النقش على النحاس .. فن عابر للأزمان بحي الجمالية
تاريخ النشر: 2nd, October 2024 GMT
النقش على النحاس وتطعيمه .. تسري طلائع الخريف برطوبتها بين نسمات الهواء الذي أنساب أخيرًا من هجير الصيف، وعلى وقع هويد الست أم كلثوم تشدو برائعتها "ألف ليلة وليلة" تخترق مساحات أستثنائية في الغناء، تصدح بصوتها العذب من أحد الحوانيت، تتدفق تيارات الخلق بين ضفتي شارع المعز لدين الله الفاطمي الذي يزدان بتهاويل الأرابيسك بين سبيل وكتاب عبد الرحمن كتخدا، وقبة مسجد الصالح نجم الدين أيوب، مرورًا ببيت السحيمي وصولاً إلى باب زويلة.
عقد من اللؤلؤ لايتجاوز تعداد حباته الـ 15، هم شيوخ فن النقش على النحاس وتطعيمه بكل أنحاء الجمهورية، اتخذوا من شارع المعز مركزًا لهم فصار لهم حيًا، أطلق عليه حي النحاسين، رجال أغواهم المعدن الثمين وأغرتهم حلاوة الرسم والتطعيم فأنسلوا من السباق المستعر بحثًا عن المال ولحقوا بركب الفن وذواقة الجمال.
تنساب أولى خيوط شمس الضحى عبر خِصاص أحد منازل حي الدرب الأحمر، مستقر أبناء الحاج عبد المقصود، درة النحاسين، يستيقظ عم مجدي، أحد أبناء الشيخ الراحل على صوت ضجيج الباعة واصطكاك أوجه المحلات وجلبة المارة، تحمله قدماه إلى مدرسة الجمالية لتعليم الحرف التراثية محل عمل وشقيقه عم مسعد منذ 6 سنوات بعد أن دفعهما ركود السوق لغلق ورشتهما مؤقتًا ثم منحها لأبناء الجيل الثاني من العائلة لتدبر شؤونها.
مدرسة الجمالية للفنون التراثيةجوهرة شارع أمير الجيوش الجواني، تتوسط صفوف من داكين النحاسين وورشهم، يستقبلك عبير البخور المستكي لحظة تدلف المكان، وديكور راقي يمزج أشهر عصور مصر الإسلامية، الفاطمي والعثماني والمملوكي وحتى تاريخها الحديث، في بهو فسيح شاسع لايرتد فيه بصرك سوى عن آيقونات من الجمال، ومع توسط رماح الشمس عنان السماء يتحول المكان إلى خلية نحل، يدب النشاط بين أوصال أقسامها الخمس: المشغولات الخشبية (عكاكيز من خشب الأبانوس السوداني والأمشاط من خشب الزيتون وعلب المجوهرات المطعمة بالصدف الأبيض والأزرق والسبح)، والسجاد اليدوي (القطيفة والصوف واقطن والحرير)، والجلود الطبيعية ( من محافظ وحقائب وحوافظ لبطاقات الهوية والأحزمة وحتى سرج الأحصنة وغيرها) والنحاس وأخيرًا الشفتشي؛ صناعة كل مايشف من الملابس من حلي ومجوهرات، يدويًا من النحاس والفضة والدهب.
قبلة لعشاق الفنون التراثية ودرة كامنة بين صفوف المحال، وضع لبنتها الأولى الطبيب المهاجر إبرهيم قاسيسية منذ مايقارب العقد من زمان، بإيعاز من وزارة الهجرة المصرية التي دعت علماء مصر ورجال أعمالها في المهجر العودة لبناء وطنهم ورفع شأن أخوانهم، فهب دكتور إبراهيم كغيره لمد يد العون للشباب ورد الجميل للوطن، عين قاسيسة الدكتور يوحنا سمير حاسًا أمينًا على الحلم فكان سمير فارسًا برتبة نبيل يزود عن الحرف التراثية في وجه الإندثار ويناضل يدًا بيد مع أهالى حي الجمالية لرفع غشاوة الجهل بتراث الأمة عن أعينهم وتوفير فرص عمل لهم بمرتبات مجزية داخل المدرسة.
تشربت العروق بهوى النحاس
منذ نعومة أظافره وعبر الصبا وحتى شب عن الطوق، جرى حب النقش على النحاس وتطعيمه بالمعادن في أوردة عائلة الحاج عبد المقصود وأنساب بين الحشى فاستقر في القلب حتى غزت خيوط الشيب رأس عم مجدي واستقرت به، جُبل على هوى النحاس ونقش في فؤاده كنقوش "الحاكم – الناصف – العادل – البطل"، التي تربعت على صدور شمعدنات النحاس والمباخر والأواني وطبعت على الثريات والمزهريات كما طبعت الرسوم الفارسية عليها وعلى غيرها الكثير من القطع الفريدة من نوعها التي ترك فيها عم مجدي جزءًا من روحه لتشي برحلة طويلة في عشق النحاس.
بشعر زحف قليلاً للخلف أمام هجمات الصلع، يجلس عم مسعد عبد المقصود، شقيق عم مجدي الأكبر ونديمه، يتدثر بالحنكة وتتلحف ملامحه بوجاهه تخفي سنه لكن قسماته التي ترافقها أخاديد تركها مرور السنين تشي بالحقيقة، تسقط نظارته على أنفه الأفطس فتضفي مزيدًا من السحر إلى هيئته، كفارس من العصر الفاطمية يحمل في يده مطرقة صغيرة يحفر بها خنادق دقيقة على صفحة طبق من النحاس يقبع على طاولة أمامه في مرحلة تسمى النقش يستعين فيها بمسمار النقش ليحدد ما رسمه أولاً بالقلم وماصنعه من دوائر بالبرجل، ثم تأتي مرحلة التطعيم أو التخفيف والتي يعول فيها على قلم التسنين لإيجاد مستقرًا للفضة، وقديمًا مستودعًا الذهب ومؤخرًا الألومنيوم، بين حفر النحاس.
لا تستأثر قطعة دون أخرى بإستحسان عم مسعد لما صنعت يده؛ فهو كالاعب العنيد يجابه التحديات ويطوع موهبته ويروض مزاجه لتظل كل ما يخرج من تحت يديه أحلى من سابقه، يستغرق صغيرها منه 4 أيام لإنجازها بينما يواصل العمل على كبيريات القطع لمدة قد تصل 4 أشهر، لتصبح من بعدها قطع خالدة عبر الزمن إذا ما سلبتها السنون سيئًا من لمعانها أو شحبت أعادت مادة الكبرتيك الملمعة المفقود في ثوانٍ، على عكس أشكال "الزنجوجراف" والتصوير بالليزر المعتمدة على الماكينات.
وفي جيل النحاسين الجدد، استاثرت النساء بفن الرسم على النحاس وتطعيمه، وأضحت النحاسات ملكات متوجات على عرش واحدة من المهن التي ظلت حكرًا على الجنس الخشن لقرون بعيدة، فنافست النساء القوة العضلية بالحنكة وغلب صبرهن تحمل الرجال لمشقة هذا الفن، فتتلمذت العشرات من بنات وفتيات الحي على يد شيوخ عائلة الحج عبد المقصود؛ عم مسعد وعم مجدي.
انحسار الطلب وقلة العرض تزلزل مكانة النحاس
وبينما انحسر رماد الاضطرابات التي نشبت في عدد من الدول العربية خلال العقد الأخير، كاشفًا عن قلة يسيرة من هواة اقتناء النحاس فقابل انخفاض الطلب تدني في كمية المعروضات، وما لم تلتهمه الحروب قضى عليه غلاء الأسعار ليتجاوز سعر كيلو النحاس الألف جنيه متضاعفاً عن سعره في نفس الوقت من العام الماضي، فيما وصل جرام الفضة إلى 55 جنيه متقدمًا عن متوسط سعره العام الماضي بنحو 40 جنيه، فما لبث أن تحولت أسعار القطع إلى أرقام متضاعفة، واكتفى عشاق المعدن النفيس بالارتشاف من نبع جماله بالنظر ثم تسبل أعينهم في أسى راحلين، إلا من قلة من جامعي التحف ومحبي المقتنيات لإسلامية الذين ينجحوا في الاستحواذ على قطعة أو اثنين.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: النحاس غلق ورش مسعد عبد المقصود المعز لدين الله الفاطمي جرام الفضة فرص عمل الاضطرابات عبد المقصود
إقرأ أيضاً:
شاهد.. اجتماع تنظيمي حاشد لأمانة أول المحلة لمناقشة قضايا وهموم المواطن
أقامت أمانة اول المحلة الكبرى اجتماعها التنظيمي الشهري لجميع تشكيلات الأمانات النوعية بحضور أمين أول المحلة الدكتور مسعد البلقيني، والأمناء المساعدين، ومحمد هاشم، أمين التنظيم، وجميع الأمناء النوعيين بتشكيلاتهم، وبحضور النائب المهندس محمود الشامي، عضو مجلس النواب.
بدأ الاجتماع بالسلام الجمهوري ثم تلاه ترحيب بالتنظيمين من أمين التنظيم.
واستهل الدكتور مسعد البلقيني كلمته بالترحيب بالنائب والأمناء النوعيين بتشكيلاتهم، كما أثنى على حرص الأمناء على حضور الاجتماع والتواجد، وشكرهم على الروح العالية والتي تثبت أنهم على قلب رجل واحد.
كما أثنى على التشكيلات الجديدة التي تعكس مدى قوة حزب مستقبل وطن.
وتم فتح باب النقاش لبعض الموضوعات التي تهم الشارع المحلاوي، وتقديم بعض الاقتراحات التي تفيد المواطن المحلاوي.
وفي نهاية اللقاء، شكر الدكتور مسعد البلقيني الحضور، كما تم إعطاء بعض التعليمات والتكليفات التي تخدم الصالح العام.
كما تم تكريم أمانة الصحة متمثلة في الدكتورة فاطمة صقر، أمينة الصحة أول المحلة، كبطلة شهر ديسمبر، وذلك للجهد المبذول والفعاليات الخدمية التي أقامتها الأمانة على مدار الشهر.