غزة- رغم ضمور عضلاته، يقبض بكفيه على الفأس، يرفعه عاليا ويستجمعُ قواه الخائرة، ويستنشق نفسا طويلا ثم يهوي به على جذع الشجرة، والعرق يتصبب من جسده. على هذا النحو، منذ عام، يجمع الحطاب عمر أبو خليل من غزة الحطب مضطرا كي يطعم أطفاله.

عامٌ مرّ والغزيون تحت وطأة الحرب والقتل والخوف والجوع، تغيرت ملامحهم، وهزلت أجسادهم، وتجاوز الإنهاك الأبدان واخترق قدراتهم العقلية وحالتهم النفسية، ورغم ذلك يكابرون ويتجاهلون أنين أجسادهم ويواجهون ضعفهم بالإصرار والمحاولة.

في غرفة العمليات، يلتف ثلة من الأطباء حول جسد طفلٍ مصاب لاستخراج شظية من قلبه، يُنهون مهمّتهم ليباشروا أخرى بلا راحة ولا وقت مستقطع. عام كامل وصرخات النازفين تجبرهم على ألا يبرحوا غرف العمليات رغم انتفاخ أقدامهم.

في البيت للرعاية وخارجه للبحث عن طعام، ووقت مستقطع لعمل إن وُجدَ لتوفير قوت أطفالهن، أمهات غاب عنهن أزواجهن من شهور الحرب الأولى يحملن أثقل مما يحتمله الرجال. وكذلك طلابٌ يعكفون على كتبهم نازحين، يتنقلون بين نقاط الإنترنت والخيام، يدخلون عاما دراسيا ثانيا دون مدارس ولا جامعات.

وأمام الكاميرا يقف المراسلون الحربيّون ومن خلفها يضبط المصورون الكادر، يمسك الصحفيون أقلامهم ليكتبوا فيبعثرهم التشتت ويخذلهم التركيز. منذ عام كاملٍ لم يتركوا أقلامهم وكاميراتهم، رغم رحيل بعضهم واستنزافهم ذهنيا وإنهاكهم بدنيا.

صمود رغم الألم

كان الصحفيون من أهم الأعمدة التي تعكزّت عليها غزة حين كادت تنهار، فكانوا صوتها وصورتها وأفشلوا مخططات الاحتلال بحجبها عن العالم لتموت بصمت، دفعوا ضريبة من أرواحهم في حرب إبادة بلا حصانة.

"لا يمكن أن نتنازل عن التغطية في أي حالٍ من الأحوال" يقول الصحفي إسلام بدر الذي لم يبرح الميدان منذ اليوم الأول للحرب، "فالتوقف عنها هو قتلٌ آخر لأكثر من 170 صحفيا استهدفتهم إسرائيل لإخماد صوت الحقيقة".

يقوم بدر ومثله صحفيو غزة بتغطيتهم للحرب في صمت، فهم يؤدون واجبهم المهني ويؤمنون بعدالة قضيتهم، وقد أخذوا على عاتقهم أن يصمدوا مع الذين بقوا في شمال قطاع غزة، لتوثيق المجازر رغم الصعوبة والضغط النفسي.

"أتخيل أن الطفلة المصابة هي ابنتي وأن السيدة المكلومة أمي، وأشعر بمسؤولية مضاعفة بالتحدث عنهم كي لا يموتوا بالعتمة" يقول بدر، ويتابع "بعد الانتهاء من توثيق المجازر تنتابني حالة من الصدمة وأبدأ باستعادة المشاهد التي أراها وأتعجّب من قدرتي حينها على الوقوف على برك الدماء وفوق الأشلاء".

هي معركة واحدة من معارك كثيرة يعيشها بدر الذي لم يتعاف بعد من إصابته في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، دون أن يتلقى الراحة والعلاج المناسب. ويقول "طاقتنا اليوم في أدنى مستوياتها والإرهاق صار متراكما فسوء التغذية والابتعاد عن الأسرة وطول أمد الحرب دون أفق لنهايتها أسباب في التشتت والتوتر وفقد التركيز".

ورغم الواقع الصعب الذي يعيشه بدر ومعه صحفيو شمال غزة، فإنه لا يستسلم لليأس، ويحاول صرفه بإشغال نفسه وإطفاء التفكير بالواقع. يقول بدر شارحا "الشعور بالتقصير ما زال قائما، فمآسي حرب الإبادة أكبر من أن يغطيها المراسلون القلائل في غزة"، ويضيف مختتما حديثه للجزيرة نت "لا أعرف حدود طاقتي، لكن أرجو أن أصمد للنهاية، وأن تكون أنفاسنا أطول من نفس الحرب".

الجراح الشيخ: حالات إغماء في صفوف الجراحين بسبب ضغط العمل والتأثر بإصابات الضحايا (الجزيرة) أطباء يقاومون الإرهاق

أما الأطباء، فقد انقطعت أنفاسهم مرارا خلال وقوفهم ساعات طويلة في غرف العمليات، لا يغمض لهم جفن بينما تنشغل أكفّهم بوقف النزف وإخاطة الجرح.

الجزيرة نت التقت طبيب الجراحة العامة هلال الشيخ وهو من الجراحين القلائل في شمال القطاع الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة. يقول الشيخ إن حالات الإغماء ضمن صفوف الجراحين آخذة بالتزايد بسبب ضغط العمل المتواصل والتأثر الكبير بإصابات الضحايا التي تصل إليهم.

ورغم أن جسد الجراح الشيخ داخل غرفة العمليات فإن تفكيره مشتت بين توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة لأسرته التي أصيب أفرادها خلال الحرب وتأمين المياه والمعلبات وحليب الأطفال والأخشاب لإيقاد النار في ظل الدخل المحدود وعدم قدرته على البحث عن فرصة عمل أخرى لضغط العمل.

يبوح الشيخ للجزيرة نت قائلا "ما يؤرقني أن الحرب جردتني من الحياة التي أفنيتُ عمري في التأسيس لها بما يليق بي طبيبا له عائلة ومنزل وسيارة وحياة اجتماعية، كل هذا أضحى اليوم صفرا وأحتاج البدء من جديد".

يضيف الشيخ "نزحتُ مضطرا من غرف العمليات ودماء الجريح لا تزال على يدي وملابسي تحت تهديد القذائف الإسرائيلية وطلقات النيران"، وحين يستبد به اليأس يواسي الشيخ نفسه بأن الله قد كتب له النجاة من الموت المحقق مرارا ليواصل تأدية واجبه حتى "النفس الأخير" كما يقول.

المرأة الفلسطينية تعيش واقعا مأساويا غير مسبوق في غزة (وكالة الأناضول) أمهات بلا معيلين

أما الأمهات في غزة فقد اختطفت الحرب كثيرا من أزواجهن ما بين شهيد وأسير ومطارد ومفقود، ما ضاعف مسؤولياتهن. مع اليوم الأول للحرب وغياب زوجها، تحمّلت إيمان الشنطي بمفردها عبء رعاية أبنائها الأربعة، ورغم عملها صحفية لسنوات قبل الحرب فإنها رفضت عروض عمل قُدمت إليها تخوفا من ترك أبنائها وحدهم وللتفرغ لرعايتهم وتأمين احتياجاتهم.

تقول الشنطي للجزيرة نت إن الطاقة التي كانت تقف بها قديما في طوابير انتظار تعبئة المياه وشراء الخبز وغيرها نفدت اليوم. وتحتاج الشنطي علاجا لداء في عضلات جسدها لا يتوفر في صيدليات غزة، مما يجعلها تعاني إنهاكا وأرقا يعززه التفكير المتواصل في كيفية تأمين المستلزمات في صبيحة اليوم التالي.

ترى الشنطي أن تعافيها النفسي سيبدأ باجتماعها بأهلها الذين فرقتهم الحرب، أمّا جسديا فتقول إنها "تحتاج سنوات حتى ترمم جسدها وأبناءها وتعوضهم عن حرمان عام قد يمتد"، تُظهر أمام أطفالها خلاف ما تبطن وتخفي خوفها وحزنها على حرمانهم من الحياة الطبيعية.

لكنها تواسي نفسها بالقول "لقد صار أبنائي أكثر وعيا، وتحملوا المسؤولية وتعززت لديهم مفاهيم العقيدة والشهادة والوطن والتضحية"، وتضيف "بعد مرور عام من الحرب أصبحت أكثر ميلا للانعزال والوحدة والانطواء وأجد ملاذي في الرياضة والقراءة للهرب من الواقع".

ربى مسلم تواجه تحديات كثيرة من بينها انعدام البيئة المناسبة للدراسة (الجزيرة) دراسة بلا أفق

"أجر قدميّ جرا بلا أي شغف للدوام الذي كنت أمتلئ حماسة في طريقي إليه"، تصف طالبة الطب ربى مسلم للجزيرة نت حالها بعد عام من الحرب، كانت تحضر للسفر لحضور دورة تدريبية طبية حتى بدأت الحرب ونسفت كل مخططاتها. تعيش ربى في صراع بين عدم جدوى دراستها لأنها لا تضمن حياتها يوما واحدا، وبين اندفاعها في حين آخر للدراسة لأنها الثغر الذي عليها التزامه.

تعاني ربى من قلة تركيزها، فهي تنزح في مكان غير مهيأ للدراسة ويكتظ بالنازحين ويمتلئ بصراخ الأطفال، "إن التركيز غاية لا تدرك، أجاهد للحصول على ساعة واحدة ألملم فيها عقلي"، وتتابع "لا خيارات ولا طرقا أتجاوز فيها ظرف البيئة السيئة سوى ارتداء سماعتي الأذن لأخلق لنفسي جوا منعزلا".

يبدو انعدام البيئة المناسبة واحدا من عدة تحديات تواجهها الفتاة التي تقطع عشرات الكيلومترات للوصول إلى نقطة إنترنت لتحميل الفيديوهات والمواد الدراسية، وتعاني كذلك في إيجاد مكتبة لطباعة الورق أو مكان لشحن بطارية حاسوبها الشخصي.

تختم ربى بالقول "هذا السعي والتعب غير معروف متى سينتهي، نحاول التأقلم مع الواقع المفروض علينا، رغم يقيني بأن انتهاء الحرب سيكشف أوجاعا كثيرة لم ندركها لانشغالنا بمآسيها وفظاعاتها".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات للجزیرة نت

إقرأ أيضاً:

بدء بناء أطول خط ربط بحري لنقل الكهرباء في بريطانيا

مقالات مشابهة مبيعات المضخات الحرارية في أوروبا تهبط 47% بالنصف الأول

‏ساعة واحدة مضت

إنتاج الغاز الصخري في الصين يشهد خطوة مهمة لأول مرة (تقرير)

‏ساعتين مضت

إغلاق آخر محطات توليد الكهرباء بالفحم في بريطانيا.. رسميًا

‏3 ساعات مضت

مزيج توليد الكهرباء في الخليج العربي.. كيف تغيّرت الخريطة خلال 2023؟

‏4 ساعات مضت

التحديث.. كيفية تجديد الهوية الوطنية إلكترونيا عبر منصة أبشر بخطوات سهلة

‏4 ساعات مضت

وزارة المالية تتوقع عجز ميزانية السعودية في 2025 بنسبة 2.3 من الناتج المحلي

‏5 ساعات مضت

تسارعت خطوات تنفيذ أطول خط ربط بحري لنقل الكهرباء في بريطانيا بقدرة إجمالية تصل إلى 2 غيغاواط، لا سيما مع انطلاق عمليات البناء بصورة رسمية.

وتأتي هذه الخطوة في ضوء استهداف الحكومة البريطانية لتصبح رائدة في مجال الطاقة النظيفة بحلول عام 2030، عبر تنفيذ عدّة مشروعات للطاقة المتجددة، بما في ذلك خطوط ربط الكهرباء مع البلدان المجاورة.

ويعدّ خط إيسترن غرين لينك تو (EGL2) أطول خط كهرباء عالي الجهد (HVDC) في البلاد، بقدرة 525 كيلوفولت.

ومن المقرر أن يربط الخط بين منطقتي بيترهيد في مدينة أبردينشاير بإسكتلندا، ودراكس الواقعة شمال يوركشاير البريطانية، بإجمالي تكلفة متوقع 4.3 مليار جنيهًا إسترلينيًا (5.76 مليار دولار).

* (الجنيه الإسترليني = 1.34 دولارًا أميركيًا).

ويُنفِّذ الخط كلٌّ من: شركة نقل الكهرباء الجنوبية الإسكتلندية المعروفة اختصارًا بـ”إس إس إي إن SSEN”، والشبكة الوطنية لنقل الكهرباء المعروفة اختصارًا بـ”إن جي إي تي NGET”.

مميزات المشروع

قال رئيس مجلس إدارة شركة “إس إس إي إن” غريغور ألكسندر، إن أطول خط ربط بحري لنقل الكهرباء في بريطانيا سيؤدي دورًا أساسيًا بتعزيز أمن الطاقة في البلاد، وفق معلومات أوردها موقع أوفشور إنرجي (offshore energy).

وأضاف أن الخط سيسهم في خفض معدلات الانبعاثات الكربونية، وتوفير الكثير من فرص العمل في البلاد.

وأكد أهمية المشروع لصالح حماية البيئة في منطقتي بيترهيد بمدينة أبردينشاير في إسكتلندا، ودراكس الواقعة شمال مدينة يوركشاير.

خطوط لنقل الكهرباء – الصورة من موقع knowledge

وأشار ألكسندر إلى التزام الشركة بالتعاون مع المجتمعات المحلية للمنطقتين للإسهام بأدوار إيجابية لصالح البيئة، وعدم إلحاق الضرر بها، على مدار مدة تنفيذ المشروع وبعدها.

ومن المتوقع أن يزيد الطول الإجمالي لأطول خط ربط بحري لنقل الكهرباء في بريطانيا على 500 كيلو متر، وفق تقدير شركة “إس إس إي إن”.

ويشمل أطول خط ربط بحري لنقل الكهرباء في بريطانيا: 436 كيلومترًا من الخطوط البحرية، و70 كيلومترًا خطوط برية، بجانب محطتي تحويل على تلك الخطوط، وفقًا لمتابعات منصة الطاقة.

أكبر خط

تتوقع شركة النقل الجنوبية والإسكتلندية أن يكون مشروع “إيسترن غرين لينك تو” -أيضًا- أكبر خط لنقل الكهرباء يُنَفَّذ في تاريخ المملكة المتحدة.

وسيسهم الخط في توليد الكهرباء الخضراء والصديقة للبيئية، لتزويد ما يقارب مليوني منزل بريطاني بالإمدادات.

ومن المتوقع أن تسهم أعمال بناء الخط بتوفير مئات فرص العمل في المشروع نفسه، بجانب آلاف الوظائف الأخرى بالقطاعات الاقتصادية ذات الصلة في البلاد، عبر إمداد المشروع بما يحتاج إليه من معدّات ومدخلات لازمة للتنفيذ.

ومن المقرر أن تسهم شركة بريسميان (Prysmian) في تصنيع وتركيب الخط، في حين تتعاون شركتا: هيتاشي إنرجي (Hitachi Energy) وبام (BAM) في تنفيذ محطات التحويل.

وحصل أطول خط ربط بحري لنقل الكهرباء في بريطانيا على الموافقات النهائية لهيئة تنظيم سوق الطاقة الحكومية “أوفغيم” قبل أسابيع، عقب استكمال إجراءات الحصول على التمويل بموجب الآلية الجديدة التابعة للهيئة؛ ما سمح ببدء أعمال تنفيذ الخط البحري.

مشروع لطاقة الرياح البحرية – الصورة من موقع new civil engineerموعد التشغيل

تتوقع الجهات القائمة على تنفيذ أطول خط ربط بحري لنقل الكهرباء في بريطانيا تشغيله عام 2029.

وأشاد المدير العام لقطاع البنية التحتية في هيئة أوفيغم أكشاي كوال بالدور الإيجابي الذي أسهمت به الهيئة في تسريع وتيرة تنفيذ أطول خط ربط بحري لنقل الكهرباء في بريطانيا، بهدف استفادة المواطنين البريطانيين من الكهرباء التي سينقلها المشروع.

وأضاف أن وتيرة تنفيذ المشروع كان من الممكن أن تتأخر لمدة عامين أيضًا، بسبب إجراءات البيروقراطية والاعتيادية الحكومية.

وأشار كوال إلى أن استعمال مصادر الطاقة المتجددة لتوليد الكهرباء في بريطانيا سيساعد ببناء مستقبل آمن للطاقة في أنحاء البلاد.

ولفت إلى أن أطول خط ربط بحري لنقل الكهرباء في بريطانيا سيؤدي دورًا رئيسًا تجاه تحقيق هذه المستهدفات.

واتصالًا بهذه التطورات، سرَّعت هيئة أوفغيم في وقت سابق من العام الجاري (2024) آليات تنفيذ مشروع إيسترن غرين لينك وان (EGL1)، البالغة قدرته الإجمالية 2 غيغاواط، ووفرت بحزمة تمويل تقارب 2 مليار جنيه إسترليني.

موضوعات متعلقة..

اقرأ أيضًا..

إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.
Source link ذات صلة

مقالات مشابهة

  • الحرب و السياسة و المتغيرات التي أحدثتها
  • غزة في عام.. تغطية خاصة للجزيرة نت ترصد عاما بعد طوفان الأقصى
  • الحرس الثوري الإيراني يسمي العملية التي أطلقها اليوم بـالوعد الصادق 2
  • توكل كرمان من لاهاي أمام تجمع عالمي: العالم يواجه الآن خطراً خطيراً يتمثل في الحرب السيبرانية التي قد تؤدي إلى تقويض الأمن والخصوصية
  • عن كثب.. ما هي جرائم الحرب التي ارتكبتها اسرائيل؟
  • بدء بناء أطول خط ربط بحري لنقل الكهرباء في بريطانيا
  • جراح منسية.. الصحة النفسية ليست أولوية للمؤسسات التي تُشغّل الصحفيين في غزة
  • 4 ملفات الساخنة في اجتماع الخطيب مع لجنة التخطيط في الشيخ زايد اليوم
  • تحقيق للجزيرة نت يكشف ارتفاع التشوهات الخلقية لدى المواليد في غزة