الإرث الاستعماري للدولة السودانية وطبيعة تكوين النخب السياسية: دراسة تاريخية تحليلية
تاريخ النشر: 1st, October 2024 GMT
دكتور هشام عثمان
تُعد الدولة السودانية الحديثة نتاجًا لإرث استعماري معقد، تداخلت فيه عوامل متعددة من الاستعمار الثنائي (البريطاني-المصري) إلى إرث دولة المهدية، مروراً بالحقب السياسية ما بعد الاستقلال. أثرت هذه الخلفيات بشكل كبير على طبيعة الدولة وبنيتها، كما شكلت النخب السياسية التي قادت البلاد لاحقًا، والتي ورثت أنماطًا من السلوك السياسي والاجتماعي المستمد من هذه الحقبة الاستعمارية.
الإرث الاستعماري للدولة السودانية:
1. الخلفية التاريخية:
قبل الاستعمار البريطاني، شهد السودان تعددية سلطوية وتبايناً في أنماط الحكم، بدءاً من سلطنات الغرب في دارفور وسلطنة الفونج في الوسط والشمال، وصولاً إلى دولة المهدية في أواخر القرن التاسع عشر. هذا التباين خلق نوعاً من التنوع الثقافي والسياسي، لكنه أيضاً زاد من انعدام التوازن بين مراكز القوى في البلاد.
2. الاستعمار الثنائي (1899-1956):
أدى الاستعمار الثنائي إلى تشكيل الدولة السودانية ضمن حدود جغرافية وسياسية محددة، ووضع سياسات عمدت إلى تقسيم البلاد إلى شمال "عربي-إسلامي" وجنوب "إفريقي-مسيحي". كما أدت السياسات الاستعمارية إلى تهميش بعض المناطق وإعطاء امتيازات للمناطق الأخرى، ما عمّق الفجوة الاجتماعية بين المركز والأطراف.
السياسات الإدارية والاجتماعية: قسّم الاستعمار السودانيين وفق اعتبارات جهوية وإثنية، واتبعت الإدارة الاستعمارية سياسة "المناطق المقفولة" التي منعت الشماليين من دخول الجنوب، الأمر الذي أدى إلى عزل الجنوبيين وجعلهم أكثر ارتباطاً بالمسيحية والغرب.
النظام التعليمي والإداري: ركز البريطانيون على خلق نخبة تعليمية وإدارية في شمال السودان، وذلك عبر إنشاء المدارس الخاصة في المدن الشمالية مثل الخرطوم وأم درمان، وتخريج كوادر تربوية وإدارية ساهمت لاحقاً في قيادة البلاد.
طبيعة تكوين النخب السياسية السودانية:
1. النشأة من رحم الدولة الاستعمارية:
أفرز الاستعمار نخبة سياسية ذات توجه مركزي، وهي نخبة تربّت في بيئة استعمارية وورثت نمطاً من الحكم والإدارة مبني على المركزية، مما جعل هذه النخبة تميل إلى احتكار السلطة والتمسك بالسيطرة على الدولة المركزية.
الانتماء الطبقي والجهوي: كانت النخبة السياسية التي نشأت في فترة الاستعمار متمركزة في الشمال النيلي، وتحديداً في مدن مثل الخرطوم، وادي حلفا، أم درمان، والخرطوم بحري. ينحدر أغلب أفراد هذه النخبة من طبقة المتعلمين الذين تلقوا تعليمهم في مدارس المستعمر، وتولوا مناصب إدارية في الخدمة المدنية.
توجهات سياسية مبنية على الإرث الديني والطائفي: تم تقسيم النخب السياسية بين تيارات دينية، مثل التيار الأنصاري التابع لحزب الأمة، والتيار الختمي التابع لحزب الأشقاء (الوطني الاتحادي لاحقًا). هذا التقسيم عزز من الطائفية السياسية وجعل الأحزاب السياسية تعبر بشكل كبير عن ولاءات دينية، بدلاً من تقديم رؤى سياسية وطنية.
2. النخب السياسية بعد الاستقلال (1956-1989):
استمرت النخب السياسية بعد الاستقلال في ممارسة السياسات نفسها التي اعتمدت على المركزية، وابتعدت عن تحقيق التوازن بين الأقاليم المختلفة. تركّزت السلطة في أيدي طبقة سياسية شمالية، مما أثار حفيظة الأقاليم الأخرى وأدى إلى اندلاع حركات تمرد عديدة في الجنوب، النيل الأزرق، ودارفور.
الأيديولوجيات المتصارعة: شهدت فترة ما بعد الاستقلال صراعاً أيديولوجياً بين التيار اليساري المتمثل في الحزب الشيوعي السوداني، والتيار الإسلامي المتمثل في جماعة الإخوان المسلمين بقيادة حسن الترابي، إلى جانب الأحزاب الطائفية التقليدية. هذا الصراع قاد إلى فترات من الحكم المدني والعسكري المتعاقب، مما زاد من تعقيد المشهد السياسي.
3. النخب السياسية في فترة نظام الإنقاذ (1989-2019):
تمكن الإسلاميون من الوصول إلى السلطة بانقلاب عسكري عام 1989 بقيادة عمر البشير، الذي كان واجهة مدنية لتوجهات الإسلاميين بقيادة حسن الترابي. تبنت نخبة الإنقاذ سياسات اقتصادية واجتماعية هدفت إلى تهميش القوى التقليدية وإعادة هيكلة المجتمع وفقاً لمفاهيم إسلامية، مما أدى إلى تعميق الانقسام بين المركز والأطراف.
الهيمنة السياسية: انتهجت النخبة الإسلامية سياسة "التمكين"، التي منحت كوادرها السيطرة على مفاصل الدولة، بينما تم تهميش وإقصاء القوى السياسية الأخرى. هذه السياسات أدت إلى انفصال جنوب السودان في 2011، وتصاعد التوترات في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
تأثير الإرث الاستعماري على النخب السياسية:
لا يمكن فهم طبيعة النخب السياسية السودانية دون النظر إلى تأثيرات الحقبة الاستعمارية. ورثت النخب السودانية من الاستعمار سياسات التقسيم الجهوي والإثني، كما تبنت نمطاً إدارياً مركزياً عزل الأطراف وأفرز بيروقراطية نخبوية تميل إلى خدمة مصالح المركز على حساب تنمية الأقاليم. أدت هذه السياسات إلى انقسامات اجتماعية وسياسية عمّقت الفجوة بين النخبة الحاكمة وبقية المكونات الاجتماعية في البلاد
الإرث الاستعماري للدولة السودانية لا يقتصر فقط على الأبعاد السياسية والإدارية، بل يتعداها ليشكل طبيعة النخب السياسية ذاتها. فهذه النخب، سواء كانت طائفية أو أيديولوجية أو عسكرية، تمحورت حول المركز وعملت على تكريس سلطتها على حساب الهامش، مما أدى إلى اندلاع صراعات داخلية عديدة. بالتالي، فإن أي محاولة لتغيير طبيعة الدولة السودانية يجب أن تبدأ بتفكيك هذا الإرث الاستعماري وإعادة هيكلة النظام السياسي ليعبر عن تطلعات جميع المكونات الاجتماعية في السودان يذكر أن جمهورية السودان جاءت تالية لنيجيريا حيث احتلت بريطانيا نيجيريا لأكثر من قرن منذ عام 1850 وحتى 1961 واحتلت جمهورية السودان لنصف الفترة منذ 1898 وحتى 1956 لذا تظهر جليًا المشتركات بين المستعمرتين في النواحي الإنشائية ومشاريع البنى الأساسية بما في ذلك المؤسسات الأكاديمية والمشاريع الزراعية فمقابل تعطيل نشاط الاكتفاء الذاتي شجعت الإدارة البريطانية أهل نيجيريا على زراعة محاصيل اقتصادية مثل الكاكاو والفول السوداني بجانب القطن بذات الطريقة التي شجعت بها انتاج القطن في جمهورية السودان في مشروع الجزيرة الزراعي بدل الذرة، ومدت السكك الحديدية في كل من لاقوس وعطبرة في ذات العام 1898، وكذلك مقابل كينقس كوليج (King’s College) في العاصمة لاقوس أنشأت كلية غردون التذكارية (Gordon Memorial College) في الخرطوم إضافة إلى ترفيع المتحمسين لخدمة الإمبراطورية بمنحهم فرص التعليم العالي في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) وهي مؤسسة أنشئت في العام 1916 كذراع لدعم الخطط السياسية والتجارية والعسكرية الاستعمارية البريطانية، وبالفعل تخرج فيها مختصون في العلوم السياسية والتاريخ والاقتصاد واللغات والإعلام من كل مستعمرات بريطانيا شغل بعضهم وأدار مؤسسات مهمة في بلاده مثل جامعة الخرطوم في جمهورية السودان.
وعلى غرار فعلها في الهند، نتج عن مخططات الإدارة البريطانية ظهور طبقة وسيطة من المتعلمين لتكوين أول حكومة وطنية ضمت معظم أفراد مؤتمر الخريجين، وكانت في الواقع نتيجة ثانوية لمراحل إعداد طويلة بدأت في نيجيريا، فالانقليز استفادوا من تجاربهم في نيجيريا ونسخوا معظمها إلى السودان، فانتفت حاجتهم لإلحاق المستعمرة الجديدة بوزارة المستعمرات فأتبعوها لوزارة الخارجية مع انتداب بعض السياسيين والمختصين في الإدارة للمحافظه على الهياكل الموروثة والثقافة السائدة في المجتمع بأقل التكاليف، فالإنقليز كانوا قد أنجزوا بالفعل خطوات الاستقطاب الجيوسياسي في السودانين الغربي والشرقي على ما كان يبدو لهم مجموعة بشرية واحدة موزعة في موقعين جغرافيين، وبذا يكون تأسيس حكومة سودانية كاملة تشرف عليها وزارة الخارجية البريطانية مسألة لا تختلف كثيرًا عن إنشاء ملحقية تجارية في قنصلية بريطانية لمتابعة المصالح التي تمثلت في تأمين المحاصيل الاقتصادية مثل القطن.
انتهى أمر المجموعة السودانية المستقطبة بواسطة الإنقليز إلى تولي السلطة ممثلة في دواوين الحكم والقضاء والجيش والمناصب الدينية والإشراف على مراكز التعليم والمؤسسات الاقتصادية ليس على أساس احترافي بل تطبيقًا للنموذج الموروث من النظام الطبقي المهني لمجموعات الفولاني، فصارت تلك المؤسسات مظهرًا للسيادة ظلت كل الفئات التي تحتكرها تؤدي مهامًا شكلية مراسيمية لا تسهم في الانتاج أو تدعمه بل عالة على المجتمع والدولة وعلى القطاعات المنتجة الضعيفة التي خطط لها أن تظل بدون سلطات وبدون حقوق لأجيال بينما تفرغت حكومة مؤتمر الخريجين والحكومات التالية للبحث عن سيد جديد بديلاً للانقليز بالمسارعة لتبني قضايا الأمة العربية وكل مشاريعها متسلحة في ذلك بذات النموذج الفاشل الذي اعتبرته مؤهلاً للوكالة في المنطقة.
ولعدم ثقة المجموعة التي ورثت الحكم في قدراتها أو في أهليتها لتولي أمر الدولة لقصور النموذج الطبقي الفولاني المدعوم الآن بأيديولوجية عروبية إسلامية تطابقت معه في كثير من المفاهيم والموجهات، استمر الانهيار في المستعمرة منذ خروج الإنقليز، فالمجموعات التي تسلمت حكم الدولة كانت مدربة على العمل والطاعة ولكنها لم تكن مستعدة لتحمل مسؤولية الدولة الحديثة ولم تكن جاهزة لصدمة الحرية غداة منح الاستقلال للدولة الوليدة، ويفسر ذلك ضخامة عدد العاملين في المؤسسات الحكومية التي تحولت إلى جمعيات إعاشة، وكثافة الضباط من الرتب العليا في الجيش لدولة تصنف من دول العالم الثالث ظلت منذ خروج الإنقليز تتعثر في خططها التنموية وتعاني من المجاعات وهي تمتلك كل مقومات الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي بما لم يتوفر لأي دولة أخرى في المنطقة
hishamosman315@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: جمهوریة السودان النخب السیاسیة بعد الاستقلال أدى إلى
إقرأ أيضاً:
المؤتمر: كلمة الرئيس السيسي تعكس إدراك القيادة السياسية لأهمية تماسك الشعب المصري
أشاد اللواء الدكتور رضا فرحات، نائب رئيس حزب المؤتمر، أستاذ العلوم السياسية بالكلمة التي ألقاها الرئيس عبد الفتاح السيسي، القائد الأعلى للقوات المسلحة، خلال حفل الإفطار السنوي الذي أقامته القوات المسلحة بحضور نخبة من كبار رجال الدولة، وقادة القوات المسلحة والشرطة المدنية، وكبار المسؤولين، وطلبة الأكاديمية العسكرية المصرية مشيرا إلى أن هذه الكلمة جاءت لتعكس عمق وعي القيادة السياسية وإدراكها لأهمية تماسك الشعب المصري وقوة مؤسسات الدولة في مواجهة التحديات الراهنة، سواء على الصعيدين الداخلي أو الإقليمي.
وأشار الدكتور فرحات إلى أن إشادة الرئيس السيسي بدور الشعب المصري وتماسكه، والثناء على دور القوات المسلحة والشرطة المدنية، يعكسان تقدير الدولة للدور الوطني الذي تقوم به هذه المؤسسات في حماية الأمن القومي المصري والحفاظ على الاستقرار الداخلي مشيرا إلى أن هذه المؤسسات تمثل الركيزة الأساسية للدولة المصرية، حيث تحملت على مدار العقود الماضية أعباء جسيمة خلال فترات عصيبة، وكانت دائما في مقدمة الصفوف للدفاع عن الشعب المصري والحفاظ على مكتسبات الدولة الوطنية.
وأكد نائب رئيس حزب المؤتمر أن اللقاء الذي جمع الرئيس السيسي بهذه الكوكبة من القيادات يعكس حالة التلاحم الوطني بين مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع، ويبرز الدور المحوري لهذه المؤسسات في حماية الأمن والاستقرار، والعمل من أجل تحقيق التنمية الشاملة مشيرا إلى أن هذا التلاحم يشكل جدارا منيعا أمام أي محاولات لزعزعة الاستقرار أو التشكيك في قدرة الدولة على مواجهة التحديات.
وأوضح أستاذ العلوم السياسية، أن الرسائل التي وجهها الرئيس خلال كلمته تعزز مفهوم الوعي المجتمعي وتعميق الانتماء الوطني، لافتا إلى أن مصر استطاعت بفضل هذا التماسك تجاوز العديد من الأزمات الداخلية والإقليمية، وأنها قدمت نموذجا يحتذى به في الصمود والثبات وأكدت التجربة المصرية خلال العقد الماضي أهمية الثقة المتبادلة بين الشعب وقيادته ومؤسساته، وهو ما عزز من قدرة الدولة على مواجهة التحديات والتعامل بحكمة وحزم مع الأزمات.
كما شدد الدكتور رضا فرحات على أهمية الدعم الشعبي لمؤسسات الدولة، مؤكدا أن هذا الدعم يمثل الضمانة الأساسية للحفاظ على استقرار مصر وأمنها، ويعزز مناعة الدولة ضد محاولات التشكيك والتشويه الإعلامي لافتا إلى أن محاولات استهداف مؤسسات الدولة عبر نشر الشائعات أو التحريض الإعلامي المغرض لن تحقق أهدافها طالما أن هناك وعيا شعبيا، وإيمانا حقيقيا بدور الدولة ومؤسساتها.
وأكد أستاذ العلوم السياسية على أهمية استمرار التلاحم الوطني بين مختلف مكونات المجتمع المصري، والحفاظ على مكتسبات الدولة الوطنية، ودعم الجهود الرامية إلى تعزيز الاستقرار والتنمية مؤكدا أن مصر تمضي بخطى ثابتة في مسيرة التنمية، وهو ما يتطلب من الجميع اليقظة والوعي لمواجهة محاولات التشكيك المستمرة و الإنجازات المتحققة على أرض الواقع هي أكبر دليل على نجاح الدولة في التصدي للمؤامرات الخبيثة.
اقرأ أيضاً«الرئيس السيسي» مطمئنا المصريين: الأوضاع الاقتصادية بدأت تتحسن بفضل الله
«فين القطايف».. الرئيس السيسي يثني على برنامج سامح حسين
«الرئيس السيسي» للمصريين: أدرك قلقكم جيدا فلا تخافوا واطمأنوا