لجريدة عمان:
2024-11-25@04:57:54 GMT

الزمان... السردية الفلسفية والعلمية

تاريخ النشر: 12th, August 2023 GMT

يمتد بحثي في مسألة الزمان إلى سنوات طويلة ماضية، ووجدت في الفيزياء - وتحديدا فيزياء «أينشتاين» - سلوة في تفسير بعض إشكاليات مفهوم الزمان، واتجهت إلى البحث في السردية الفلسفية -التي عملت جنبا بجنب مع الفيزياء- في محاولة إلى تأسيس فهم أعمق للزمان؛ فكانت محاولتي الأولى الكتابة عن الزمان في عام 2019 في كتابي الأول «بين العلم والإيمان» بشكل مقتضب وغير مباشر عبر تطرقي لقضايا مثل التخاطر والرؤى المنامية التي يخرجها بعض العلماء من دائرة البحث العلمي، ويركنها البعض في خانة القضايا الميتافيزيقية؛ حيث -في كتابي- أقحمت التأويل الفيزيائي الفلسفي للزمان الذي يراه البعض غير مؤهل لبلوغ القطعية العلمية في تأويل هذا الشق المشكل من العلم.

تنطلق أبجديات فهمنا للزمان عبر عدة مفردات مثل الثابت والمتغير والحركة والمطلق والنسبي والمكان والزمكان، وتمثل هذه المفردات عبر تاريخ العلم منطلقات فلسفية وعلمية تناولها فلاسفة وعلماء كبار مثل «نيوتن وكانط وأينشتاين وستيفن هوكينج». عاد إليّ شغفي في إعادة طرح هذا البعد المهم -الزمان- في حياتنا الذي يتشكّل بواسطته مفهومنا للميلاد وسريان الحياة والموت؛ فكل جزء في كليات حياتنا بدءًا من لحظة الميلاد حتى الموت محكومة بقانون الزمان الذي عدّه البعض حقيقة في جوهره، ورآه البعض مجرد حركة حولّها العقل البشري إلى توقيت زمني ينتظم عبر الحركة المتغيرة. تتوارد الأسئلة الكثيرة والمعقّدة التي تخص الزمان والتي لا يرى البعض قدرة للعلم في البحث عنها، وأن الفلسفة بجرأتها -المعهودة- من الممكن أن تقترب إلى وضع التفسيرات المنطقية، ومثل هذه الأسئلة: أللزمان وجود قبل وجود المكان؟ أم تُعتمد الزمكانية لتكون بداية واحدة في وجود الزمان والمكان معا؛ حيث وجود الزمان يتطلب -ضرورة- وجود المكان والعكس صحيح؟ والزمان أهو وحدة واحدة بأزمانه الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل) أم كل زمان منفصل عن الآخر؟ هناك عدد من المحاولات والنظريات العلمية الرصينة التي حاولت أن تجيب عن هذه الأسئلة، مثل نسبية أينشتاين ونظرية الكتلة «اللبنة» الكونية، ولكن -برغم هذه الجهود العلمية- لا تزال الأسئلة تبحث لها عن إجابات حتمية؛ إذ من الصعب بلوغ درجة اليقين العلمي في حسم فهمنا المطلق لهذه الجدلية الفلسفية.

انطلقت قوانين «نيوتن» في ميكانيكا الكون عبر مبدأ الزمان المطلق والثابت، وتأثر الفيلسوف الألماني «كانط» بمبدأ نيوتن في الزمان؛ ليعلن عن تأويله الفلسفي للعقل عبر «المقولات القبْلِية» -التي تُعدّ شرطًا معرفيًا عقليًا- السابقة لكل التجارب الحسية؛ وليحسم -حينها- أكبر المشكلات الفلسفية التي كانت بين المدرسة العقلانية والمدرسة التجريبية؛ فكان الزمان من ضمن هذه القضايا الذي جاء بها «كانط» ليكون حسب المبدأ الحسي «التجريبي» مجرد حركة فيزيائية محسوسة وثابتة لكل مكان -حسب منهج نيوتن-، ويأتي دور العقل بواسطة «المقولات القبلية» «البديهية» وتحديدا «مقولة الزمان» التي تقبع «فطريًا» وليس «اكتسابًا» في العقل البشري لتعطي معنى الزمان لهذه الحركة الكونية، وتعيد تنظيمها بنظام الوقت الذي يشكّل مفهومنا للزمان؛ وبالتالي يصل «كانط» إلى فلسفة تقرر نقطة تَشكّل الزمان عند الإنسان عبر المنهج الحسي الراصد للحركة الكونية -حركة الشمس والقمر والنجوم، وتقلبات الليل والنهار والمواسم- وبوجود المسلّمة العقلية التي تحتوي على المقولات القبلية ومنها مقولة الزمان، وهنا ما نزال نرى وجود السردية الثابتة والمطلقة للزمان التي بدأها «أرسطو»، وجاء بعدها مبدأ «نيوتن» في الزمان والمكان المطلق عبورًا إلى فلسفة «كانط» المؤيدة للمنهج المطلق؛ لتتلاشى بعدها بإعلان «أينشتاين» لنظريته النسبية التي قلبت موازين مفهوم العلم والفلسفة للزمان والمكان؛ ليكون الزمكان هو المصطلح الفيزيائي الجديد الذي يعبّر عن امتزاج الزمان والمكان وفق مبدأ النسبية وليس المطلق؛ فتبدأ مرحلة علمية جديدة في تفسير الزمان تعتمد على مبدأ أن الزمان نسبي؛ إذ إن الزمان ليس ثابتا في الكون، وأن السرعة تحدد مقدار كتلة الجسم «المادة» وزمنه، وتمكن العلم من تأكيد صحة نسبية الزمان عبر معيار سرعة الضوء. تمتد مفهوم نسبية الزمان إلى خارج إطارها العلمي «الموضوعي» لتشمل ما يعرّفه البعض بـ«الزمن الوجودي» -بعيدا عن فلسفة عبدالرحمن بدوي وزمانه الوجودي- أو «الزمن الذاتي» الخاص بكل إنسان الذي يتباين الزمان فيه بشكل نسبي أيضا.

هناك رأي علمي يرى أن الكون عبر بُعد «الزمكان» عبارة عن كتلة كونية تحوي الأزمان الثلاثة «الماضي والحاضر والمستقبل»؛ مما يجعل الزمان في مجموعه -مع أزمانه الثلاثة- بُعدًا رابعًا بجانب وجود الأبعاد المكانية الثلاثة «الطول والعرض والارتفاع»، وهذا ما يتفق مع نسبية «أينشتاين». تمخضت من هذه الفكرة نظرية فيزيائية -لاقت قبولًا عند بعض الأوساط العلمية- تُعرف بنظرية «كتلة «لبنة» الكون» «Block Universe Theory»، وتقترح هذه النظرية وجود الأزمان الثلاثة في كتلة كونية واحدة؛ تتفاعل فيها الأبعاد المكانية الثلاثة مع الأزمان الثلاثة لتشكّل الوحدة النسبية المشهورة «الزمكان» التي تقرر وجودنا في كتلة تحوي الأزمان الثلاثة في زمن واحد، حيث إن كل الأحداث موجودة داخل هذه الكتلة الكونية بشكل مسبق، وأن أحداثنا الحالية هي حاضرنا، والأمس حاضرنا الذي تجاوزناه، والمستقبل حاضرنا القادم؛ ففقط موقعنا الحالي هو ما ندركه داخل وعينا الذاتي للزمان الذي نعرّفه بالزمن الحاضر، وهذا ما يشكّل صدمة -من الصعب للعقل تقبّلها- كون كل أحداثنا مقررة مسبقا داخل هذا القالب الكوني الذي لا يمكن أن ندرك أحداثه الزمانية سوى الماضية أو الحاضرة، وهذا ما يقود إلى إعادة النظر في ظواهر -نادرة غير مفسرة علميًا- تحدث عند البعض مثل التخاطر والرؤى المنامية التي تقتحم -عند البعض- الحدود الزمانية الحاضرة؛ لتدخلنا إلى الحيز الزماني المستقبلي.

تدخلنا مثل هذه الأطروحات والنظريات العلمية إلى عمق فلسفي وديني ذي أبعاد معقّدة -لا نملك الأدوات المعرفية الكافية في إثباتها أو إنكارها- مثل جدلية تفاعلية القدر عبر تفاعلنا مع الأحداث في جميع مواضعها الزمانية الثلاثة وأهمها الزمان المستقبل. خلاصة ما كتبته عن نظرية اللبنة الكونية في كتابي «بين العلم والإيمان» (الصفحة 37): «ربما من الصعب استساغة فكرة وجود كل الأزمان، إلا أنه من السهل دحض -منطقا وعقلا- أي فكرة حول هـذا، لكن وجود ظواهر فوق حسية تُدخل البعض منا في أطر زمنية ليست في زماننا ومكاننا الحالي؛ مما يضطرنا أن نعيد إعمال عقولنا في تقبل فكرة حدوث ووجود كل الأزمان بما فيها من أحداث التي من خلالها نقبل عقلا وربما في المستقبل علما وجود وتفسير مثل هذه الظواهر الخارجة عن أطر القوانين المادية الموافقة لحواسنا ومنطق عقولنا المألوف وتفسيرها. لابد من الاعتراف أن نظرتنا للكون بما فيه الزمان والمكان هي نظرة فيزيائية نحاول أن نترجمها عبر المنهج الرياضي، ولهذا لو حاولنا أن نخرج أنفسنا من محدودية المنهج الفيزيائي ونتخيل أنفسنا خارج الكون المادي، من المحتمل أننا سنرى الكون من أبعاد مختلفة تماما عن ما نحن نألفه الآن؛ سيكون ربما من السهل أن نرى تفسيرا آخر ومختلفا تماما للزمان وتفاعله مع المكان والذي نفسره عبر أفكار ونظريات كنظرية اللبنة الكونية».

بجانب ما يحاول العلم الفيزيائي طرحه وتداوله فيما يخص قضية الزمان، هناك أيضا الكثير من الأدبيات والفلسفات التي اقتحمت غمار هذا البعد المحيّر «الزمان»، ولا يسع هذا المقال احتواء كل هذه الأطروحات والأفكار؛ إلا أنني أقترح للقارئ كتاب «تاريخ موجز للزمان» لعالم الفيزياء «ستيفن هوكينج» الذي عرض فكرة الزمان وتاريخها بلغة علمية مبسّطة لم تفقد جاذبيتها المعرفية، رغم أنّ الكتاب نُشِرَ -أول مرة- في عام 1988، وسبق لي قراءة الكتاب بلغته الأصلية «الإنجليزية»، وقرأت -مؤخرا- نسخةً مترجمة للعربية التي وجدتها -أيضا- مترجمة بلغة علمية واضحة متناسقة مع النسخة -الأصلية- الإنجليزية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: مثل هذه التی ت

إقرأ أيضاً:

محافظ كركوك: حاول البعض عرقلة التعداد العام للسكان لكننا نجحنا بإجرائه

محافظ كركوك: حاول البعض عرقلة التعداد العام للسكان لكننا نجحنا بإجرائه

مقالات مشابهة

  • حظك اليوم الاثنين| توقعات الأبراج الترابية.. نصائح مهمة للمواليد الثلاثة
  • شهادات مُزوَّرة يجب التصدي لها
  • ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
  • رئيس مياه القناة: رفع حالة الطوارئ بمحافظات الثلاثة لسوء الطقس
  • الإحصاء” تنظم غدًا الملتقى الإحصائي الأول للجامعات والجمعيات المهنية والعلمية الإحصائية
  • شاهد بالفيديو.. القائد الميداني للدعم السريع “جلحة” يعود لتصريحاته المثيرة: نرفض السلام ونحن القوم الذين يأتون في آخر الزمان وقال فيهم الله عز وجل: (بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد)
  • كيف أثرت السردية الدينية حول نهاية العالم على فوز ترامب؟
  • شاهد الشخص الذي قام باحراق “هايبر شملان” ومصيره بعد اكتشافه وخسائر الهايبر التي تجاوزت المليار
  • «الثلاثي المؤثر» مصدر قلق جماهير ليفربول!
  • محافظ كركوك: حاول البعض عرقلة التعداد العام للسكان لكننا نجحنا بإجرائه