لجريدة عمان:
2025-04-24@20:39:45 GMT

النظرية الاجتماعية عند ابن بركة البَهلوي

تاريخ النشر: 30th, September 2024 GMT

29 إبريل 2024م.. كان اليوم الثاني من أعمال «ملتقى بيت الزبير الفلسفي الثاني» الذي أقامته مؤسسة بيت الزبير بمسقط، ومن الأوراق التي قدمت فيه «العادة أو الطبيعة الثانية بين ابن بركة والفلسفة الحديثة» لعلي بن سليمان الرواحي. والرواحي.. من المهتمين بدراسة الفكر العماني وتحولاته، فقد أصدر كتابيه «الأصولية والعقلانية.

. دراسات في الخاطب الديني العماني»؛ عام 2012م، و«ماركس في مسقط.. بحوث حول البُنية المادية وتوزيع الثروات وتاريخية القوانين»؛ عام 2017م. دراسات الرواحي تنحو منحى التحليل الفلسفي، فهي مما يحتاج إليه حقلنا الفكري، ليس من حيث المادة المقدمة التي تثير النقاش حولها فحسب، وإنما أيضاً لأنها مواضيع قلة من يهتم بها. وما يميز ورقة الرواحي أنها تضع الفكر العماني في مصاف الفكر العالمي، ويحق لنا نحن العمانيين أن نقوم بذلك.. بل من واجبنا، فلدينا مفكرون كبار لم نقرأهم معرفياً واجتماعياً، ولم نبرزهم فكرياً وفلسفياً.

الرواحي.. تكلم في ورقته عن «الشك واليقين» عند ابن بركة من خلال كتابه «التعارف»، مقارناً بهما في الفلسفة الحديثة، ورابطاً ذلك بالبُعدين النفسي والاجتماعي، وهذا إضافة مهمة للحقل المعرفي، بيد أن الورقة لم تطرق الوضع الذي كتب فيه ابن بركة كتابه. وموضوعياً؛ ينبغي التحليل المعرفي أن ينطلق من الأرضية الاجتماعية للمؤلف، وهذا ما يطرقه المقال.

أبو محمد عبدالله بن محمد ابن بركة البَهلوي (ح:342هـ).. أحد كبار علماء الشريعة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترك العديد من المؤلفات في الفقه وأصوله والسياسة وأحداثها، له أربع نظريات معرفية، تعتبر تأسيسية في الفكر العماني، وإسهاماً مهماً في الفكر الإسلامي: النظرية الأصولية؛ أودعها كتابه «الجامع»، ونظرية جمع القرآن؛ تحدث عنها في هذا الكتاب أيضاً، والنظرية السياسية؛ بلورها في كتابه «الموازنة»، والنظرية الاجتماعية؛ رصفها في كتابه «التعارف».

المعلومات عن حياة ابن بركة يسيرة، وردت أثناء الحديث عن وقائع مرَّ بها، كحضوره مجلس علم، أو تدارسه مع عالم، وأكثرها زمن طلب العلم بصحار. وأما بالنسبة لوجوده في بَهلا؛ فلم أجد شيئاً في كتبه، ومن غيرها لم يرد إلا أنه من بني سليمة، وسكن حارة الضرح ببَهلا، وهي معلومات ورد ذكرها في «الأنساب» لسلمة بن مسلم العوتبي (ت:ق:6هـ)، و«سيرة محمد بن عبدالله بن مداد» (ت:917هـ)، و«منهج الطالبين» لخميس بن سعيد الشقصي (ت:ق11هـ). وأما ما يذكر عن غناه وأن لديه مدرسة يؤمها طلبة من عمان وخارجها، وأنه أوقف لها ولطلبة العلم أوقافاً ببَهلا، فلم يثبت تأريخياً، وإنما ذكره المتأخرون من دون سند. إن غياب سيرة ابن بركة حرمتنا معرفة الأرضية التي تقف عليها نظريته الاجتماعية.

كتاب «التعارف».. جاء جواباً على مَن خالطته الشكوك والوساوس في التملك والمعاملات التي تحصل بين الناس دون يقين منهم. و«التعارف».. هو ما جرت عليه العادة من جواز تملك الناس أشياء دون رجوع بعضهم لبعض بالإيجاب والقبول، مثل التقاط ثمرة النخيل المتساقطة. و«التعارف» يجاور «الدلالة»؛ وهي ما يجري بين شخصين من تعامل دون أن يثرّب أحدهما على الآخر، حتى قالوا إن كانت بينهما دلالة؛ فيأخذ أحدهما مالاً من جيب صاحبه فإنهما لا يجدا حرجاً في نفسيهما، جواب ابن بركة تحوّل إلى نظرية اجتماعية ذات مبنى فقهي. وقبل الحديث عنها، أتحدث عن الوضع الاجتماعي والسياسي الذي طرحت فيه.

عام 272هـ.. وقعت فتنة عزل الإمام الصلت بن مالك الخروصي (ت:275هـ) بخروج الفقيه موسى بن موسى الإزكوي (ت:287هـ) عليه؛ وتنصيب راشد بن النظر اليحمدي (ح:277هـ) إماماً على عمان. وكان ذلك سبب نهاية الدولة المركزية الأولى التي استمرت ما بين (177-272هـ)، فأحدث سقوطها هزة عنيفة، تحزّب العمانيون بسببها حزبين: يمانية ونزارية، ودخلوا في قتال عنيف، أعقبه اضطراب سياسي؛ عرّض البلاد لتدخلات خارجية، استمرت ردحاً من الزمن. الجدل السياسي والديني الذي حصل نتيجة الفتنة نتج عنه مدرستان فكريتان: النزوانية؛ عميدها أبو سعيد محمد بن سعيد الكدمي (ح:361هـ)، والرستاقية؛ عميدها ابن بركة البَهلوي.

الفقهاء.. لم يقفوا صامتين إزاء الفتنة؛ وما أورثته من إشكالات معرفية وشكوك نفسية، فأخذوا يبحثون عن الحلول، فقدم الكدمي «نظرية المعبّر»، وقدم ابن بركة «نظرية التعارف»، أقتصر هنا بالحديث عن معالم النظرية الأخيرة، دون استقصاء كل جوانبها، رجاءَ أن أكتب مستقبلاً في المقارنة بين النظريتين.

أورثت هذه الأوضاع جدلاً فكرياً بين الفقهاء صاحبته موجة من الشك لدى الناس في تعاملاتهم اليومية؛ يمثله سؤال أحد المتأثرين بالوضع: (وصل كتابك تذكر فيه ما ضاق به صدرك من الشكوك المعترضة عليك في نفسك ومالك، والوساوس الداخلة عليك في أمر دنياك وآخرتك) [ط2013/ص67]، فوضع ابن بركة كتابه «التعارف» جواباً له.

البُعد الاجتماعي.. الذي يقوم عليه المبنى العام لـ«نظرية التعارف» هو (أن الله تعبّد عباده على ما يتعارفون فيما بينهم، ويتجاوزونه فيما جرت به عاداتهم، ما لم يقم على تحريمه دليل من كتاب أو سنة أو إجماع من الأمة، لأن جواز ذلك حَسَنٌ في العقل) [ط2013/ص83].

وأهم العناصر المعرفية للنظرية؛ هي:

- الدين يسر، وأحكامه لا مشقة فيها، (فإني أعلمك أن الله تبارك وتعالى يسر هذا الدين على عباده، وسهّله عليهم، ولم يكلفهم شططاً من أمره، ولم يقطع عذرهم إلا بعد أن أمكنهم من جميع ما يحتاجون إليه، ولم يضيّق عليهم في شيء من ذلك) [ط2013/ص68].

- توجد قواعد كلية يسير عليها الناس في حياتهم، فالواجب على الإنسان: (أن يبدأ بتعليم الأصول قبل الفروع، وأن يثبت قواعد البنيان قبل أن يرفع شواهق البنيان، ومن عرف معاني الأصول عرف كيف يبني عليها الفروع) [ط2013/ص69].

- إن (أسباب العلوم ودلائل البيان موقوفة على العقول، ومعلومة بها دون غيرها).. (فالواجب على من آتاه الله حاسة العقل وقطع بها عذره؛ أن يناصح بها نفسه فيما كلّفه من حاجة نفسه) [ط2013/ص69].

- المعلومات تدرك بالعقل، وهي على ضربين:

(أحدهما.. يدرك بالحواس والمشاهدة، وهو أصل العلوم، وأوائل الأدلة ولا دليل قبله، ولا علم يتقدمه، ولا يقع فيه الاختلاف) [ط2013/ص70].

وثانيهما.. (علم الدلائل المستنبط بالعقول، ويستدرك معناه بالبحث والنظر وبدليل العِبرة، وفي هذا يقع الاختلاف والتنازع) [ط2013/ص70].

- (إن الله تعالى تعبّدنا بما هو يقين عندنا مما نعلم بالظاهر من الأمور، ونستدل على معرفتها، ونخرج من العبادة دون أن نعلم حقيقته عند الله) [ط2013/ص73].

- التعامل بين الناس يقوم على ما تطمئن إليه النفس من التصرفات، فأنت لا تحتاج إلى إذنٍ -مثلاً- لتستقي من ماء أو تجلس على كراسٍ، طالما أن الناس تعارفوا عليهما، ولا تحتاج إلى بحث لتعرف ذلك؛ فيكفي أن (هذه الأشياء تعرف بالدليل في القلب، وسكون النفس بما تجري به العادة بين الناس) [ط2013/ص102].

وصفوة النظرية.. أن دين الله يسر، وأحكامه تضبطها أصول، ومن يحكمها يبني عليها الفروع، وهذه الأصول تدركها العقول. والمعارف.. إما مدركة بالحواس وخاضعة للمشاهدة [منها التجربة]، فهي لا خلاف فيها، وإما خاضعة للبحث والنظر؛ وفيها يقع الاختلاف. وعلينا أن نأخذ بما هو يقين لدينا مما تطمئن إليه النفس، وإن لم يكن يقيناً عند الله. إن ابن بركة بطرحه هذا أنزل معاملات الناس من «سماء الفقه» إلى الواقع الاجتماعي.

أزالت «نظرية التعارف» كثيراً من الحيرة التي أوجدتها الفتنة الدامية التي مر بها المجتمع العماني. وهي لم تكن حلاً مؤقتاً؛ وإنما غدت مرجعية فقهية لدى الفقهاء العمانيين –والإباضية عموماً- منذ القرن الرابع الهجري حتى اليوم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ابن برکة

إقرأ أيضاً:

“النظرية بين النص والتأويل” أمسية ثقافية بتبوك

المناطق_تبوك

نظّم الشريك الأدبي لهيئة الأدب والنشر والترجمة بمنطقة تبوك، أمس، أمسية ثقافية بعنوان “النظرية: بين النص والتأويل”، بحضور عددٍ من المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي في المنطقة، ومشاركة نخبة من الأكاديميين والمهتمين بالنقد الأدبي.

وتناولت الأمسية التي قدّمها الدكتور مسعد العطوي، العلاقة الجدلية بين النصوص الأدبية وطرائق تأويلها، مستعرضًا تطور النظريات النقدية الحديثة من البنيوية إلى ما بعد الحداثة، وتأثيرها في فهم النصوص وتفسيرها.

أخبار قد تهمك ارتفاع أسعار الذهب إلى 3335.39 دولارًا للأوقية 24 أبريل 2025 - 11:39 صباحًا جامعة نجران تحقق المركز الأول في برنامج “سفراء الوسطية” 24 أبريل 2025 - 11:12 صباحًا

وسلط العطوي الضوء على مفهوم التأويل من منظور فلسفي وأدبي، موضحًا كيف يمكن للنص أن يتعدد معناه بتعدد القراءات، مؤكدًا على أهمية السياق النظري في توجيه الفهم القرائي.

واختُتمت الأمسية بجلسة حوارية مفتوحة مع الحضور الذين أثروا النقاش بمداخلاتهم حول التأويل والنقد الأدبي.

نسخ الرابط تم نسخ الرابط 24 أبريل 2025 - 11:39 صباحًا شاركها فيسبوك ‫X لينكدإن ماسنجر ماسنجر أقرأ التالي أبرز المواد24 أبريل 2025 - 11:05 صباحًاالهيئة العامة للإحصاء: ارتفاع عدد المشتغلين في الأنشطة السياحية بنهاية 2024 إلى 966 ألفاً.. بينهم 242 ألف سعودي أبرز المواد24 أبريل 2025 - 11:03 صباحًاهيئة الإحصاء: ارتفاع الصادرات غير النفطية 14.3% وانخفاض الصادرات البترولية 7.9% خلال فبراير الماضي على أساس سنوي أبرز المواد24 أبريل 2025 - 10:59 صباحًاصدور موافقة خادم الحرمين الشريفين على منح ميدالية الاستحقاق من الدرجة الثانية لـ 102 مواطنٍ ومقيمٍ لتبرعهم بالدم 50 مرة أبرز المواد24 أبريل 2025 - 10:56 صباحًا“الصندوق العقاري” يودع أكثر من مليار ريال في حسابات مستفيدي “سكني” لشهر أبريل أبرز المواد24 أبريل 2025 - 10:55 صباحًا“هيئة الطيران المدني” تُصدر تصنيف مقدِّمي خدمات النقل الجوي والمطارات لشهر مارس الماضي24 أبريل 2025 - 11:05 صباحًاالهيئة العامة للإحصاء: ارتفاع عدد المشتغلين في الأنشطة السياحية بنهاية 2024 إلى 966 ألفاً.. بينهم 242 ألف سعودي24 أبريل 2025 - 11:03 صباحًاهيئة الإحصاء: ارتفاع الصادرات غير النفطية 14.3% وانخفاض الصادرات البترولية 7.9% خلال فبراير الماضي على أساس سنوي24 أبريل 2025 - 10:59 صباحًاصدور موافقة خادم الحرمين الشريفين على منح ميدالية الاستحقاق من الدرجة الثانية لـ 102 مواطنٍ ومقيمٍ لتبرعهم بالدم 50 مرة24 أبريل 2025 - 10:56 صباحًا“الصندوق العقاري” يودع أكثر من مليار ريال في حسابات مستفيدي “سكني” لشهر أبريل24 أبريل 2025 - 10:55 صباحًا“هيئة الطيران المدني” تُصدر تصنيف مقدِّمي خدمات النقل الجوي والمطارات لشهر مارس الماضي جامعة نجران تحقق المركز الأول في برنامج "سفراء الوسطية" جامعة نجران تحقق المركز الأول في برنامج "سفراء الوسطية" ارتفاع أسعار الذهب إلى 3335.39 دولارًا للأوقية ارتفاع أسعار الذهب إلى 3335.39 دولارًا للأوقية تابعنا على تويتـــــرTweets by AlMnatiq تابعنا على فيسبوك تابعنا على فيسبوكالأكثر مشاهدة الفوائد الاجتماعية للإسكان التعاوني 4 أغسطس 2022 - 11:10 مساءً بث مباشر مباراة الهلال وريال مدريد بكأس العالم للأندية 11 فبراير 2023 - 1:45 مساءً أجمل رسائل وعبارات صباح الخير وأدعية صباحية للإهداء 24 أبريل 2022 - 9:35 صباحًا جميع الحقوق محفوظة لجوال وصحيفة المناطق © حقوق النشر 2025   |   تطوير سيكيور هوست | مُستضاف بفخر لدى سيكيورهوستفيسبوك‫X‫YouTubeانستقرامواتساب فيسبوك ‫X ماسنجر ماسنجر واتساب تيلقرام زر الذهاب إلى الأعلى إغلاق فيسبوك‫X‫YouTubeانستقرامواتساب إغلاق بحث عن إغلاق بحث عن

مقالات مشابهة

  • محمد مهنا: الزهد الحقيقي لا يعني ترك العمل أو الانعزال أو الفقر
  • الخداع تحت غطاء الصداقة وخيمة الثقة !
  • سقوط طفلة داخل بركة مياه في عكار
  • “النظرية بين النص والتأويل” أمسية ثقافية بتبوك
  • كيف أتعلم القناعة والرضا بقضاء الله؟ أمين الفتوي يوضح
  • أمين الإفتاء يوضح معنى مدد وحكم طلبه من الناس
  • التشكيك: سلاح خفي في الحرب النفسية التي تشنها المليشيات
  • الحكايات الأولى للمكبرين الأوائل.. الجامع الكبير ساحة للانطلاق (الحلقة الأولى)
  • في زمن التيه.. الرجولة أن تكون من أنصار الله
  • رسالة ونداء