المحاولات الفاشلة والناجحة لحل الحزب الشيوعي السوداني ذو النفوذ النقابي القوي ودوافعها الرئيسية: ماذا يريد الحزب الشيوعي في السودان؟ (2 من 3)
تاريخ النشر: 2nd, October 2024 GMT
د. عبد المنعم مختار
أستاذ جامعي متخصص في السياسات الصحية القائمة على الأدلة العلمية
خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، واجه الحزب الشيوعي السوداني العديد من المحاولات لحظره أو حله، سواء أكانت ناجحة أم فاشلة. وقد تميزت تلك المحاولات بصراع عنيف بين القوى السياسية الداخلية، خاصة بين الأحزاب التقليدية والإدارات الأهلية من جهة، والحزب الشيوعي والأجسام النقابية التي كان يسيطر عليها من جهة أخرى.
المحاولات الفاشلة
1. قانون قمع النشاط الهدام (1953-1954): في نهاية عام 1953، اقترح الحاكم العام البريطاني في السودان قانون قمع النشاط الهدام، وهو قانون يهدف إلى محاربة التيارات التي اعتُبرت تهديدًا للاستقرار السياسي، بما في ذلك الشيوعية. تم طرح هذا القانون على البرلمان السوداني في فبراير 1954، لكنه قوبل بالرفض بإجماع الحزب الحاكم (الوطني الاتحادي) وأحزاب المعارضة. جاء هذا الرفض نتيجة لإدراك الأحزاب السياسية المختلفة لخطورة القانون على الحريات العامة وعليها. ولذلك، رفضت جميع أحزاب المعارضة والحزب الوطني الاتحادي، الحاكم منفردًا آنذاك، إجازة تشريع يستهدف بشكل مباشر نشاطات سياسية معترف بها في البلاد، بما في ذلك نشاط الحزب الشيوعي السوداني.
2. قانون محاربة الشيوعية (1954): بعد فترة وجيزة من رفض قانون قمع النشاط الهدام، ظهرت فكرة قانون محاربة الشيوعية في أواخر عام 1954 داخل الحكومة السودانية الانتقالية، وأعلن وزير العدل آنذاك علي عبد الرحمن نية الحكومة الدفع بالقانون إلى البرلمان في نوفمبر. كانت هذه الفكرة موضوع نقاش داخل الحكومة، لكنها لم تحصل على إجماع داخلها رغم أن هذه الحكومة كانت غير ائتلافية، إذ قادها الحزب الوطني الاتحادي بزعامة إسماعيل الأزهري منفردًا. أيضًا، أصدرت ما سُمي حينها بالهيئة الشعبية للدفاع عن الحريات، والتي ضمت حزب الأمة القومي، الحزب الجمهوري، الجماعة الإسلامية، جماعة الفكر السوداني، الجبهة المعادية للاستعمار (الحزب الشيوعي لاحقًا)، اتحاد عام عمال السودان، اتحاد مزارعي مشروع الجزيرة، ومحمد أحمد محجوب (زعيم المعارضة في البرلمان)، وثيقة رافضة لقانون محاربة الشيوعية. كما تم تداول فكرة محاربة الشيوعية بين قيادات حكومية وقيادات بريطانية. الجدير بالذكر أن معظم الجهات البريطانية التي استشارها يحيى الفضلي، وزير الشؤون الاجتماعية آنذاك، أوصت بعدم اللجوء لإجراءات قانونية لإضعاف الشيوعية في النقابات، ونصحت بالسياسات التنموية التي تنتج رضا قواعد النقابات، وبالتالي تبعدها عن النفوذ الشيوعي. عمومًا، على الرغم من أن هذه المحاولات لم تصل إلى التنفيذ العملي، إلا أنها كشفت عن مدى المخاوف التي كانت موجودة لدى بعض القوى السياسية من تنامي نفوذ الحزب الشيوعي في تلك الفترة، خاصة في الأوساط النقابية.
دوافع المحاولات الفاشلة وأسباب فشلها
كانت معارضة الحزب الشيوعي الصارخة لاتفاقية الحكم الذاتي التي قادت لاستقلال السودان، وضغط الحزب على حكومة الأزهري الأولى إبان الانتقال السابق للاستقلال، من خلال تهديد النقابات والاتحادات المهنية التي يسيطر عليها الحزب، خاصة نقابة عمال السكك الحديدية، اتحاد نقابات العمال، واتحاد مزارعي مشروع الجزيرة، بالإضرابات، من الدوافع الرئيسية لتحرك حكومة الأزهري في الفترة الانتقالية الأولى (1954-1956) لإصدار قانون بديل لقانون قمع النشاط الهدام. إذ اعتبرت جميع الأحزاب السياسية أن قانون قمع النشاط الهدام فضفاض وقابلًا للإساءة في كبت حريات كثير من الأحزاب والهيئات السياسية. لذلك، كان الهدف من أي قانون بديل هو محاربة الحزب الشيوعي وحظر أنشطته بهدف تقليص نفوذه السياسي، خاصة في النقابات والاتحادات، مع عدم تضييق الحريات السياسية للأحزاب الأخرى. الجدير بالذكر هو ظهور اتهام من شيخ العلماء للحزب الشيوعي بإصدار منشور عن حادثة الإفك به إساءة لبيت الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في أكتوبر 1954، وهو الأمر الذي قام الحزب بنفيه. وعندما قام أحد المصلين في صلاة جمعة بمسجد أنصار حزب الأمة القومي بمحاولة للتأجيج حول هذا المنشور، تصدى له الإمام عبد الرحمن المهدي في حينها ونجح في التهدئة.
أما أسباب فشل محاولة الحل عبر قانون محاربة الشيوعية فيرجع، كما فصلنا أعلاه، لمعارضة معظم قوى المعارضة للقانون، وعدم وجود إجماع حتى داخل الحكومة حوله.
المحاولة الناجحة
1. حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان (1965):
في نهاية عام 1965، تمكنت القوى السياسية المناهضة للحزب الشيوعي السوداني من النجاح في حله وطرد نوابه من البرلمان. استغلّت الأحزاب السياسية المنافسة، وهي الحزب الوطني الاتحادي، وجبهة الميثاق الإسلامي، وحزب الأمة القومي، حادثة إساءة دينية تتعلق بقصة الإفك، والتي صدرت عن عضو سابق في الحزب الشيوعي في نوفمبر 1965، لدفع تعديل دستوري عبر البرلمان. ونتيجة لذلك، تم حل الحزب الشيوعي رسميًا وطرد نوابه بسرعة في ديسمبر 1965.
للمزيد من التفاصيل حول هذا الحدث، يُرجى الرجوع إلى مقال عبد الله علي إبراهيم بعنوان "نوفمبر حل الحزب الشيوعي (1965): ما حلونا وانحلو لا أيدهم لا كراعهم"، المنشور في 17 نوفمبر 2018. يتناول المقال كيفية استغلال القوى السياسية لهذه الحادثة لتحقيق التعديل الدستوري، ويبرز توظيف الدين في السياسة خلال تلك الفترة.
الجدير بالذكر أن محمد أحمد محجوب، الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء آنذاك، هو من بادر بالإجراءات التشريعية في البرلمان لحل الحزب الشيوعي. المثير للاهتمام أن محجوب كان قد عارض تشريعًا مشابهًا في عام 1954، مما يعكس التحولات في مواقفه السياسية بمرور الزمن.
كان هذا الانتصار السياسي للأحزاب التقليدية ضد الحزب الشيوعي واحدًا من أكبر الضربات التي تعرض لها الحزب في تاريخه. لقد أثر هذا الحدث بشكل كبير على مكانة الحزب في المشهد السياسي السوداني، وساهم بشكل كبير في دفع الحزب الشيوعي للمشاركة في الانقلاب العسكري على الديمقراطية في مايو 1969.
دوافع المحاولة الناجحة وأسبابها
الدافع الرئيسي لحل الحزب الشيوعي السوداني في ديسمبر 1965 كان، في تقديري، يعود إلى مساعي الحزب الشيوعي السوداني في فبراير من نفس العام لتصفية الإدارات الأهلية عبر مذكرة الشفيع أحمد الشيخ. في ذلك الوقت، كان الحزب الشيوعي يتمتع بنفوذ كبير في الحكومة الأولى التي أعقبت ثورة أكتوبر 1964، وذلك عبر واجهاته السياسية وحلفائه في جبهة الهيئات. وقد أشار أحمد إبراهيم أبو شوك إلى هذه الأجواء في قوله: "في ظل هذا التراجع (من قبل الحكومة آنذاك)، نشطت تحركات زعماء الإدارة الأهلية الذين كثفوا اتصالاتهم برؤساء الأحزاب التقليدية، واتفقوا معهم على تجميد قرار التصفية، شريطة أن يعملوا سويًا على إسقاط مرشحي القوى الحديثة في الانتخابات القادمة، ويكوِّنوا حكومة ديمقراطية ترعى مصالح الطرفين، وتدرس مشروع التصفية وتضع التصور اللازم لتطوير أجهزة الإدارة الأهلية. وبهذه الكيفية، أضحى شعار تصفية الإدارة الأهلية شعارًا ذا حدين في الحملة الانتخابية، حيث دفع من طرف بعض القوى الجماهيرية الرافضة لهيمنة الإدارة الأهلية وزعماء العشائر إلى مناصرة القوى الحديثة، بغية الانعتاق من هيمنة رجالات الإدارة الأهلية، ومن طرف ثانٍ أسهم في توثيق عرى الترابط بين القوى الطائفية والقيادات القبلية، لأن كلا الطرفين أدرك أن استمرار بقائه في السلطة على المستويين المحلي أو المركزي مرهون بفاعلية تعامله المصلحي مع الآخر" (أبو شوك، 2009).
الجدير بالذكر أيضًا المواجهات المباشرة بين الحزب الشيوعي وحلفائه النقابيين من جهة، وحزب الأمة القومي والحزب الوطني الاتحادي وجبهة الميثاق من جهة أخرى. بدأت تلك المواجهات عندما قام وزير الاستعلامات والعمل خلف الله بابكر، وهو أحد حلفاء الحزب الشيوعي، في 2 فبراير 1965 ببث خطاب تحريضي عبر الإذاعة، اتهم فيه الأحزاب بالعمل ضد الثورة، ودعا "الجماهير" إلى عزلها. كان ذلك الخطاب جزءًا من صراع الحزب الشيوعي لتأجيل الانتخابات وتعديل دوائرها الانتخابية لصالحه، حيث دعا، دون نجاح، إلى تخصيص نصف المقاعد للمزارعين والعمال، لكنه نجح في تمكين المرأة من حق الانتخاب، وفي إعادة دوائر الخريجين وزيادة عددها. وقد أثار هذا الخطاب أزمة داخل الحكومة، ما دفع رئيس الوزراء إلى تقديم اعتذار رسمي.
تبع الخطاب التحريضي بعد أسبوع ما عُرف بأحداث "ليلة المتاريس" والاعتداء على السفارة الأمريكية في الخرطوم في 9 فبراير 1965، وهو فعل سياسي نظمه الحزب الشيوعي، وثبت لاحقًا عدم صحة الادعاءات التي بُني عليها.
أدى هذا التصعيد السياسي العنيف لفظيًا والسعي الحثيث للتغيير الراديكالي من قبل الحزب الشيوعي وواجهاته وحلفائه عبر سلطة الحكومة إلى رد فعل مضاد من الأحزاب التقليدية، التي حشدت قواها الجماهيرية في العاصمة، بدعم خاص من الأنصار القادمين من الأقاليم. وأسفرت هذه التحركات، والعنف الذي صاحبها في العاصمة، عن إعلان حالة الطوارئ وحل الحكومة الأولى في 18 فبراير 1965، بعد أربعة أشهر فقط من تشكيلها.
لاحقًا، وفي ظل حكومة ذات أقلية يسارية، وقعت حادثة الإساءة الدينية الشهيرة في نوفمبر 1965، التي ارتكبها عضو سابق في الحزب الشيوعي. استغلت الأحزاب المنافسة هذه الحادثة لإقصاء الحزب الشيوعي من الساحة السياسية. عبر تعديل الدستور، تمكن البرلمان من حل الحزب الشيوعي بأغلبية الثلثين. يجدر التأمل هنا في أن تلك الإساءة الدينية كانت تدور حول نفس حادثة الإفك التي أثيرت في أكتوبر 1954، والتي نفى الحزب الشيوعي حينها علاقته بها.
هذه الحادثة، في تقديرنا، كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر الحزب، الذي بادر إلى معاداة الأغلبية الشعبية والبرلمانية من خلال سيطرته على حكومة سر الختم الخليفة الأولى. لم تنجح محاولات الحزب في فرض أجندة التغيير الجذري من خلال العنف الثوري في "ليلة المتاريس"، أو من خلال التحريض الإذاعي، أو حتى عبر مذكرة تصفية الإدارة الأهلية. بل أدى هذا التصعيد إلى توحد القوى التقليدية ضد الحزب، مما أدى إلى حله.
الخاتمة
يتضح من هذه المحاولات أن الحزب الشيوعي السوداني كان مستهدفًا بشكل متكرر من قبل القوى السياسية المختلفة، سواء عبر التشريعات أو التحركات البرلمانية. يمكن قراءة هذا الاستهداف كرد فعل سياسي على معارضة الحزب الشيوعي العنيفة لاتفاقية استقلال السودان، وسعيه لاستغلال جهاز الدولة لحل الإدارات الأهلية ولتأجيل وتشكيل الانتخابات. وعلى الرغم من أن بعض هذه المحاولات فشلت في تحقيق أهدافها، إلا أن محاولات أخرى نجحت في تقييد نشاط الحزب، مثل حادثة حله وطرد نوابه من البرلمان في عام 1965. يعكس هذا التاريخ الصراع المستمر بين التيارات السياسية المختلفة في السودان حول طبيعة النظام السياسي ودور الأحزاب ذات التوجهات الفكرية المختلفة، مثل الحزب الشيوعي، في صياغة المستقبل السياسي للبلاد.
في الجزء الثالث من هذا المقال، سنتناول مواقف الحزب الشيوعي السوداني أثناء الفترة الديمقراطية الثالثة (1985 – 1989) وأثناء الفترة التالية لثورة ديسمبر 2018.
المراجع الرئيسية
رباح الصادق. حزب الأمة القومي وحل الحزب الشيوعي السوداني 1965. 17 يونيو 2020. تم الحصول عليه يوم 26 سبتمبر 2024 على الموقع التالي: www.academia.edu
أحمد إبراهيم أبو شوك. الدكتور عبد الله علي إبراهيم ومذكرة الشفيع أحمد الشيخ عن الإدارة الأهلية (1 – 3). سودانايل.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحزب الشیوعی السودانی الحزب الوطنی الاتحادی الإدارة الأهلیة الحزب الشیوعی ا القوى السیاسیة الجدیر بالذکر هذه المحاولات داخل الحکومة الأمة القومی فی السودان من خلال من قبل من جهة
إقرأ أيضاً:
الموت بالوكالة: كيف صار الشعب السوداني رهينةً لسلطتين قاتلتين؟
في البدء، كان الحلم هشًّا، يتنازعه الواقع والممكن، بين دولة لا يحكمها العقل وجيوش يحكمها الرعب. لم يكن السودان يومًا استثناءً في سياق التراجيديا التاريخية التي صنعتها الجيوشُ العربية منذ أن تحولت من مؤسساتٍ وظيفية إلى كياناتٍ فوق الدولة، تمارس السلطة دون مساءلة، وتحكم دون أن تُحاكم.
لكن في هذا البلد، كان للعسكر وجوهٌ كثيرة، كلٌّ منها أكثر فتكًا من الآخر، حتى أصبح المواطن السوداني، ذاك الكائن المعذَّب، رهينَ طاحونةٍ تدور برؤوسٍ متشابكة، إحداها الجيش الذي خنق الدولة منذ 1956، والأخرى مليشيا خرجت من رحم التوحش وصارت قوة تنازع الطاغية ذاته على سلطانه، في مشهد عبثي تتداخل فيه الأدوار بين الجلاد والضحية، حتى بات الوطن كله رهينةً بين المطرقة والسندان.
بدأت السردية القاتلة منذ أن استيقظ السودان المستقل على حقيقة أنه لم يُخلق ليحكم نفسه، بل ليكون حقلَ تجاربٍ لأوهام الضباطِ الذين قرأوا نصفَ كتبِ القوميةِ العربية، وظنوا أن الشعب صفحةٌ بيضاءُ قابلةٌ لإعادة التشكيل وفق أوامرِ القيادةِ العامة.
الفريق عبود، أول الطغاة، جاء كظلالٍ ممتدة لجيوشِ ما بعد الاستعمار، حيث لم يكن الاستقلالُ سوى قناعٍ رثٍ لاستعمارٍ داخلي أكثر فجاجة. ثم تلاهُ نُميري، العائد من شطحاتِ البعثِ الماركسي إلى خرافاتِ الهوسِ الديني، في مسيرةٍ عكست هشاشةَ السرديات التي حاول العسكرُ تسويقها، والتي انتهت إلى أن الشعب ليس سوى متغيرٍ ثانوي في معادلة الحكم.
لكن اللعبةَ الأكثر فجاجةً كانت في 1989، حين اختُزلت الدولةُ في معادلةٍ وحيدة: الإسلاميون والجيشُ كيانٌ واحد، والحربُ على المواطنِ أصبحت معركةَ استئصالٍ مفتوحة.
هنا، بدأ الجيش في التحول إلى عصبةٍ متآمرة، حيث لم يعد مجردَ قوةٍ تحكم باسم الدولة، بل صار جهازًا أيديولوجيًا يعمل لتصفية أي مشروعٍ خارج ثنائية “الطاغية المخلص” و”العدو الوجودي”. كانت الإنقاذُ لحظةَ التحامِ القمعِ المقدسِ مع السلاحِ الدنيوي، حيث أصبح الوطنُ مجردَ ساحةٍ تُعادُ هندستها وفق أوهامِ البقاءِ الأبدي.
في تلك اللحظة، وُلدت المليشيات.
وجيف الخطى الأولى ظهرت في دارفور، حيث اختُزلت الدولةُ في معسكراتِ الموت، وتحولت الجيوشُ النظاميةُ إلى أشباحٍ تراقبُ المذابح من بعيد. ومن رماد الجنجويد، خرجت قوات الدعم السريع، كظلٍّ كثيفٍ لنظامٍ أفرط في صناعة الوحوش، حتى كادَ يُبتلع بها.
حميدتي، بائع الإبل الذي صعد من ثقافة الغزو البدائي، أصبح رجل الدولة بامتياز، في استعارةٍ فظةٍ لصعود العوامِ المسلحين في الإمبراطورياتِ الآفلة. هنا، لم يكن الصراعُ مجردَ لعبةِ سلطة، بل كان إعادةَ توزيعٍ للقوةِ خارج أطرها التقليدية، حيث أصبح الموتُ رأسمالًا قابلًا للمساومة، وصارت الحربُ استثمارًا مفتوحًا، بمدخلاتِ الذهبِ ومخرجاتِ الخراب.
حين انفجرت الحرب في 15 أبريل 2023، لم تكن سوى لحظةٍ حتمية في سياقٍ بدأ منذ أن تخلّى الجيشُ عن كونهِ مؤسسةً وطنية، وأصبح مجردَ أداةٍ لصناعةِ الطغاة. لكنها كانت أيضًا إعلانًا لانهيارِ النموذجِ نفسه، حيث لم يعد بالإمكان إخفاءُ هشاشةِ الدولةِ خلفَ أستارِ البيروقراطيةِ العسكرية. الجيشُ الذي كان يُراد له أن يكون درعَ الدولة، أصبح شبحًا يتآكل من داخله، والدعمُ السريع، الذي أُنشئ كأداةِ قمع، أصبح دولةً صغيرة داخل الدولة، حتى خرجت الأمور عن نطاق السيطرة.
لا شيء يعبر عن هذه اللحظة أكثر من أصواتِ الخرطومِ المنكوبة، حيث تحوّلت المدينة إلى أطلالٍ تتردد فيها أصداءُ الأسئلة التي لم تجد إجابة: من يحكمُ السودان؟ هل هو الجيشُ الذي صار ظلًّا لنفسه؟ أم المليشياتُ التي خرجت من رحمِ الفوضى وأصبحت القوةَ الوحيدةَ القادرةَ على فرضِ معادلاتها؟ أم أن البلادَ محكومةٌ بمنطقِ الحربِ الدائمة، حيث الدولةُ مجردُ مرحلةٍ عابرة بين معركتين؟
إذا كان ماركس قد تحدث عن “الدولة كأداةٍ للقمع الطبقي”، فإن السودان يقدم نموذجًا أكثر تعقيدًا، حيث الدولةُ لم تعد موجودةً أصلًا، والقمعُ أصبح مُوزّعًا بين عدةِ أقطابٍ، كلٌّ منها يحاولُ أن يؤسسَ روايتهُ الخاصة.
الأمر ليس صراعًا بين سلطةٍ وشعب، بل بين عدةِ سلطاتٍ، كلٌّ منها ترى في الشعب مادةً خامًا لإعادةِ التشكيل.
هذا ما يُفسرُ لماذا تحولت المليشياتُ إلى كياناتٍ اقتصاديةٍ ضخمة، ولماذا أصبح الجيشُ نفسه طرفًا في تجارةِ الحرب، حيث لا أحد يرغبُ في إنهاءِ النزاع، لأن النزاع ذاتهُ أصبح مصدرَ الشرعيةِ الوحيد.
لكن المأساةَ الحقيقية ليست في القتلةِ فحسب، بل في الذين ما زالوا يبحثون عن تبريرٍ أخلاقي لهذه الفوضى. هنا، تأتي السردياتُ التي تحاولُ اختزالَ الأمرِ في “حربٍ بين معسكرين”، وكأن هناك حقًا معسكرًا يمثلُ الشعب. الحقيقةُ أن الشعبَ السوداني، الذي ظلَّ لعقودٍ محاصرًا بين الطغاةِ والجلادين، لم يعد طرفًا في المعادلة. لقد صار مادةً للفرجةِ في مسرحيةٍ دمويةٍ تُعيد إنتاج نفسها بوجوهٍ مختلفة، لكنها تحتفظُ بالحبكةِ ذاتها: الوهمُ، القمع، ثم السقوط.
عبد الخالق محجوب، الذي قُتل لأنه رفض أن يرى في الجيشِ حليفًا، كان يُدركُ أن العسكرَ لا يصنعون الثورات، بل يُجهضونها. غرامشي، الذي تحدث عن “الهيمنة” كأداةٍ لصياغةِ الوعي، كان ليجدَ في السودانِ نموذجًا فريدًا لهيمنةٍ لم تُصنع عبر الأفكار، بل عبر الرصاص. وبين هذا وذاك، يظل المواطنُ السوداني، الذي اعتاد أن يكون مشروعَ شهيد، في انتظارِ أن يسألهُ أحدهم: متى تُريدُ أن تكونَ مواطنًا كاملَ الحقوق؟
لكن لا أحد يسألُ هذا السؤال، لأن في السودان، كما في كل الدول التي سقطت في قبضةِ العسكر، السؤالُ الوحيدُ الذي يُسمعُ دائمًا هو: لمن السلطة؟ وما دامت الإجابةُ تأتي بالسلاح، فإن المواطنَ لن يكونَ سوى صدىً للأقدامِ التي تجوبُ الخرطوم، بحثًا عن غنيمةٍ جديدة.
zoolsaay@yahoo.com