لجريدة عمان:
2025-07-11@22:43:24 GMT

في عتبات الحديث عن تحولات الهوية..

تاريخ النشر: 12th, August 2023 GMT

تبدو مسائل الهوية وتحولاتها من أبرز الثيمات في المجتمع الإنساني التي يتم إعادة الحديث حولها والتفكير بها (سوسيولوجيًا) مع كل حدثٍ عابر للحدود، سواء أكانت أزمة سياسية، أو تقانة اتصالية، أو حربًا باردة، أو اعتبارها تحولا اقتصاديا. يعود نقاش المجتمعات للهوية ذلك أنها بإيجاز الطريقة التي تعبر بها المجتمعات والأفراد عن أنفسهم.

أو كما يُعرفها ريجارد كنجز كونها: «تصورنا حول من نحن، ومن الآخرون، وكذلك تصور الآخرين حول أنفسهم وحول الآخرين». إذن في ظاهرها تبدو الهويات متغيرة، يحركها التفاعل الاجتماعي، وتتشكل معانيها حول مواقف المجتمعات في كليتها حول الأحداث والتفاعلات والتموضع الذي يقع فيه المجتمع من مجمل الأحداث والتحولات المحيطة به. ولكنها في المقابل هي السمة التي يُعرف بها المجتمع نفسه ويقدمها للآخر؛ وهنا تكمن جدلية الهوية في مستويات ثلاثة: الأول؛ كيف نقدم أنفسنا للآخر في سياق يفرض التغير ويتسم بالديناميكية ويصعب خلاله القبض على سمة جامعة متسقة ومتماسكة لأبعد قدر ممكن من التواتر الزمني. أما الجدلية الثانية؛ فتتصل بمستويات تعميم تلك الهوية؛ فالتضامن الاجتماعي أو «المجتمعات العضوية» كما يسميها هربرت سبنسر كانت ضامنًا للحد الأدنى من اتساق المجتمعات على نسق هوية واحدة، ولكننا نشهد اليوم نشوء عصر التفضيلات الفردية، وقبلها التفضيلات الفئوية، تلك التفضيلات لا تعني اتساعًا في رقعة وحيز الخيارات المتاحة للفرد والجماعة فحسب، وإنما تعني في وجهها الآخر تنوعًا واتساعًا في الطريقة التي يعرفون بها أنفسهم، وفي الانتماءات التي يعبرون من خلالها للمجتمع العالمي. أما الجدلية الثالثة: فتتصل بمستوى سرعة التغير والتغيير الاجتماعي، وضبط الفاعلين فيه، فتلاشي الحدود، وعبور الظاهرة الاجتماعية للقارات يعني تقلصًا في أفق ضبط الهوية، وفي القدرة على السيطرة والقبض عليها وتعريفها.

إن التفكير في الجدليات السابقة - رغم حدة التجريد فيه - مهم في تقديرنا لإيجاد منهجية واضحة للقبض على مفهوم الهوية، غير أن العتبة الأساسية التي تواجه مجتمعاتنا - وخصوصًا العربية - تبقى إشكالية إثارة الهواجس عن تحولات الهوية، دون تحديد واضح ودقيق لماهيتها وطبيعة قياسها. والسؤال هنا: مع كل هذا التاريخ المعرفي من الحديث عن الهوية سواء في علم الاجتماع أو التأريخ أو الأنثربولوجيا أو الفلسفة هل هناك أفق يمكن الاعتداد به لقياس الهوية؟ والإجابة في تقديرنا تعتمد على سؤال أسبق لهذا السؤال، وهو لماذا نريد قياس / تشخيص / معرفة وضع هوية ما في وقت معين؟ هل لأنها باتت تفرز سلوكيات معينة غير مرغوبة في سياق الحيز الاجتماعي؟ أم أنها استعصت على سيطرة الأعراف والضوابط الاجتماعية؟ أم لأنها قلصت مساحة التفاعل والاتصال في حيز مجتمع معين؟ أم لأنها أنشأت أعرافا وقيما ومفاهيم جديدة وعصفت بمفاهيم قائمة؟ أم لأننا نريد أن نوظفها في سياق مشروع تنموي معين؟ تتعدد المآرب التي تدفع أي فاعل سواء كان علميا/ سياسيا لتشخيص حال الهوية، ومع كل غرض من الأغراض سالفة الذكر ستتغير الطريقة التي يدور فيها النقاش حول الهوية، وتتغير الطرق التي يمكن من خلالها تشخيص أوضاعها وأحوالها. إن تحول العلم الإنساني من صيغته التأملية الفلسفية المجردة إلى حالة (القياس والتجريب) أتاح عديد الأدوات والمداخل لقياس مختلف المفاهيم التي كانت في وقت سالف مفاهيم فلسفية خالصة. ولعل أهم أدوات قياس وتشخيص الهوية يمكن من خلالها الأدوات التي تستهدف:

- قياس اعتقادات الأفراد تجاه قضايا معينة تمس الهوية.

- قياس تصورات الأفراد تجاه مكونات الهوية.

- قياس سلوكيات الأفراد التي يفترض أنها تعبر عن أحد مكونات الهوية.

لن تعطينا هذه المقاييس صورة مؤكدة وتعريفًا دقيقًا للهوية الاجتماعية، لكنها ستساعدنا على أقل تقدير في الكشف عن إشارات لتحولات الهوية وديناميكيتها ومؤثراتها، ومصادر التغير فيها، والفواعل الأساسية التي تسهم في تأثيرها. فمن سلوك الأفراد في المداومة على ارتياد المجالس العامة، إلى التحول في تركيب الأسرة من الأسر الجامعة إلى الأسر النواة ثم النووية وتفضيلات الأفراد ومفاهيمهم حيال ذلك، إلى الطريقة التي يتصور بها الأفراد مواقفهم إزاء القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية في محيطهم، إلى الطريقة التي يتعامل بها الأفراد مع فئات اجتماعية معينة كل تلك أبعاد يفترض أنها معبرة عن هوية ما، نريد قياسها وتشخيصها، وقياس التحول الطارئ عليها. غير أن المشاهدة العيانية وحدها لا يمكن الوثوق بها وتعميمها. ولذلك وجب التحول إلى أدوات العلم والمنهج - ما دامت تتيح قياسًا منهجيًا - وإن كان يعطي دلالات (ملامح) أولية. إن عتبة التحول العالمي في الهوية هو ما يُعبر عنه يريندسن بالقول : «كلما اكتشف الناس العالم والثقافات الأخرى، كلما أدركوا أن الناس جميعًا هم بشر مثلهم وأن مجرد ملاءمة صندوق معين لم يعد كافيًا للاحترام. يتم استبدال الهويات القديمة تدريجياً بالهوية العالمية، بناءً على فكرة أن الجميع متساوون. لم يعد الناس يعتمدون على التفضيل السياسي أو المهنة أو الوضع الاجتماعي لوالديهم، ولا على دين قريتهم أو الفخر القومي القديم أو الضغائن ضد البلدان الأخرى. إذا أراد أي شخص أن يكون ذا قيمة أكبر، فعليه أن يكسبها من خلال أفعاله الشخصية وإنجازاته في الحياة».

في السياق المحلي، وفي ظل كون مسائل «الهوية» تتخذ حيزها في المشروع التنموي الجامع (رؤية عُمان 2040)؛ فإننا نرى بأهمية وجود محاولة أولية لتطوير مسح للهوية الاجتماعية؛ يعتمد على المحددات الثلاثة التي ذكرناها أعلاه، ويطبق بصفة دورية (كل 3 - 4) أعوام لقياس التحولات الناشئة على موضوعاته. يمكن أن يتناول هذا المسح أبعاد الهوية في 5 مجالات أساسية: (الثقافة والإرث - العلاقات والتفاعل الاجتماعي - الدين - القيم والأعراف - العلاقة بالآخر). ويمكن بناء المسح بطريقة منهجية تستهدف قياس (التصورات والمعتقدات - المواقف والاتجاهات - السلوكيات والممارسات) التي تستطيع الكشف عن الشق الممارس والمتصور للهوية. ولاحقًا ما يطرأ عليها من تحولات في سياق التطبيق الدوري لمكونات المسح؛ وهو ما نعتقد أنه سيوفر أداة علمية للنقاش حولها، وللبحث، وتطوير المبادرات والبرامج القائمة على الأدلة، وتوصيف وتشخيص الهواجس (الفعلية) لا (المفترضة) في سياق الحديث عن الهوية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الطریقة التی فی سیاق قیاس ا

إقرأ أيضاً:

فن الحديث في النقاط الملتهبة داخل الأقسام العلمية

لا يمكن إغفال ما يُناط برؤساء الأقسام العلمية في الجامعات من مهام وواجبات جسيمة، وما يبذلونه من جهود تنظيمية وتنسيقية، تتطلب قدرًا كبيرًا من الصبر والحكمة. وهي جهود قد لا تُرى دائمًا على السطح، لكنها تلامس في العمق واقع العمل اليومي. ورغم دقة هذه المهام، فإنها كثيرًا ما تصطدم بإرادات فردية متباينة، أو أنماط تواصل غير متكافئة من بعض أعضاء هيئة التدريس، لتتكشف حقيقة أن تعثر الكثير من القرارات لا يعود إلى ضعف القيادة، بل إلى التباين في الرؤى، أو رغبات شخصية غير معلنة، لكنها تُعيق التوافق من حيث لا يُحتسب.
ويكشف الواقع الأكاديمي عن مشاهد مألوفة من التردد أو الانسحاب الصامت خلال اجتماعات الأقسام ومجالسها، خاصة حين تُطرح قضايا شائكة تُعرف بـ”النقاط الملتهبة”، وهي قضايا تمس مفاصل حساسة داخل القسم، وتستدعي جرأة فكرية ووعيًا أكاديميًا ونضجًا مؤسسيًا.
تتنوع هذه النقاط الملتهبة من خلافات حول الخطط والمقررات، إلى تباين في الرؤى البحثية، أو تفسيرات متباينة للأنظمة واللوائح، أو توزيع غير متكافئ للمسؤوليات الأكاديمية. بل وقد تمتد إلى اختلافات أعمق تتصل بتصوّر الهوية الأكاديمية أو العلمية للقسم. وعلى الرغم من أن هذه الخلافات طبيعية في أي بيئة عمل معرفية، فإن التعامل معها يتطلب مستوى عاليًا من الشفافية الفكرية، والرقي الأخلاقي، والانضباط الأكاديمي.
واللافت أن عزوف بعض أعضاء هيئة التدريس عن المشاركة لا يُعزى بالضرورة إلى ضعف الحجة أو قلة المعرفة، بل قد ينبع من حذر مشروع، كخشية أن تُفسّر الكلمة على غير وجهها، أو يُؤخذ الرأي على أنه اصطفاف شخصي، أو انحياز ضمني. فالبيئة الأكاديمية، رغم ما تُظهره من عقلانية، لا تخلو من حساسيات دقيقة وتوازنات ضمنية، قد تُربك الحياد وتُقيّد الصراحة.
وفي خلفية هذا المشهد، تظل بعض الترسّبات القديمة حاضرة في صمتٍ مهيب؛ لا تُعلن عن نفسها، لكنها تبثّ إشاراتها الخفيّة في ثنايا الحوار، وتُلقي بثقلها غير المرئي على مسارات النقاش. إنها ترسّبات ناتجة عن مواقف وقرارات كانت يومًا ما مفصلية في تاريخ بعض الأقسام العلمية، كقرارات تعيين لم تحظَ بإجماع، أو إجراءات مرّت وسط جدل مكتوم لم يُتح له أن يُفصح عن نفسه في حينه.
ورغم مرور الزمن، لم تَغِب تلك الظلال عن المشهد الأكاديمي، بل ظلّت حاضرة في الذاكرة الجمعية، تستدعيها المواقف الدقيقة دون استئذان، ويَشعر بها المتابع الفاحص في نبرة متحفّظة، أو تعليق عابر، أو صمتٍ ينطوي على ما هو أبلغ من القول. إنها مشاعر كامنة، ورسائل مؤجلة، لم تجد بعد طريقها إلى الطرح الصريح أو المعالجة الجادة، ولا تزال بانتظار لحظة مواجهة مسؤولة، تُنهي ما علق بها من التباس، وتفتح المجال لبيئة أكثر صفاءً ونضجًا .
ويزداد وقع هذه الترسّبات حين ترتبط بأسماء كشفت التجربة لاحقًا عن افتقارها لأبسط أدوات التأثير أو مقومات التميّز العلمي، فضلًا عن هشاشة تكوينها المهني، وغياب الخبرة الأكاديمية الراسخة؛ مما يفتح الباب لتساؤلات مشروعة حول آليات الاختيار التي أوصلت بعضهم إلى مواقع لم يكونوا مهيئين لتمثّلها بجدارة.
الأستاذ الجامعي، بما يحمله من مسؤولية علمية وتربوية، مدعو لأن يكون قدوة في الرأي والسلوك، مستقلًّا في رؤيته، ثابتًا في مواقفه، متزنًا في حضوره. لا تُقاس مكانته باتباع غيره، بل بما يملكه من رصانة فكر، واتزان نفسي، وخلق رفيع، وانضباط أكاديمي. يجمع بين العقلانية والجرأة الهادئة، ويحتكم إلى البرهان لا إلى الانفعال. فكلمة رزينة، وإن خالفت السائد، قد تُحدث أثرًا عميقًا حين تُطرح بصدق ونَفَس بنّاء .
لذلك، فإن إدارة الحوار داخل الأقسام الأكاديمية ليست شأنًا إداريًا بحتًا، ولا مسؤولية فردية عابرة، بل هي عملية جماعية تنمو بوعي الأفراد بدورهم، وتنضج حين يرتقي الجميع بأسلوبهم في الطرح والتفاعل. وبين التهوّر المندفع، والصمت المربك، تتجلّى”فضيلة الكلمة المسؤولة”؛ الكلمة التي تحترم العقل، وتفتح أفقًا للنقاش، وتُمهّد لحلول واقعية تنعكس إيجابًا على الجميع .
وهكذا، يبقى المخرج الحقيقي من توتر المواقف وتراكم الترسّبات، في ترسيخ مقومات الحوار العلميّ، واستحضار المصلحة الأكاديمية، ضمن وعيٍ عميق بما يستلزمه”فنّ الحديث في النقاط الملتهبة داخل الأقسام العلمية”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• أستاذ علم النفس بالجامعة الإسلامية.

مقالات مشابهة

  • إيطاليا تُبسّط إجراءات السفر: لا حاجة لإبراز الهوية في بعض الرحلات
  • الدنمارك تصدر قانوناً لحماية ملامح وأصوات الأفراد من التزييف
  • "شمس" تطلق مبادرة بيئية لإشراك الأفراد في إعادة تأهيل الشعب المرجانية
  • تحولات تاريخية فارقة.. محطات مشرقة في مسيرة التميز بجامعة كفر الشيخ
  • “على حِسب الريح”.. خليل المصري يوثّق سيرة فردية تتقاطع مع تحولات وطن
  • الأحوال المدنية: يمكن الاحتفاظ ببطاقة الهوية الوطنية أو سجل الأسرة عند التعويض عنها
  • الضريبة على دخل الأفراد هل العائد منها يسوغ تطبيقها؟
  • “المواصفات السعودية” تدعو الأفراد مستوردي المركبات إلى التحقق من مطابقتها للاشتراطات عبر منصة “سابر”
  • محمد تقي :الحديث عن ⁧‫الهلال‬⁩ شّرف وتشريف لنا جمعياً.. فيديو
  • فن الحديث في النقاط الملتهبة داخل الأقسام العلمية