوسائل دوما عِوض وبدائل.

هذا هو الدّرس الذي يجب أن يبقى من سيد المقاومة بعد رحيله.

مقالات مشابهة

  • من كتاب «أحاديث السحاب» للكاتب الصحفى الكبير عادل حمودة.. هيكل الاختلاف لا ينفى الإعجاب (2)
  • بعد اغتيال نصرالله... كيف سيكون وضع حزب الله عند انتهاء الحرب؟
  • مفاجأة جديدة بشأن اغتيال حسن نصر الله.. ما علاقة سوريا؟
  • أمريكا تكذب ولا تتجمل!!
  • الخميس.. عادل حمودة يكشف عن أسرار حياة أحمد زكي في "معكم منى الشاذلي"
  • عاجل - أمريكا تعلق على دخول إسرائيل البري في لبنان
  • اغتيال حسن نصر الله.. ماذا يجب أن يبقى من سيد المقاومة بعد رحيله؟
  • عودة الدولة اللبنانية هى الحل
  • ماذا بعد اغتيال حسن نصر الله؟