الفكر الإنساني وأثره على توجه المجتمع
تاريخ النشر: 12th, August 2023 GMT
محمد بن عيسى البلوشي
التحديات والحلول
أستذكرُ مع كتابة هذه المقالة، الحديث الذي دار بيني وبين أحد خبراء الأرصاد الجوية، عندما سألته يومًا عن التغيُّرات التي طرأت على الأحوال الجوية في منطقتنا، فأشار بقوله إن هناك تطرفًا للمناخ أصاب العالم، وعليه أصبحنا نشهد الأعاصير والحالات المناخية الاستثنائية التي تهب على أجوائنا في فترات متقاربة.
وعندما بحثت قليلًا عن الأسباب التي جعلت المناخ يتطرف بهذا الشكل غير المألوف، وجدتُ أن سلوك الإنسان هو المسبب الرئيسي الذي جعل هذه الظواهر تتكرر، رغم التحذيرات العالمية للبشرية نحو الاحتباس الحراري وأهمية التخفيف من انبعاثات المصانع والملوثات المختلفة.
وبالمقارنة مع الظواهر التي بدأت تتشكل في مجتمعاتنا والتي معها نتلمس آثارها في سلوك البشر نحو قضاياه المعاصرة (الوطنية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، وغيرها)، نلمح من نوع تعامل الإنسان مع الأسرة والمجتمع والمؤسسة والخدمات واستخدام التكنولوجيا تغييرا في السلوك والتوجه، والذي أصبح غير مألوف مع فطرة الإنسان التي ألفناها. وهنا أخذ مثالا على واقع حال بعض المجتمعات ولا نقيس عليه بالتعميم.
في السابق، كانت وسائل الإعلام المحصورة على الإذاعة والتلفزيون والصحف الورقية، هي من تزودنا بالأخبار، وتقيس تلك الوسائل معها حجم المعلومات؛ بما يتوافق مع طبيعة المجتمع من حيث الفائدة المرجوة، وكانت الأخبار غير المُفيدة تُحجب بسبب أنها مواقف مؤقتة لا يمكن قياسها كظاهرة عامة يمكن أن تنبه المجتمع إلى خطر ما، إلا ما كان منها يمثل خطرًا مباشرًا يُرجى من نشره التوعية أو التنبيه.
واليوم نشاهد سلوكًا يظهر على المجتمع نحو تعاطيه للأخبار والمعلومات عبر خوارزميات إلكترونية تسمى (التواصل الرقمي أو الاجتماعي)، ويجعل من الإثارة والتشويق أهم سمات النشر والتوزيع، دون الأخذ بقيم النشر والإعلام الذي تربى عليه رواد المدارس الإعلامية العريقة وهو تقديم المعلومة بهدف نبيل ودافع حقيقي وقيم ترتكز عليها دون تزييف أو توجيه، واستثني من ذلك من تعلم أبجديات المهنة وعرف عمقها الحقيقي.
والسلوك الذي ظهر في مجتمعاتنا المحافظة على قيمها المستنبطة من ديننا الحنيف بسبب دخول منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، ساهم في تأثر الفكر البشري وتوجهاته نحو طريقة تناوله لقضاياه الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بشكل مباشر، وظهرت معه سلوكيات بعيدة عن قيمه الأصيلة، يقوده في ذلك فكرة صناعة التأثير لتوجيه المجاميع نحو اتجاه يرغب به، وهذا هو الخطر الذي يهدد مستقبل الفكر البشري ويوجد أمية فكرية يصعب التعامل معها.
إنَّ مجتمعات اليوم أمام خطر مُحدِّق وعدو قريب يتربص به الجهل والتنمر والانحلال عن القيم والركون إلى الكسل وكسر فضل العلم والتعلم والتنوير والعمل، والانقياد وراء الآخر والسعي نحو الغنى السريع والتفاخر والفوضى الفكرية والتشويش ووأد القدوة المجتمعية، وغيرها من الشهوات الفكرية التي يريدها أصحاب الخوارزميات ما علمنا منها وما لم نعلم حتى الآن. وكأننا في حرب فكرية يراد لها أن تكون حتى تصاب المجتمعات بالوهن ولا تقوم لها قائمة.
إن دور الأسرة في تشخيص مثل هذه الحالات هو أول برامج الحلول الموضوعة أمامنا، فهي المؤسسة الرسمية الأولى التي تراقب سلوك أفراد أسرتها من الأبناء، وأيضاً تلمس التغيرات التي تطرأ على أفراد الأسرة بسبب تعرضهم المباشر لوسائل التواصل الاجتماعي ومعرفة مدى تأثرهم من تلك الرسائل عبر قياس سلوكهم داخل المنزل ومتابعة سلوكهم الخارجي. وأعتقد أن تراجع الأنشطة الصيفية الثقافية كالمسرحيات ومسابقات الفنون والتوعية والندوات، والرياضية المتنوعة، وغياب الأنشطة الاجتماعية المجدولة ترك مساحة فراغ للفكر البشري كي يتجه إلى مسارات أخرى عبر فضاء التكنولوجيا، وهي واحدة من الأدوات المساعدة لعودة الأمور إلى طبيعتها الإنسانية.
ولا ننسى أن الدور المؤسسي الذي على الحكومات أن تقوم به في أسرع وقت ممكن، تتحمله المؤسسة التعليمية والإعلامية والدينية في إعادة ضبط الفكر البشري من حيث إدخال البرامج التعليمية المفيدة والتي تأخذ التقنية كأداة مساعدة للتعلم والتطوير والابتكار والتحسين المستمر للفرد والمجتمع، ويساعده في ذلك تطوير الرسالة الإعلامية المواكبة لرصد التغيرات المجتمعية وإعادة ضبط السلوك عبر برامج تُساعد في تمكين نظرة المجتمع إلى استثمار التطور التكنولوجي واستخداماته وأساليبه وأدواته، والتنبيه لأي خطر محدق، وأيضًا إعادة توجيه العقل البشري نحو المواضيع ذات الأولوية والمساهمة في تحسين إنتاجه وتطور إدراكه بما يُسهم في تحسن أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية ورفع مساهمته المجتمعية، بينما يأتي الجانب الديني ليذكر الإنسان برسالته الأسمى في الكون وقيمه التي يسترشد بها طريقه.
لا شك أنَّ العالم أمام تحدٍ غير مسبوق لإدراك الإنسان نحو الأثر الصغير الذي يصنعه في يومه، والذي يقود به مجتمعه إلى غده، فإن كان الأثر إيجابيًا فستظهر نتائجه على الفرد والمجتمع، وإن كان عكس ذلك فبكل تأكيد تظهر ظواهره سلبًا.. "إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم".
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
التأطير العقدي للعمل.. ضمان التوافق بين الفكر والسلوك في الإسلام
العقيدة الإسلامية هي حقيقة ثابتة وشاملة تُحدد علاقة الإنسان بربه، وبنفسه، وبالآخرين، وبالكون من حوله. فعاليتها تكمن في تحويل الإيمان إلى قوة دافعة للإصلاح والتنمية، مما يجعلها الأساس المتين لبناء الفرد والمجتمع.
الكاتب والمفكر التونسي الدكتور عبد المجيد النجار وهو أحد المفكرين والباحثين في مجال الفقه والفكر الإسلامي المعاصر، الأمين العام المساعد للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، يواصل في هذه السلسلة من المقالات التي تنشرها "عربي21" بالتزامن مع نشرها على صفحته على منصة "فيسبوك"، البحث في مدلول العقيدة الإسلامية ومفرداتها.
ب ـ التأطير العقدي للعمل
إذا كان الفكر هو أصل العمل فإن التأطير العقدي للفكر لا يُغني عن التأطير العقدي للعمل أيضا، ذلك أن العمل إذا لم يكن موجّهاً توجيها عقديا مباشراً فإنه قد يطرأ عليه انقطاع عن مفاهيم العقيدة حتى وإن كان الفكر الذي هو امتداد له مبنيا ً بناءً عقدياً، فما أيسر ما ينحرف السلوك العملي عن الصورة الذهنية الحاصلة بالفكر حتى وإن كانت صورة مؤطرة تأطيرا عقدياً. ولعلّ هذا هو أحد معاني الحديث النبوي الذي فيه تعوّذ من علم لا ينفع ، فهو تعوّذ من صورة ذهنية قد تكون صحيحة في ذاتها مبنية على مقتضيات عقدية، ولكن العمل التطبيقي عند حاملها لا يجري على حسبها، بل يجري منحرفا عنها، مقطوع الصلة بموجّهها العقدي فلا يكون له نفع.
دوران العمل على مقاصد الشريعة كرابط بينه وبين العقيدة يقتضي أن تُلحظ في الأعمال كلها مآلاتها من المصلحة أو المفسدة، فتبنى بحسب تلك المآلات، وتتعدّل وتتكيّف بحسبها أيضا..وربّما كان الخلل الأفدح الذي يصيب المسلمين منذ زمن هو انقطاع الأعمال عن موجهاتها العقدية، أكثر مما هو انقطاع أفكارهم عنها. ولو تأمّلت التقريرات الفكرية المحدّدة لنظام السياسة الشرعية على سبيل المثال لألفيتها جارية منذ بداية نشوئها قواعد علمية على أصل العقيدة: عدالة وشورى وتحكيما للشريعة، وتكافلا اجتماعيا، وهي تقريرات يقرّها الجميع حاكماً ومحكوماً، وتجري بها أفكارهم في إذعان، كما تنطق بها ألسنتهم وأقلامهم في تحمّل واعتراف، ولكن العمل الذي جرى عليه واقع الحكم بعد الخلافة الراشدة انقطع في الغالب عن الأصول العقدية، فخالف الصورة الفكرية المبنية على تلك الأحوال، فإذا هو الظلم والاستبداد على نحو ما هو معلوم. وتقاس على ذلك أوضاع كثيرة في حياة المسلمين.
ولا ينصلح هذا الخلل إلا بتعدية التوجيه العقدي إلى العمل أيضا بعد تعديته إلى الفكر. وإنما تكون هذه التعدية بحضور المعاني العقدية حضورا دائما في ضمير المسلم حال مباشرته العمل، سواء كان عملا تعبّديا بالمعنى الخاص، أو عملا تعميريا عاماً، وأن يجعل من ذلك الحضور مادّة في إنجاز حركاته العملية الجزئية، وفي ترتيب تلك الحركات أعمالاً متكاملة، فإذا المصلّي بذلك يصوغ حركات صلاته وهيئته العامّة فيها من استحضار ربّه خضوعا ومذلّة وخوفاً ورجاء، وإذا بالمزارع يصدر في فلحه وبذره عن استحضاره لعقيدة الخلافة في الأرض والتعمير فيها كمهمّة خلقه الله من أجلها.
ولو ارتفعنا بهذا الأمر في التأطير العقدي للعمل من حالة العمل الفردي إلى حال العمل الجماعي الذي تقوم به الأمّة بإشراف وترتيب من نوابها في مستوياتهم المختلفة لتحقيق المصالح العامّة، لو ارتفعنا بذلك ما وجدنا الأمر مختلفا، فالأعمال العامّة التي تقوم بها الأمّة هي أيضا ينبغي أن تصدر عن مبادئ العقيدة، وأن تتوجّه بوجهتها، بعد أن يكون الفكر الذي سبق تلك الأعمال قد صدر عن تلك المبادئ وتوجّه بوجهتها، وبعد أن يكون الفكر الذي سبق تلك الأعمال قد صدر عن تلك المبادئ وتوجّه بوجهتها.
من عناصر الرشاد في الاعتقاد إذن أن تصبح العقيدة التي يتحملها المسلمون خلفية مرجعية وحيدة وشاملة، منها يصدرون بدءاً ومعاداً في التفكير كله لتحصيل صور الرؤى والأفكار والحقائق، وفي التطبيق العلمي السلوكي لتلك الصور والرؤى، واعتقاد لا يكون له هذا الدور التوجيهي الشامل الملزم هو اعتقاد مختل لا يأتي بثمار ولا يحرّك إلى خير وإن كان في ذاته جاريا على وجه الحقّ في مدلوله وفي مفرداته على الصورة التي بيناها سابقا.وربما عبّر عن هذا المعنى من التأطير العقدي للعمل بتعبير جريان الأعمال على مقتضى مقاصد الشريعة، ذلك أن المقاصد وإن تفرعّت فروعا إلا أنها تعود في مجملها إلى المقصد الأعلى وهو تحقيق خير الإنسان وصلاحه بالتزام أوامر الله ونواهيه، وهو حقيقة عقدية كلية، فيكون جريان الأعمال على تحقيق مقاصد الشريعة تعبيرا عن الصلة بين العمل وبين العقيدة، ولذلك فإننا نعتبر علم مقاصد الشريعة علما واصلا بين علم العقيدة من جهة، وبين علم الفقه الذي يضبط الأعمال من جهة أخرى. ومن مظاهر الخلل المتمثل في ضعف الصلة بين العقيدة والعمل في واقع الأمة الإسلامية ما يلقاه هذا العلم الجليل من زهادة فيه، وتهميش له ضمن الثقافة العامة للمسلمين، وذلك ما يدعو في نفس الوقت إلى إحيائه والاهتمام به في نطاق الترشيد العقدي الذي نحن بصدد البحث فيه كعامل من عوامل الدفع إلى التحضّر.
ودوران العمل على مقاصد الشريعة كرابط بينه وبين العقيدة يقتضي أن تُلحظ في الأعمال كلها مآلاتها من المصلحة أو المفسدة، فتبنى بحسب تلك المآلات، وتتعدّل وتتكيّف بحسبها أيضا، ذلك أن العمل له صلة بالواقع الإنساني والبيئي الذي لا يضبطه منطق مطّرد صارم كصرامة المنطق الذي يحكم الأفكار، ولذلك فإن الأعمال ربما أجريت على صورة قُدّر أنها تحقّق مقصد الشريعة فتكون موصولة إذن بمقتضيات العقيدة، ولكن يتبيّن خلال الإنجاز أو بعده لملابسات واقعية لم يضبطها التقدير أنها آلت إلى مآل لم يتحقق فيه المقصد، فانقطعت صلتها إذن بالمعتقد، وحينئذ فإنها ينبغي أن تعدّل على ما فيه تحقيق مقصدها لترتبط من جديد بموجّهها العقدي، وذلك على نحو ما يكون في بناء مصنّع يُقدّر أنّه يوفر الخير للناس ويحقّق التعمير في الأرض، ولكن يتبين في أثناء العمل فيه أنه يسبّب من التلوّث البيئي ما فيه فساد كبير، فيعدّل إذن بحسب ما فيه حفظ للبيئة الكونية وخير للإنسان.
وهكذا يكون المقصد وهو معنى عقدي كما ذكرنا المؤثر الدائم الذي تتجه باتّجاهه الأعمال، وتتكيف بحسبه كل مناشط المسلم، وهذا ضرب من الترشيد بالغ الدقة، ولكن لا مناص من أن يأخذ اليوم طريقه كعنصر في الإصلاح يدفع إلى النهضة، وإلا بقيت أعمال المسلمين تسير على غير هدى من العقيدة فلا يكون لها أثر إيجابي في النهضة المنشودة.
إن من عناصر الرشاد في الاعتقاد إذن أن تصبح العقيدة التي يتحملها المسلمون خلفية مرجعية وحيدة وشاملة، منها يصدرون بدءاً ومعاداً في التفكير كله لتحصيل صور الرؤى والأفكار والحقائق، وفي التطبيق العلمي السلوكي لتلك الصور والرؤى، واعتقاد لا يكون له هذا الدور التوجيهي الشامل الملزم هو اعتقاد مختل لا يأتي بثمار ولا يحرّك إلى خير وإن كان في ذاته جاريا على وجه الحقّ في مدلوله وفي مفرداته على الصورة التي بيناها سابقا.