دبي (وام)
تحت رعاية سمو الشيخ أحمد بن محمد بن راشد آل مكتوم، النائب الثاني لحاكم دبي رئيس مجلس دبي للإعلام، نظّم نادي دبي للصحافة اليوم، الدورة الرابعة من «دبي بودفِست»، الحدث الأول من نوعه في المنطقة، وأكبر تجمع للبودكاسترز وصُنّاع المحتوى الصوتي العرب، لمناقشة مستقبل «البودكاست» العربي، والتأسيس لمرحلة جديدة من تطوره في ضوء مستجدات التقنيات والأدوات المستخدمة في صناعة المحتوى، وتسليط الضوء على التجارب الملهمة واكتشاف وتشجيع الكفاءات المبدعة في هذا المجال.

 
تناولت هذه الدورة، التي استقطبت نخبة صُنّاع المحتوى الصوتي من داخل دولة الإمارات ومختلف أنحاء العالم العربي، مجموعة من الموضوعات المهمة في سياق العديد من المحاور المرتبطة بما وصلت إليه صناعة المحتوى الصوتي من تقدم في العالم العربي، وأبرز العوامل المؤثرة في انتشار البودكاست في المنطقة وزيادة عدد ساعات الاستماع. 
دور رائد
رحّبت منى غانم المرّي، نائب الرئيس والعضو المنتدب لمجلس دبي للإعلام رئيس نادي دبي للصحافة بجميع المشاركين في «دبي بودفِست 2024»، وأكدت أن الحدث يواصل في دورته الرابعة هدفه المتمثل في رسم صورة واضحة لواقع ومستقبل قطاع إعلامي سرعان ما نجح في أن يفسح لنفسه مساحة معتبرة على خريطة الإعلام العربي، والتي وصفتها بأنها آخذة في التمدد، بفضل ظهور العديد من التجارب الناجحة التي تمكنت من الاستحواذ على اهتمام ومتابعة قاعدة جماهيرية عريضة.
وقالت المرّي: "نجح صُنّاع المحتوى الصوتي في إكساب هذا الشكل الإعلامي الذي لم يعد جديداً، مكانة جديرة بالتوقف عندها والنظر في المقومات التي أفضت إلى هذا النمو اللافت الذي نشهده للبودكاست في العالم العربي، وربما من أهم تلك المقومات نوعية المحتوى المُقدّم عبر مجموعة كبيرة من التجارب الناجحة والمتميزة والتي نجحت في إقصاء شبهة «السطحية» بالاهتمام بموضوعات حيوية تلامس حياة المجتمع، ما أسهم في إكساب هذا الشكل الإعلامي قبولاً سريعاً ونمواً قوياً محققاً أصداء إيجابية كبيرة لدى المتلقي العربي، ولا شك في أن البودكاست إضافة مهمة للمشهد الإعلامي العربي ونحن حريصون على مواصلة العمل بشكل وثيق مع شركائنا في القطاع لدعم نموه وتعزيز مردوده الإيجابي في المجتمع". 
احتفاء بالمبدعين
وأكدت المرّي أن مبادرة نادي دبي للصحافة لإطلاق «دبي بودفِست»، قبل سنوات، كأول حدث من نوعه والأكبر على مستوى المنطقة لصناع المحتوى الصوتي، يعكس مكانة دبي الريادية في مجال العمل الإعلامي العربي، وسعيها المستمر لتحفيز الإبداع والاحتفاء بالمبدعين في شتى المجالات الإعلامية، لافتة إلى أن الحدث يضم في هذه الدورة، كما هو الحال في دوراته السابقة، مجموعة من أبرز وأنجح التجارب العربية والمحلية في هذا المجال، لمزيد من تبادل الآراء والأفكار حول سبل الارتقاء بالبودكاست العربي وتأكيد فرص استدامته كساحة إعلامية جديدة، ونافذة يطل منها الفكر المبدع على المتلقي العربي في كافة أنحاء العالم. 
وقد أسهمت صناعة المحتوى الصوتي في توسيع تنوع وسائل الإعلام وإمكانية الوصول إليها وكانت سبباً في تقديم تجربة أكثر تخصصية ومرونة وتركيزاً على المتلقّي، حيث من المتوقع أن يستمر تأثيرها على الأفق الإعلامي مع مواصلة النمو، خاصة مع دمج التقنيات الجديدة مثل الواقع المعزز، والتي ستنقل الإعلام إلى مرحلة جديدة أكثر تفاعلية. 
حوار شامل
وأكدت مريم المُلا، مديرة نادي دبي للصحافة بالإنابة، القيمة الكبيرة لاجتماع هذه النخبة من صُناع المحتوى الصوتي في دبي، ضمن حوار شامل حول ما يمكن القيام به من أجل تعزيز مستقبل هذه الصناعة الإعلامية التي أشارت إلى تناميها في العالم العربي أسوة بالنمو الذي تشهده على الصعيد العالمي. 
وقالت المُلا، في الكلمة الافتتاحية للدورة الرابعة لدبي بودفِست، إن صناعة البودكاست في المنطقة العربية أصبحت بلا شك جزءاً أساسياً من مستقبلها الإعلامي، مشيرة إلى أن التجربة العربية خلال السنوات الماضية ناجحة وينتظرها مزيد من الازدهار، فيما أثبتت تلك التجربة أكثر من متغير، بدءاً من ظهور ثقافة البودكاست سواء المصور أو المسموع وانتشاره السريع في المنطقة العربية، ما أكد أن الوسائط الإعلامية لا تموت وإنما تتحول وتتجدد، فيما تشكل المتغير الثاني في الانطباع العام حول انتشار الفيديوهات القصيرة وثقافة «الريلز» والمحتوى المصور ومدته دقيقة أو دقيقتين، حيث كان هذا الاتجاه حتى وقت قريب من ضمن تطلعات المتلقّي العربي، ولكن مع ظهور البودكاست انقلبت الاتجاهات وتغيرت رغبات الجمهور، لدرجة أننا أصبحنا نرى اتجاه المتابع للاستماع لحلقات البودكاست لمدة ساعة وأحياناً ثلاث ساعات، ما يمثل ظاهرة إعلامية لافتة. 
تشير الإحصاءات المنشورة على موقع «ستاتيستا» الإحصائي العالمي، إلى أن صناعة البودكاست آخذة في النمو عالمياً، حيث من المتوقع أن يكون عدد المستمعين للمحتوى الصوتي حول العالم قد تخطى النصف مليار مستمع، بنهاية عام 2023، مع توقع استمرار مؤشرات النمو في الارتفاع لهذا القطاع خلال السنوات المقبلة، كما يشير الموقع ذاته.
تخريج دفعة أولى
كان نادي دبي للصحافة، ضمن فعاليات الدورة الرابعة من «دبي بودفست»، قد أعلن عن تخريج الدفعة الأولى من منتسبي «برنامج البودكاست العربي» الأول من نوعه على مستوى المنطقة، وهي واحدة من المبادرات الرائدة التي أطلقها النادي من دبي إلى العالم العربي للمساهمة في دعم صناعة البودكاست في المنطقة، والمشاركة في إنتاج محتوى صوتي بمشاركة نخبة من الكفاءات وصناع المحتوى العرب وشخصيات إعلامية بارزة. 
جاء تخريج الدفعة من المنتسبين وعددهم 35 مشاركاً ضمن مختلف فئات البودكاست: المجتمع،  الثقافة، التاريخ، الأدب، التكنولوجيا، الذكاء الاصطناعي، الاقتصاد، ريادة الأعمال، الفن، التربية، الإنساني، الصحة، الاستدامة، الرياضة، تطوير الذات، السياحة، في إطار ما تشهده صناعة تطوير المحتوى الصوتي الرقمي من بدايات قوية تتطلب التعاون لإعداد كوادر احترافية متخصصة على قدر كبير من الإلمام بكافة المقومات اللازمة. 
 وقد هنأت منى المرّي المشاركين في «برنامج البودكاست العربي» على تخرجهم من البرنامج الذي تم تصميمه خصيصاً لتطوير مهاراتهم والاستفادة من مواهبهم ورؤاهم وأفكارهم في خدمة الموضوعات التي تهم المجتمع العربي، لاسيما مع تزايد انتشار قنوات البودكاست والزيادة الملحوظة في عدد ساعات الاستماع في المنطقة العربية. 
جلسات متنوعة
واستعرض المشاركون في النسخة الرابعة من «بودفِست دبي» أوضاع ومستقبل المحتوى الصوتي العربي وذلك بمشاركة العديد من أهم وأبرز صناع البودكاست وبحضور عدد من ممثلي مؤسسات إقليمية متخصصة في صناعة البودكاست والتدوين الصوتي وجمع من الإعلاميين والمهتمين بهذه الصناعة في المنطقة. 
وشهد الحدث الأول من نوعه في المنطقة المعني بقطاع البودكاست، ونظم دورته الرابعة نادي دبي للصحافة بمقره في وان سنترال- مركز دبي التجاري العالمي، وعلى مدار يوم واحد، مناقشات معمقة تم خلالها فتح الباب لجميع المشاركين للإدلاء بأفكارهم وتصوراتهم حول واقع ومستقبل صناعة المحتوى الصوتي أو «البودكاست» في المنطقة العربية. 
وأكد المشاركون في تلك الجلسات على ضرورة الاهتمام بهذه الصناعة من خلال توفير التمويل اللازم لها ورصد المقومات اللازمة لتحفيز نمو المحتوى الصوتي وتوسيع نطاق متابعيه بما يسهم في النهوض بهذا الشكل الإعلامي الجديد، فضلا عن ضرورة العمل على تعزيز التواجد العربي في مشهده العالمي من خلال محتوى رفيع الجودة وذي مردود إيجابي على المجتمعات العربية، وأهمية العمل على إيجاد مساحة أكبر لنمو هذه الصناعة في العالم العربي.
مستقبل البودكاست
استضافت الجلسة الرئيسية لدبي بودفِست 2024، جيمس كريدلاند، رئيس تحرير موقع وبودكاست «بود نيوز دوت كوم» المتخصص في نشر الأخبار المعنية بصناعة المحتوى الصوتي، والذي تأسس عام 2017، وحملت الجلسة عنوان «مستقبل البودكاست - توجهات إبداعيّة وتقنيّة ترسم مسار القطاع»، حيث قدّم كريدلاند خلال الجلسة عرضاً شاملاً تناول حال البودكاست على مدار عام مضى، وما آل إليه في الوقت الراهن، وقراءته لمستقبله في المرحلة المقبلة، في ضوء ظهور التقنيات الجديدة ومن أهمها تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتحول البودكاست من الاعتماد فقط على المحتوى الصوتي إلى تضمين المحتوى المرئي، مقدماً أمثلة لهذا التحول من خلال تتبع عدد من المنصات الرقمية العالمية.
فن الإخراج
شمل الحدث جلسة بعنوان «فن إخراج البودكاست» استضافت رامي إمام، المدير التنفيذي لشركة «Think Big»، وراشد بوهزاع، الشريك المؤسس لمنصة «مساحة» ومقدم بودكاست «سطحي»، ونبال كرم، مؤسّسِة شركة «بروكاست ميديا»، والمُنتج والمُخرج الإبداعي عبدالله المالكي، ومحمد العوضي، مخرج بودكاست «ذا دايركشن»، وأدارت الجلسة آيتن زعربان، مقدمة بودكاست «دردشة من دون فلتر».
تناولت الجلسة أهمية المحتوى الصوتي المقدم للمتلقي والذي يقود بدوره مخرج البودكاست إلى اختيار الوسائل والأدوات المناسبة لإخراجه من مؤثرات سمعية وبصرية، تساعد القائمين على العمل إلى الوصول إلى أكبر شريحة من المتابعين.
المرأة 
تضمنت أجندة الحدث جلسة نقاشية ركزت على دور برامج البودكاست في تناول قضايا المرأة، باعتبار أن هذه البرامج باتت محفزاً رئيساً على الإبداع والتغيير الإيجابي على مستوى الأسرة والمجتمع، حيث أجمعت المشاركات في الجلسة على أن برامج البودكاست تسهم في تغيير حياة النساء إلى الأفضل، أو ربما حياة أسر بأكملها، حسب العديد من الأبحاث والدراسات الحديثة. 
وقد شاركت في الجلسة د. أمل المالكي، مقدمة بودكاست (WME)، وصفية الشحي مقدمة بودكاست «ثلاثة أرباع»، وبثينة مجاربي، مقدمة بودكاست «بثينة»، ونورة حمود، المدير التنفيذي لمنصة «بودكاستي»، وسهام زعلاني، مقدمة بودكاست، وأدارها مقدم البودكاست حكمت وهبي. 
وتطرقت الجلسة إلى أهمية حصول المرأة على وسائل الدعم التي تعينها على الدخول بقوة في عالم البودكاست، باعتبار أن برامج البودكاست يتوقع لها أن تكون مستقبل الإعلام على مستوى العالم، كونه أتاح المجال لشريحة واسعة من أصحاب القصص الملهمة والناجحات للظهور ومشاركة تجاربهن الإنسانية. 
وثمّنت المشاركات المبادرات الفريدة والدور الرائد الذي يقوم به نادي دبي للصحافة لدعم مقدمي البودكاست على مستوى العالم العربي، وأعربن عن أملهن في إنشاء مراكز متخصصة لتدريب مقدمي البودكاست لصقل مواهبهم. 
سر النجاح
في جلسة نقاشية مفتوحة عقدت بعنوان «سر نجاح البودكاست: تجارب عربية»، بهدف تسليط الضوء على تجارب منطقة الخليج العربي والمشرق والمغرب العربي في صناعة البودكاست، أدراها الإعلامي محمد سالم مدير البرامج في شبكة الإذاعة العربية، واستطلعت آراء الحضور حول تجارب الدول العربية في صناعة البودكاست، والتي تتسم بالعفوية والسرد التلقائي للأفكار، واختيار المحتوى الرصين كخطوة أساسية لإنتاج محتوى صوتي ومرئي عبر مختلف المنصات. 
كما عرض الحضور التطور المتزايد الذي تشهده صناعة المحتوى الصوتي والمرئي في العالم العربي، كتطور طبيعي تحرص مختلف المنصات الإعلامية التقليدية على مواكبته والتواجد بقوة لنشر محتواها بأسلوب يتناسب مع متطلبات الجمهور بمختلف فئاته. 

أخبار ذات صلة جوجل.. تحويل الفيديوهات إلى بودكاست بضغطة زر برعاية أحمد بن محمد.."دبي للصحافة"يكشف عن أجندة النسخة الرابعة من "دبي بودفِست"

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: دبي بودفست بودكاست نادي دبي للصحافة فی المنطقة العربیة فی العالم العربی نادی دبی للصحافة صناعة البودکاست البودکاست فی هذه الصناعة الرابعة من على مستوى العدید من ی العربی فی صناعة من نوعه المر ی

إقرأ أيضاً:

أطروحات فكرية تجدد شرعية الاستبداد وتغذي تحالفات السلطة في العالم العربي

قبل عشر سنوات كتبت مقالا بعنوان: "أفكار في خدمة الاستبداد"، علقت فيه على أطروحتين تم تداولهما في مؤتمر عقدته مؤسسة مؤمنون بلا حدود بمراكش سنة 2014، تقول الأولى: إن المدخل إلى العقلنة والتنوير والحداثة يتم عبر العقلنة والتحديث، ونقد الموروث الديني، وتفكيك أنساق تفكيره. وتقوم الثانية، على فكرة إعادة إحياء التقليد بإحالاته المعروفة في الفقه السلطاني وتعزيز الثقة في المؤسسة الدينية التقليدية واعتبارها صمام أمان الاستقرار السياسي في المنطقة.

وقتها كان يبدو لي أن الفكرتين اللتين تبدوان متعارضتين مفصليا، وألا لقاء بينهما في مجال الفكر والمعرفة والمنهج، تخدمان في الواقع هدفا مشتركا في حقل السياسة، وهو خلق تحالف بين التقليد بكل مستوياته ومكوناته وبين الفكر الحداثي بكل تحققاته الواقعية، ورسم معادلة: "لا استقرار بدون تعايش مع الاستبداد" في مقابل معادلة: "لا استقرار بدون إصلاح وتغيير"، فيتم بناء تحالف في عالم الفكر، بقصد الوصول إلى تحالف آخر في عالم السياسة، يضع هدف مواجهة تيار مجتمعي، يؤسس لفكرة مواجهة الاستبداد من قاعدة المرجعية الإسلامية والفكر الإسلامي.

الآن، وبعد استقراء طويل لعدد من المشاريع والأطاريح الفكرية التي أصّل لها مفكرون ومثقفون من إيديولوجيات مختلفة، نضجت الفكرة النقدية أكثر، واتضح لي أن القصد لا يتوجه بالأساس إلى مواجهة ما يعرف بـ "تيار الإسلام السياسي"، بحجة أنه يمثل العائق الحقيقي أمام التحديث، وإنما يتوجه إلى إعادة تجديد الأطروحة السلطوية، وبناء مشروعيتها وحججها الفكرية والمعرفية، وأن الاختباء وراء نقد الموروث، أو القطع مع التراث والفطام عنه، أو طرح مفهوم "إسلام القرآن" في مقابل "إسلام الحديث"، أو "استعادة التنوير الرشدي" عند البعض، كان القصد منها بالأساس هو الاقتراب من مربع السلطة، وتقديم خدمات لها بعرض مشاريع فكرية لتجديد المشروع السلطوي، وتبرير تأخير معارك الحرية والعدالة والديمقراطية، وخلق خلط والتباس أو صراع أولويات بين مكونات منظومة الحرية بوضع الثقل كله في خانة الحريات الفردية، خاصة منها ذات البعد الغريزي، وإهمال الحقوق المدنية والسياسية، التي تعتبر الهيكل الأساس لـي مشروع تنويري حداثي.

معركة الحرية ومواجهة الاستبداد تراجعت بالمطلق، وصار مطلب "القوى المستنيرة" هو إنقاذ المجتمع من "إسلام تيارات الإسلام السياسي"، سواء بالتحالف مع المؤسسة الدينية التقليدية، أو بدعم التصوف، أي دعم اللامعقول، أو من خلال التمييز بين إسلام القرآن، وإسلام الحديث، أو من خلال دعم شرعية الدولة بإحياء أطروحة الأحكام السلطانية بعيدا عن مطلب دمقرطة الدولة وتحديث السياسة. في هذا المقال، نتقاسم مع القارئ مسار التحول في فكرة خدمة الاستبداد، وبعض المشاريع الفكرية التي حاولت تجديد المشروع السلطوي، ونقدم مساهمة في كشف الجسور التي التقت عليها هذه المشاريع مع اختلاف أصولها وخلفياتها الفكرية والمعرفية. لكن، قبل ذلك، من الضروري الإشارة في مدخل هذا  لوثيقة مهمة اسمها "الإسلام المدني الديمقراطي"، صدرت عن مركز راند، وصدر لنا كتاب مستقل في تحليليها والكشف عن خلفياتها، تشير توصياتها إلى الكيفيات التي يمكن من خلالها إحداث التحالفات الممكنة بين التيارات الثقافية في العالم الإسلامي، حتى ولو كانت متعارضة من حيث المواقع الفكرية، لأن ما يبرر اجتماعها مع تناقضها الفكري هو مواجهة تيار الإسلام السياسي بمختلف مكوناته، والبحث عن تأويلات معتدلة وحداثية للإسلام.

تعارض مفصلي في حقل الفكر والتقاء في عالم السياسة

تقدم ورقة "الإسلام المدني الديمقراطي" تصنيفا لأربعة اتجاهات فكرية تخترق العالم العربي والإسلامي، كل منها يحمل تأويلا خاصا للإسلام. أولها الأصوليون الذين يتمسكون بالإسلام كمرجعية وإيديولوجية، ويضم هذا الاتجاه طيفا واسعا ومتباينا يجمع ملالي الشيعة وحزب التحرير وطالبان والوهابيين، وتميز الورقة بينهم بضابط ممارسة الإرهاب والعنف من عدمه. واتجاه تقليدي محافظ يحرص على تطبيق الشعائر والطقوس الدينية الرسمية مع مجاورة دائمة للدولة.  واتجاه حداثي، يؤمن بأن الإسلام جاء لمرحلة زمنية مضت، ويمكن اليوم تطويره بحسب الواقع الجديد والقيم العصرية، واتجاه علماني، يقول بفصل الدين عن الدولة.

توصي ورقة "راند" بعدد من التوصيات التي تحكم طبيعة التحالفات التي ينبغي الاشتغال عليها لتقريب بعض هذه الاتجاهات من بعض وإبعاد بعضها عن البعض الآخر، وترى أن محاصرة الأصوليين، ينبغي أن تتم من خلال سيناريو التحالف بين التيار الحداثي والاتجاه التقليدي، مع العمل ما أمكن على عدم تقديم الولايات المتحدة الأمريكية أي دعم ظاهر الاتجاه العلماني، لأن ذلك قد يرتد على ردود فعل مجتمعية معاكسة، تفسد اللعبة كلها. وتوصي الورقة بضرورة دعم التصوف بمختلف تياراته، بما في ذلك الأشكال الأكثر معاداة للعقل منه، ولا تطرح أي فكرة بخصوص مواجهة الاستبداد، أو أي دور يمكن أن يقوم به الإسلام، أو على الأقل تأويلاته المعتدلة في مواجهة استبدال السلطة، لأنها في البدء والمحصلة مشغولة بفكرة واحدة هو إبعاد تيارات الإسلام السياسي سواء التي تستبيح العنف والإرهاب، أو التي تطرح فكرة التغيير السلمي، لأن ذلك يشكل في نظرها خطرا على المصالح ألأمريكية.

نسوق هذه الورقة، لأنها تلخص الرؤية الأمريكية للتغيير المطلوب في العالم العربي، والتي تركز أساسا على فكرة ترويج فهم معتدل للإسلام، أو تأويلات مدنية له، لكنها في جوهر الأمر، لا توصي بالتركيز على المضامين التحررية في الإسلام، أي التأصيل لذات القيم الثورية التي أنتجت الثورة الفرنسية، أو الأفكار الأساسية التي كانت وراء نهضة أمريكا، أي فكرة العدالة والحرية المساواة والديمقراطية، وإنما تركز فقط على فكرة "تطهير" الإسلام والنص الديني عموما من العنف، علما أن العنف في المفهوم الأمريكي يتسع لدلالات كثيرة، بما في ذلك مقاومة الاحتلال.

وإذا كان اشتغال مستودعات التفكير الأمريكية بمثل هذه الأفكار مشروعا، لأنها في البدء والمحصلة، تبحث تحقيق المصلحة الأمريكية، وإحداث تحول في العالم العربي، يخدم المصلحة الأمريكية، فإن سقف المثقف العربي، يختلف تماما عن هذه الرؤية، أو هكذا يفترض أن يكون، لكن، الواقع، يؤكد بأن الرؤيتين، تقتربان في عالم السياسة، بل يقوم المثقف العربي، من حيث لا يدري بخدمة هذه الرؤية الأمريكية التي تقصد إخضاع العالم العربي كله للمصالح الأمريكية. فالمثقف العربي، المزهو بفكرة التقدم، يتغافل أزمة النخب، وبشكل أساس نخب الحكم (أطروحة برهان غليون النقدية مهمة في هذا الصدد) ويحاول أن يبحث عنها في مكان آخر، في الدين والتراث والعقل الإسلامي وقواعده، ويلتقي في ذلك، سواء درى أم لا يدري بالرؤية الأمريكية، التي تختصر التغيير في العالم العربي في سطر واحد هو إعادة قراءة الإسلام قراءة معتدلة، حتى توفر لإسرائيل أمنا مستداما لم تحلم به من أكثر من سبعة عقود.

العروي قيدوم أطروحة دعم الاستبداد

كشف الدكتور محمد عابد الجابري في لقاء مع إحدى القنوات الفضائية الفرق بين مشروعه الفكري ومشروع عبد الله العروي، وذكر أن العروي كان على هامش حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وأنه يؤمن بأطروحة التعاون مع السلطة لإنجاز التحديث، بينما كان الجابري، يلح على أن فعل التحديث والدمقرطة لن يتم إلا ممن خلال "كتلة تاريخية" تتسع لمشاركة تيارات الإسلام السياسي التي كان يعدها العروي الوجه الآخر للتقليد الذي لا يمكن بناء الحداثة من غير مواجهته.

 تكشفت أطروحة العروي مع كتابه "الإيديولوجية العربية المعاصرة" الذي أثار ضجة كبيرة، بنقده للسلفية والقومية والاشتراكية، وتأكيده على أن هذه التيارات كلها، وإن كان بعضها يحمل عنوان التحديث، إلا أنها في الجوهر تتبنى التقليد كمنهج من أجل الوصول إلى الحداثة، وأنها في نهاية المطاف ستجد نفسها داعمة للتقليد لا الحداثة.

بينما كان الجابري يؤصل لفكرة الكتلة التاريخية، وتحديد مكوناتها الأساسية، والعناوين التي يمكن اللقاء على أرضيتها، كان مشروع العروي يتلخص في بناء تحالف مع السلطة السياسية، ببرنامج "فكري ثقافي" يهدف ابتداء تقويض نفوذ تيارات الإسلام السياسي باعتبارها الرمز الأقوى للتقليد، والمساهمة في إضعاف الخلفية الفكرية والثقافية والتراثية التي يقتات منها، وتقوية المضامين الحداثية، على الأقل في برامج التربية والتعليم وأوعية الثقافة وقنوات الإعلام. تأسست أطروحة العروي على دعامتين مترابطتين، الأولى أن المرور نحو التحديث يتطلب استلهام نفس القواعد التي التزمتها الحداثة الأوربية لتأصيل نفسها في المجتمع، وهو ما دعاه إلى طرح فكرة الليبرالية كمرحلة انتقالية. فيما أصل في الدعامة الثانية لفكرة إمكان حصول "اللبرلة من فوق"، أي بشكل قسري من خلال السلطة، على اعتبار أن فعل التحديث، قد لا ينجح إذا تم الاقتصار فيه على فعل التيارات المجتمعية، وأنه في هذه الحال، يمكن اللجوء إلى فكرة وسط، أو أرضية لقاء بين تيارات التحديث وبين السلطة، عنوانه، "التحديث من فوق"، وأرضيته الأساسية "الفطام عن ثقافة الأم"، بما تعنيه هذه الثقافة من موروث تراثي وثقافي متصل بالمصادر المرجعية للأمة والعلوم التي دارت حولها.

وبينما كان الجابري يؤصل لفكرة الكتلة التاريخية، وتحديد مكوناتها الأساسية، والعناوين التي يمكن اللقاء على أرضيتها، كان مشروع العروي يتلخص في بناء تحالف مع السلطة السياسية، ببرنامج "فكري ثقافي" يهدف ابتداء تقويض نفوذ تيارات الإسلام السياسي باعتبارها الرمز الأقوى للتقليد، والمساهمة في إضعاف الخلفية الفكرية والثقافية والتراثية التي يقتات منها، وتقوية المضامين الحداثية، على الأقل في برامج التربية والتعليم وأوعية الثقافة وقنوات الإعلام.

وإذا كانت انتقادات أمس للعروي تركز على أسباب تغافله عمق التقليد داخل السلطة نفسها، وفي الآن ذاته تجاهل المضمون الديمقراطي في التحديث، فإن النقد المتوجه اليوم إلى هذه الأطروحة يسائل مستقبلها وما أنجزته بناء على الأطر التأصيلية التي اعتمدتها، إذ يبين الفارق الزمني بين "الإيديولوجية العربية المعاصرة"، وبين كتابه "ديوان السياسية" أو "السنة والإصلاح" ألا شيء تحقق على مستوى هزم ثقافة الأم، وألا شيء تحقق أيضا على مستوى الاتجاه نحو الليبرالية إلا ما كان من تحريف لمضامينها، وتبني مفهوم هجين لها، يجمع بين الشيئ وضده، وأن النتيجة التي لا يشك فيها أحد أن السلطوية جددت شرعيتها، وأن تيارات التحديث توارت بشكل كلي، لتخلق طبقة أخرى بديلة كليا للمثقفين، هي طبقة المؤثرين، أضحت السلطة مستغنية بالكامل عن خدمات العروي وأمثاله لبناء وتجديد شرعيتها من جديد.

مفكرو نقد الموروث الثقافي

منذ أن كتب المستشرق البريطاني هاملتون جب كتابه "الاتجاهات الحديثة في الإسلام" عن تجزيئية أو ذرية العقل الإسلامي، انصرفت كتابات العديد من المفكرين إلى نقد التراث، ونقد العقل العربي، ودراسة تكوينه وبنيته وقواعد تفكيره، وأصبحت موضة التأصيل لفكر النهضة، أو نقد التخلف، هي جلد الموروث الثقافي، والبحث فيه عن جينات التخلف.

في الواقع لا يمكن أن نقيس أدبيات فكر النهضة التي كانت تنبه على أهمية نقد التراث، إلى كتابات المعاصرين ممن اندمجوا في فكرة خدمة الاستبداد، فما كتبه طه حسين في "مستقبل الثقافة في مصر" أو حتى في كتابه: "نظام الأثينيين" أو ما كتبه سلامى موسى وفرح أنطون وغيرهم، كان مبررا بفعل واقع الصدمة اكتشاف الغرب، والقناعة بأن العقل اليوناني كان سببا في إقلاع الحضارة الغربية، وأن سر نهوض الحضارة العربية الإسلامية يعود إلى اكتشافها لهذا العقل الهليني سواء مع ابن رشد أو مع غيره.

كتابات النهضة التي حملت نفس المضمون النقدي للتراث الأدبي والديني والثقافي، كانت محكومة بهاجس سد فجوة التأخر، بالأفكار التي استلهمها مفكرو النهضة لحظة الصدمة والاكتشاف للغرب، ولم تكن قضايا العدالة والحرية والتمثيل الشعبي غائبة عن مشاريعهم النهضوية، لسبب بسيط هو أن همهم كان النهوض، وكانت الحل هو الوصفة نفسها التي سار عليها الغرب، ولذلك، لم يتردد طه حسين في القول بأنه يجب اتباع الغرب في كل شيء حلوه ومره، قبل أن يتداعى في آخر حياته إلى كتابة الإسلاميات. أما الجيل الجديد من المفكرين المعاصرين المشغولين بفكرة نقد الموروث الثقافي، فمع تمكنهم من فكر الأنوار، وفكر التحديث، وآخر التقليعات الفلسفية فيه (هابرماس)، فإنهم أزاحوا من اهتمامهم قضايا الحريات والعدالة ودمقرطة السلطة، ووضعوا كل بيضهم في سلة نقد الدين، سواء بالتركيز على الاجتهادات التراثية في مختلف مستوياتها الكلامية والفلسفية والشرعية، أو التوجه بشكل مباشر إلى نقد النصوص الشرعية قرآنا كانت أم سنة، أو محاولة الفرز  التكتيكي بينهما من خلال تبني أطروحة "الاكتفاء بالنص القرآني" دون السنة، وأن منظومة الاستبداد كلها جاءت من خلف نص"الحديث" وفقهه.

بالأمس القريب، حصل توافق كبير بين المفكرين الإسلاميين والعلمانيين على فكرة مخاطر أدبيات "الأحكام السلطانية" في تكريس منظومة الاستبداد، وكتب الترابي في الفقه السياسي مبينا تأثيرات فقه التغلب على الفكر الإسلامي، تماما بنفس الطريقة التي كتب بها خصومهم من العلمانيين، وبدأت تتسع أرضية المشترك بين الطائفتين على ضرورة أن يخضع التراث الإسلامي لنخل عميق، وأن يميز النص الشرعي بمقاصده العليا عن الفهوم التي تلبست بالتاريخ،  وتأثرت بإكراهات السياسة، وأثمر هذا الالتقاء البحث عن صيغ تنقل المشترك المعرفي إلى ساحة السياسة، أي البحث عن "كتلة تاريخية" تجمع  كل المؤمنين بضرورة  توطين الديمقراطية في وطنهم على أرضية واحدة لمواجهة الاستبداد،  لكن اليوم، سار جزء مهم من المثقفين في المسار الخطأ، أي مسار تبديد هذه المساحة المشتركة، والعودة إلى المربع الأول، أي اعتبار الدين والمضامين الدينية، أساسا للتخلف، واعتماد صيغة واحدة للانطلاق نحو التقدم، هي القطيعة مع الموروث الديني سبيلا للنهوض، وتأجيل قضايا الحريات والعدالة والديمقراطية إلى ما بعد التخلص من عقائد الأمة.

لقد حصلت أزمة كبيرة في الفكر النهضوي العربي المعاصر، بسبب هامشية التيارات العلمانية في الوطن العربي، وعزلتها وضعف تأثيرها في المجتمع، وأيضا بسبب العجز عن فهم تيار الإسلام السياسي في الوطن العربي. وبينما كان المطلوب أن تتحد الجبهة لمواجهة الاستبداد، ذلك العدو الذي شخص النهضويون الأوائل أزمة الأمة من زاويته، تغيرت البوصلة تماما، وصار الطلب على التحالف مع الاستبداد لمواجهة العدو الأول، أي تيار الإسلامي السياسي،  بحجة أن عدو التقدم هو الموروث الديني، وأنه ما لم يتم التخلص منه مجسدا في تيارات الإسلام السياسي، فلا كلام عن التحديث.

قدم عبد الله العروي الوصفة النظرية. فلا مرور إلى التقدم دون فطام مع ثقافة الأم وقطيعة مع الموروث الديني، ولا سبيل لهذه المرحلة دون ليبرالية، ولا ليبرالية بدون تحالف مع السلطة، لأنه "الليبرالية من تحت" تتطلب فعلا مجتمعيا، تعدم التيارات الحدتثية القدرة على القيام به، وما دام هناك مشترك بين السلطة وهذه التيارات هو مواجهة تيارات الإسلام السياسي، فالأولى في هذه المرحلة، تبني "فكرة اللبرلة من فوق" ولو بشكل تكتيكي، حتى يتم التخلص من وجع الإسلاميين، ثم يتم التفرغ بعد ذلك إلى التحديث السياسي، أي مواجهة تغول الدولة.

والمشكلة التي لم يتم الانتباه إليها هؤلاء أن هذا التحالف التكتيكي، أو زواج المتعة بين تيارات التحديث وبين السلطة، تم في الواقع في سياق غير متكافئ، فالسلطة كانت قوية في ميدانها ضعيفة في شرعيتها، بينما كانت التيارات العلمانية، ضعيفة في ميدانها (الفكري)، فاقدة للشرعية في محيطها الاجتماعي، وهو ما جعل ناتج هذا التحالف يؤول من جهة إلى تجديد شرعية السلطة وتقوية تغولها في المجتمع، ومن جهة أخرى إلى ابتلاع نخب التحديث، ودخولها في مربع الارتزاق، أو على الأقل مربع الانحراف عن وظائفها التنويرية. فأصبح التكتيك (التحالف مع السلطة) لأداء مهام مرحلية، زواجا شرعيا محاطا بشرط التأبيد، وتحولت كل نظريات التحديث إلى مجرد هدم القديم أو نقد الماضي والتراث، دون تطلع إلى المستقبل، فالمستقبل هو السلطة، ولا مستقبل لتيارات التحديث سوى فيما تقدم السلطة لهم من فضاءات ومواقع وامتيازات.

رضوان السيد من نقد التقليد إلى إعادة إحياء منظوماته

لا نريد أن نسرد الكم الهائل من المشاريع الفكرية التي تفرغت في جلد التراث، باسم التأسيس للتقدم، فالسلسلة ممتدة من عبد الله العروي إلى علي حرب، ولا يوجد نشوز في تضاريسها إلا ما تعلق بانتقاء أجزاء تراثية يراد تأسيس الفكر العقلاني من متنها (المعتزلة، ابن رشد، ابن باجة، ابن حزم أحيانا، ابن خلدون). فسواء تعلق الأمر بفكرة القطيعة أو الانتظام التكتيكي في التراث من أجل القطيعة معه، فالحصيلة واحدة، هي أن البيض كله وضع في سلة أخرى غير سلة مواجهة عدو الأمة الأول، أي الاستبداد، فما أسهل نقد التراث الذي لا كلفة فيه، إلا ما كان من تعرض لنقد الإسلاميين، وما أثقل نقد السلطة، لأن المثقف العضوي، صار خلف الستار، وصار مثقفو نقد التراث يخافون من كلفة الالتزام.

لقد حصلت أزمة كبيرة في الفكر النهضوي العربي المعاصر، بسبب هامشية التيارات العلمانية في الوطن العربي، وعزلتها وضعف تأثيرها في المجتمع، وأيضا بسبب العجز عن فهم تيار الإسلام السياسي في الوطن العربي. الجديد في موقف المثقفين، أن التناقض الذي كان بشكل دائم موضوعا رئيسا للنقد الماركسي والماوي، صارت تسوغه اعتبارات السياسة، فلا مشكلة إن حصل التناقض في حقل الفكر، بقصد تحقيق الوظيفة في عالم السياسة.

رضوان السيد، الذي وجه جزءا مهما من مشاريعه الفكرية المبكرة لنقد الأشكال الانحطاطية في التراث، لاسيما الأجزاء التي تسوغ الانحطاط، وبشكل خاص، أدبيات الأحكام السلطانية، ويعتبر أنه يؤسس للاستبداد السياسي، ويكرس واقعه هيمنة السلطة، وتغولها على المجال العام، حصل له انقلاب كبير في عالم الأفكار، فصار يدعو إلى التصالح مع المؤسسة الدينية التقليدية ومع الآداب السلطانية، ومع المنظومة التراثية التي تعيد إنتاجها، وفي الآن ذاته، يجعل من التحالف مع السلطة، ضرورة لمواجهة تيارات الإسلام السياسي وإيديولوجيتهم الفكرية والسياسية.

بدأنا المقال، بأطروحة راند في "الإسلام المدني الديمقراطي" قصدا لكن تتبع إفلاس المشروع الفكري الحداثي، أثبت أنه لم تعد له من وظيفة تحديثية إلا وضع "عقله" في خدمة الاستبداد. فإذا كانت اعتبارات السياسة، ومتطلبات التمكين للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، اقتضت في مرحلة دعم الأنظمة الاستبدادية، واقتصت في مرحلة أخرى دعم التحول السياسي، وفي المرحلتين معا، ظهرت عقبة الإسلام السياسي، لأنه يمثل المعارضة السياسية الأولى للأنظمة الاستبدادية، ويمثل الرابح الكبير من دعم التحولات السياسية، فإنه في الحالتين معا، لا بد من عمل على الواجهة  الفكرية يوازي العمل الذي تقوم به واشنطن وحلفاؤها في مواجهة هيمنة هذا التيار على الحياة السياسية والثقافية، وهو ما يبرر دور المثقفين الحداثيين المعاصرين.

تقوم أطروحة "راند: على فكرة محاصرة تيارات الإسلام السياسي، في شقها الأصولي التطرف، أو المعتدل، وترى أن أقرب طريق لذلك أن يحدث تحالف متين بين تيارين رئيسيين، الليبرالي، والديني التقليدي، وترى أن ذلك ضروري لسحب المشروعية الدينية على تيارات الإسلام السياسي، وتقوية السلطة السياسية.

هي الأطروحة نفسها التي يطرحها رضوان السيد بعد أن أفضى مشروعه الفكري في مساره الطويل إلى تثبيت فكرة التناقض في حقل الأفكار، ذلك أنه وضع في حقل السياسة سيناريو يعتبر ضمن المخاطر التي ينبغي تجنبها، وهي فكرة حدوث تحالف بين تيار الإسلام السياسي وبين المؤسسة الدينية التقليدية، وأن ذلك، يعني إضعاف للسلطة السياسية واضطرارها للخضوع لضغط الإسلاميين، ويعني ذلك مزيدا من العزلة للتيارات الليبرالية والعلمانية، ولذلك وجب الاشتغال على سيناريو مقابل ه تحالف الاتجاه الحداثي مع التيار الديني التقليدي، فجمع بين أطروحة راند في هذا الشق، وأطروحة العروي، في الشق المتعلق بإحياء أدبيات الأحكام السلطانية.

والمحصلة، أن معركة الحرية ومواجهة الاستبداد تراجعت بالمطلق، وصار مطلب "القوى المستنيرة" هو إنقاذ المجتمع من "إسلام تيارات الإسلام السياسي"، سواء بالتحالف مع المؤسسة الدينية التقليدية، أو بدعم التصوف، أي دعم اللامعقول، أو من خلال التمييز بين إسلام القرآن، وإسلام الحديث، أو من خلال دعم شرعية الدولة بإحياء أطروحة الأحكام السلطانية بعيدا عن مطلب دمقرطة الدولة وتحديث السياسة.

مقالات مشابهة

  • «نخبة من المؤثرين» في جلسة رمضانية بـ«دبي للصحافة»
  • نادي دبي للصحافة ينظم جلسة رمضانية بمشاركة نخبة من المؤثرين
  • خطاطو الباحة يطلقون مبادرة “التقويم الرمضاني” بالخط العربي
  • البرلمان يتحرك لتقنين نشاط المؤثرين
  • أطروحات فكرية تجدد شرعية الاستبداد وتغذي تحالفات السلطة في العالم العربي
  • برمجية خبيثة تجبر صناع المحتوى على يوتيوب على نشر برامج مهكرة
  • استعدادًا لمعرض الأثاث بعمان.. «الاتحاد العربي للمعارض» ينظم لقاءات ثنائية للوفد المصري
  • الاتحاد العربي للمعارض ينظم لقاءات ثنائية لوفد من مصر استعدادًا لمعرض الأثاث بعمان
  • "الاتحاد العربي للمعارض" ينظم لقاءات ثنائية لوفد من مصر استعدادًا لمعرض الأثاث بعمان
  • 800 مليون درهم إيرادات السينما بالإمارات في 2024