قتلت نصر الله ورفاقه... كيف تعمل القنابل الخارقة للتحصينات؟
تاريخ النشر: 30th, September 2024 GMT
إن معادلة القنابل الخارقة للحصون تقوم على كثير من الفيزياء وقليل من الكيمياء والكثير من التكنولوجيا.
قصة القنابل الخارقة للحصون قديمة وتعود إلى عقود خلت، وتحديداً إلى الحرب العالمية الثانية، لكن استخدامها كان وما يزال على نحو كبير في الدول العربية والإسلامية.
وبدأت قصة هذه القنبلة إبان الحرب العالمية الثانية قبل أن تُستعمل في الحرب على العراق عام 1991، ثم حرب أفغانستان 2001 وغزو العراق 2003، والحرب على غزة المستمرة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وصولاً إلى اغتيال أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، الجمعة الماضية، في هجوم استخدم فيه أكثر من 80 قنبلة من هذا النوع.
بين عامي 1942 و1943، نفذ الطيران الأمريكي أكثر من 2000 طلعة جوية بقاذفات ثقيلة في محاولة لضرب أحواض بناء القطع البحرية تحت الماء التي أنشأتها القوات النازية على ساحل فرنسا التي كانت تحتلها حينها.
وأتاحت هذه القواعد للغواصات الألمانية الوصول السريع إلى المحيط الأطلسي، مما ساعدها في توجيه ضربات للقوات البريطانية والأمريكية وقتل الآلاف من جنود الطرفين.
وكان الألمان يعرفون أن الحلفاء سيقصفون تلك المواقع، فعملوا على تحصينها بالخرسانة وشيدوا جدراناً سمكها 3 أمتار، وسقفا خرسانيا يزيد سمكه على 5 أمتار، واستخدموا في العملية أكثر من 4 ملايين متر مكعب من الخرسانة.
ولذلك كانت الأضرار التي لحقت بتلك الأحواض محدودة، فالقنابل التقليدية تنفجر عند ارتطامها بالأجسام الصلبة، وفي المحصلة لم تخترق تلك القنابل الجدار الخرساني، وحتى في الأماكن المحدودة التي أحدثت فيها القنابل أضراراً سارع النازيون لإصلاحها.
وحاول الأمريكيون حل المشكلة بصناعة قنابل أضخم، وطوروا مشروعاً طموحاً في هذا الإطار، بحيث تنفجر القنابل داخل المخابئ لكن المشروع فشل بسبب الأعطال الفنية.
وتسبب المشروع في مقتل الطيار الأمريكي جوزيف كينيدي، الأخ الأكبر للرئيس الراحل، جون كينيدي.
Relatedإسرائيل تستخدم قنابل خارقة للتحصينات في استهداف المقر المركزي لحزب الله وتدمر 6 مبان80 قنبلة خارقة للتحصينات بزنة طن لكل واحدة وتفاصيل يرويها قائد سرب المقاتلات التي اغتالت نصر اللهحرب غزة: يوم دام آخر في القطاع وإدارة بايدن توافق على إرسال قنابل زنة 500 رطل إلى إسرائيلالبريطانيون نجحوا فيما أخفق فيه الأمريكيوننجح البريطانيون فيما فشل فيه الأمريكيون، إذ طوّر المهندس، بيرنز واليس قنابل خارقة للحصون، وكانت فكرته بشأن هذه القنابل قائمة على التطوير الألماني للقنابل المخترقة للدروع، والمبادئ الأساسية في هذا الاتجاه هي: البنية والكتلة والسرعة.
ورغم التطورات الكبيرة التي حدثت في صناعة هذه القنابل، إلا أن المبادئ الأساسية ظلت هي نفسها.
وتقوم القنابل الخارقة للحصون التي طوّرها المهندس البريطاني على وجود هيكل أنبوبي طويل نسبياً للقنبلة، مع أنف مخروطي مصنوع من مادة صلبة للغاية، وأعاد تدوير فولاذ فوهات مدافع قديمة لهذه الغاية، كما زوّدت القنابل بأجنحة تجعلها تدور حول نفسها.
وتؤدي الفيزياء دورها هنا في قوة المقذوف، إذ تلقى القنبلة من ارتفاع شاهق، وترفعت سرعتها إلى أقصى حد ممكن، بما يتجاوز مثلا سرعة الصوت.
وعندما تكون لديك العناصر التالية: السرعة الفائقة والكتلة الضخمة والدوران الكبير والمقدمة المدببة المصنوعة من فولاذ قوي، تستطيع القنبلة الحفر في الأرض، بما في ذلك طبقات الخرسانة السميكة، قبل أن تنفجر.
وحتى إن لم تصب هذه القنابل الهدف المنشود، فإنها تنغرس في الأرض وفي بعض الأحيان تصل إلى عمق 10 أمتار، وحينها تنفجر، مما يشكل موجات "زلزالية"، مما يتسبب في اهتزار أسس المباني وبالتالي انهيارها، ولذلك تسمى أحياناً "القنابل الزلزالية".
وفي نهاية الحرب العالمية الثانية، امتلك الأمريكيون القنابل النووية، ولم يكونوا بحاجة ماسة للاستثمار في للقنابل الخارقة للحصون، فاعتمدوا على القنابل البريطانية وأضافوا عليها مزايا مثل توجيهها أثناء الطيران.
لكن في حرب الخليج عام 1991، برزت حاجة ماسة للقنابل الخارقة للحصون، إذ علمت المخابرات الأمريكية حينها أن القوات العراقية الموالية للرئيس الراحل صدام حسين بنت مخابئ تحت الأرض، وعلى عمق كبير للغاية، بحيث لا يمكن للقنابل التقليدية الوصول إليها.
وبحسب صحيفة "يديعوت آحرونوت" العبرية، فقد طوّر الأمريكيون قنابل خارقة للحصون باستخدام تكنولوجيا أكثر حداثة خلال أسابيع.
وبالفعل، ظهرت القنبلة "GBU-28"، التي تزن 2000 كيلوغرام، وفيها 300 كيلوغرام من المواد المتفجرة، وكانت هذه القنبلة قادرة على اختراق 6 أمتار من الخرسانة أو 30 متراً من التربة.
وما يميز هذه القنبلة هو توجيهها الدقيق عبر الليزر، وتأخير انفجارها، بحيث لا تندفع كتلة النيران إلا عندما تخترق القنبلة أقصى عمق ممكن.
وباتت الولايات المتحدة دولة رائدة في صناعة هذا النوع من القنابل، متفوقة على الآخرين، مثل روسيا والهند، كما أن إسرائيل تصنع قنابل من هذا النوع، لكنها صغيرة نسبياً، بحسب "يديعوت آحرونوت".
وأصدرت الولايات المتحدة نسخاً محدثة من القنبلة، أكبر حجماً وأكثر قوة على اختراق الحصون.
ولزيادة القوة التدميرية لهذه القنابل، جرى إضافة أوزان عليها، فكما هو معلوم في هذا المجال، كلما كانت القنبلة أثقل، زادت طاقتها وقدرتها على الاختراق.
ثمة طريقة أخرى لزيادة قوة القنابل وهو زيادة سرعتها، فبدلا من الاعتماد على السقوط الحر لها، يجري تزويدها بمحرك صاروخي، لجعل قوة اختراقها للحصون هائلة، مع المحافظة على نفس الشكل لها.
وفي حزيران/ يونيو الماضي، أفادت صحيفة "تلغراف" البريطانية بأن سلاح الجو الأمريكي "يمتلك الدواء اللازم" لمواجهة المخابئ العميقة.
وتقول الصحيفة إن أعداء أمريكا من الصين إلى كوريا الشمالية إلى إيران يبنون منشآت عسكرية تحت الأرض، لكن البنتاغون ليس غافلا عن هذه المحاولات.
وذكرت أن أحدث الإجراءات الأمريكية في هذا الاتجاه كانت فوق صحراء موهافي في غرب الولايات المتحدة، حيث ظهرت قاذفة أمريكية من طراز "بي- 1"، وكان ثمة شيء غير طبيعي تحت جسم القاذفة، قنبلة كبيرة خارقة للحصون من طراز يعتقد أنه GBU-57، القادرة على اختراق أكثر من 200 قدم من الخرسانة الصلبة.
المصادر الإضافية • صحف إسرائيلية وغربية
شارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية إسرائيل تستخدم قنابل خارقة للتحصينات في استهداف المقر المركزي لحزب الله وتدمر 6 مبان تقارير: بايدن يتراجع أمام إسرائيل في مسألتي القنابل الضخمة واستئناف الحرب حرب غزة: يوم دام آخر في القطاع وإدارة بايدن توافق على إرسال قنابل زنة 500 رطل إلى إسرائيل الولايات المتحدة الأمريكية غزة جنوب لبنان لبنان قاذفة قنابلالمصدر: euronews
كلمات دلالية: الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حزب الله إسرائيل حسن نصر الله جنوب لبنان لبنان الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حزب الله إسرائيل حسن نصر الله جنوب لبنان لبنان الولايات المتحدة الأمريكية غزة جنوب لبنان لبنان قاذفة قنابل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حزب الله إسرائيل حسن نصر الله جنوب لبنان لبنان اعتداء إسرائيل غزة الحرس الثوري الإيراني حريق الحوثيون محمد بن سلمان السياسة الأوروبية الولایات المتحدة خارقة للتحصینات یعرض الآن Next هذه القنابل قنابل خارقة لحزب الله حزب الله نصر الله أکثر من فی هذا
إقرأ أيضاً:
نصف مليون جندي و8 ملايين طن من القنابل.. لماذا هُزمت أمريكا في فيتنام؟
يمانيون../
تتدفق المروحيات فوق مبنى السفارة الأميركية في مدينة سايغون، عاصمة فيتنام الجنوبية، بينما يتزاحم تحتها آلاف الباحثين عن منفذ خروج من المدينة التي سقطت في يد المقاتلين الشيوعيين من فيتنام الشمالية، في مشهد كان أشبه ما يكون بسباق محموم ضد الزمن والمصير.
نصف مليون جندي و8 ملايين طن من القنابل.. لماذا هُزمت أميركا في فيتنام؟
لقد كانت تلك اللحظة من صباح 30 أبريل/نيسان 1975، آخر ما يفصل أكبر قوة عسكرية في العالم عن اعتراف صامت وغير معلن، لكنه مدو وصاخب في الوقت نفسه، بالهزيمة في أوضح صورها.
ومع إقلاع المروحية الأميركية الأخيرة مبتعدة عن سايغون بمن أمكنها حملهم، أُسدل الستار على واحدة من أطول الحروب في القرن الـ20، لتنهي الولايات المتحدة صفحة دامية في تاريخها وسط مرارة وانكسار، لم تعرف لهما مثيلا منذ تأسيسها.
ورغم مرور نصف قرن على مشاهد سايغون، لا تزال الحرب الفيتنامية واحدة من أكثر الحروب الحديثة تناولا بالدراسة، ومحور عديد من الأدبيات العسكرية، التي سعت إلى تفكيك أسباب فشل قوة عظمى بحجم الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية، وإخضاع خصم أقل منها بكثير رغم الفارق الهائل في الإمكانات والموارد ورغم سنوات الحرب الطويلة.
ومع أن الروايات الأميركية فرضت هيمنتها على مجريات التأريخ والتحليل في ما يخص تلك الحرب، فإن ذلك لم يمنع من اعتبارها نموذجا ملهما لحركات التحرر عبر العالم، ودرسا بليغا في كيفية انتصار طرف محدود الموارد على خصم متفوق عسكريا وتقنيا واقتصاديا.
ويعد هذا الدرس مهما بشكل خاص بالنظر إلى حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، التي تخوض فيها المقاومة الفلسطينية والشعب الغزي الأعزل مواجهة ضد الآلة العسكرية الإسرائيلية المتفوقة المدعومة من قبل الولايات المتحدة والقوى الغربية.
لقد طرحت حرب فيتنام سؤالا جوهريا عن سر هزيمة الولايات المتحدة في تلك الحرب، وهي هزيمة ثبت أن أسبابها تتجاوز الأخطاء العسكرية البحتة إلى سوء فهم أميركي متأصل للواقع الذي دارت فيه الحرب وانفصال معرفي جسيم عن الواقع.
لقد خاضت واشنطن حربا على عدو لم تفهمه، في بيئة لا تدرك تعقيداتها، بحسب ما عبرت عنه الصحفية الأميركية الحاصلة على جائزة “بوليتزر” فرانسيس فيتزجرالد، في كتابها “حريق في البحيرة.. الفيتناميون والأميركيون في فيتنام”، حين وصفت مأساة “الغربة المعرفية” الأميركية تلك بقولها: “إن الأميركيين تاهوا بغباء في تاريخ شعب آخر”.
عدّاد الجثث
ولعل أول مظاهر الغياب المعرفي يتجسد في فشل أميركا في استيعاب الطبيعة الخاصة للحرب التي خاضتها، حيث واجه جيشها تمردا مسلحا وحرب عصابات طويلة النفس، استحال خلالها الحسم عبر معركة فاصلة واحدة أو من خلال احتلال عاصمة العدو، وفق الأنماط التي اعتادت عليها الجيوش النظامية.
ومما زاد من تعقيد المهمة أن الفيتناميين نجحوا في المزج بين تكتيكات حرب العصابات والقتال التقليدي المنظم عبر مراحل مدروسة، إلى جانب بذل جهود دبلوماسية، للاستفادة من اضطرابات الجبهة الداخلية الأميركية وانقسامات القوى الكُبرى (استفاد الثوار الفيتناميون من الدعم السوفياتي)، بما أتاح لهم تعظيم مكاسبهم في الميدان والسياسة معا.
في المقابل، وفي مواجهة ضبابية الميدان، لجأت القيادة العسكرية الأميركية إلى سلسلة من التكتيكات والإستراتيجيات التجريبية، لكنها سرعان ما أثبتت قصورها. منها اعتمادها عمليات “البحث والتدمير” الاستنزافية، القائمة على تمشيط الأدغال والقرى واستخدام القوة النارية غير المتماثلة لسحق الخصوم، مع تكثيف القصف الجوي لقطع خطوط الإمداد القادمة من الشمال عبر لاوس وكمبوديا.
وبالتوازي مع ذلك، ابتكرت القيادة الأميركية مقياسا إحصائيا غريبا لقياس التقدم العسكري، عُرف بـ”عدّاد الجثث”، استند لفرضية أن تكبيد المقاومة أكبر قدر من الخسائر البشرية سوف يؤدي في النهاية إلى إنهاكها وكسر إرادتها.
وشملت الممارسات الأميركية أيضا تكتيكات الحرب النفسية، مثل إلقاء ملايين المنشورات واستخدام مكبرات الصوت المحمولة جوّا، لبث رسائل التهديد والذعر في صفوف الفيتناميين.
لكن تبقى أكثر ممارسات الحرب النفسية الأميركية إثارة للجدل هي ما عُرف باسم “عملية الأرواح المتجولة” وتضمنت قيام القوات الأميركية ببث تسجيلات لأصوات بشرية مذعورة ومشوهة، تحاكي أصوات أرواح متخيلة، بغرض إثارة الخوف والارتباك في صفوف الفيتناميين وتقويض معنوياتهم، وإجبار مقاتلي “الفيت كونغ” على الفرار مستغلة اعتقادهم في معاناة الأرواح التي لا تُدفن بشكل لائق.
كانت فيتنام حقلا لتلك التجارب الأميركية وغيرها، لكن رغم تنوع الأساليب، فإن الواقع الميداني ظل عصيا على الأميركيين، فعدّاد الجثث، على سبيل المثال، سرعان ما تحوّل إلى فخٍّ قاتل، إذ دفع الوحدات الأميركية إلى السعي المحموم وراء تحقيق أرقام مرتفعة للقتلى بأي طريقة، حتى لو كان ذلك بارتكاب المذابح في صفوف المدنيين، مما عزز من كراهية السكان المحليين للجيش الأميركي وأفقده فُرص التعاون معهم وكسب ولائهم.
ومن جهة أخرى، شجّعت هذه السياسة على المبالغة المتعمدة وتقديم أرقام مضخمة للقتلى من جانب القادة الميدانيين، بهدف إظهار التفوق أمام القيادة العليا، مما أوحى مرارا باقتراب النصر الحاسم، لكن مع كلّ تعبئة جديدة وتعويض لتلك الخسائر البشرية من جانب المقاومة الفيتنامية، كان يبدو أن “عداد الجثث” يرتد بتأثير معنوي سلبي داخل الوحدات الأميركية، في الوقت الذي يزيد فيه من عزيمة الثوار وتصميمهم.
اختبار إرادة لا اختبار أسلحة
وعلى غرار إخفاق الإستراتيجيات البرية، أثبت القصف الجوي الأميركي أيضا فشله في تحقيق الأهداف الإستراتيجية والعملياتية.
فعلى الرغم من نصف مليون جندي أمريكي أرسلهم الرئيس ليندون جونسون إلى فيتنام، وإسقاط أكثر من 8 ملايين طن من القنابل، بما يتجاوز أضعاف ما استخدم في الحرب العالمية الثانية (أسقط الحلفاء حوالي 2.7 مليون طن من القنابل خلال سنوات الحرب)، فإن ذلك لم ينجح في خنق المقاومة أو قطع خطوط الإمداد الحيوية.
في غضون ذلك، استمر تدفق المقاتلين والعتاد عبر طريق “هو تشي منه” الأسطوري، حتى إن الإحصاءات الأميركية نفسها أقرت بارتفاع عدد المتسللين من الشمال إلى الجنوب، من نحو 35 ألف مقاتل عام 1965 لما يقرب من 90 ألفا عام 1967 لدرجة أن تكلفة تدمير مستودع مؤن واحد صارت باهظة، قياسا بقدرة الفيتناميين على تعويضه سريعا عبر شبكة إمداداتهم الفعالة والمموهة جيدا.
تزامن هذا الفشل ومشكلة تكتيكية أعمق، فمثلما لم تعرف هذه الحرب خطوط إمداد مكشوفة، لم تكن أيضا تحتوي جبهات محددة قابلة للاستهداف، فهي بالأساس حرب عصابات، يظهر خلالها الخصم مثل طيف كي يضرب ثم يختفي، وسط تضاريس يعرفها كراحة يده وبين سكّان بلده وحاضنته الاجتماعية القوية.
وقد أفضى ذلك في الأخير إلى فشل مبدأ “البحث والتدمير”، الذي تبناه الجنرال وليام ويستمورلاند، قائد القوات الأميركية في فيتنام في الفترة 1964-1968، حين اكتشف الأميركيون أن مواقع العدو لا تبقى فارغة بعد انسحابه، إذ سرعان ما يعود إليها الفيتناميون لاستئناف معادلة الكر والفر، وزرع الكمائن والفخاخ الأرضية، قبل الاختفاء مثل الأشباح في الأدغال أو التسلل إلى شبكة الأنفاق السرية، فور استشعار الخطر.
ومع تعاظم الخسائر والإحباط، اضطرت القيادة الأميركية إلى التخلي عن إستراتيجية “البحث والتدمير”، واعتماد مبدأ “التطهير والاحتفاظ” بدلا منها، ويركز هذا المبدأ على تأمين المواقع عوضا عن مطاردة المقاتلين الأشباح، وتزامن ذلك مع تولي الجنرال كريتون أبرامز القيادة الأميركية في فيتنام خلفا لويستمورلاند.
ولا يعني هذا الطابع الشبحي الذي غلب على المواجهات أن المقاومة الفيتنامية افتقدت المبادرة، فوفقا للدراسة العسكرية الصادرة عن جامعة جونز هوبكنز الأميركية، امتلكت القوات الفيتنامية المبادرة في 88% من الاشتباكات ضد القوات الأميركية، على مدار أكثر من 10 سنوات هي عمر التدخل العسكري البري لأميركا في فيتنام، مما يعني أن الأميركيين ظلوا في أغلب الأوقات في موقع رد الفعل لا الفعل.
وحتى في الحالات النادرة التي تمكن خلالها الأميركيون من سحب الفيت كونغ إلى مواجهات مكشوفة، لم تكن انتصاراتهم التكتيكية تترجم إلى تقدم إستراتيجي، إذ سرعان ما تعود المقاومة للظهور في مناطق أخرى جديدة، وتجد القوات الأميركية نفسها مضطرة لإعادة احتلال القرى ذاتها مرارا، في دورة عبثية تجسد إحدى القواعد العسكرية البديهية، وهي أن كسب معركة لا يعني بالضرورة كسب الحرب، ورغم وضوح هذه الحقيقة، فإنه يبدو أن واشنطن نسيتها في غمار المستنقع الفيتنامي.
ولم يكن ذلك إلا انعكاسا لتفوق ميداني نوعي للفيت كونغ، الذين امتلكوا سلاحا أمضى من المدفع والبندقية، فهم أبناء هذه الأرض؛ يحفظون دروبها ويملكون القدرة على اختيار زمان المعركة ومكانها، واستغلال ذلك على أتم وجه، بما مكنهم من توجيه ضربات خاطفة ثم التلاشي وسط الأدغال والحقول والقرى. وأمام هذا النمط من الحرب السائلة، وفي مواجهة خصم يتحرك بمثل هذه المرونة، فقدت التكتيكات الأميركية التقليدية فعاليتها، وبدا الجيش الأميركي مثل دب عجوز ثقيل يواجه نمرا شابا سريعا وفتاكا.
ومما عمق تلك الهوة أكثر، الفارق الجوهري في دوافع القتال، فرغم تواضع تسليحهم، الذي لم يتجاوز البنادق الخفيفة والمدفعية المحدودة مع دعم جوي شبه معدوم، خاض الفيتناميون حربا وجودية دفاعا عن وطن موّحد وبرغبة التحرر من الهيمنة الأجنبية، وهي دوافع تُعلي من الإرادة والصبر والقدرة على التضحية، في حين قاتلت أميركا من أجل فرض النفوذ على دولة بعيدة، ضمن إستراتيجية أيديولوجية هي احتواء الشيوعية.
وشاسع هو الفارق بين مقاتل مستعد للموت من أجل وطنه، وجندي أُرسل إلى أرض غريبة، بناء على حسابات سياسية ربما تتجاوز فهمه.
شكّل هذا التباين عاملا حاسما في مسار الحرب، ففي مقابل استعداد الفيتنامي لتحمل أي خسائر من دون أن تهتز عزيمته، كانت عزيمة أميركا ومعنويات شعبها وعزم قياداتها تتآكل مع كل نعش عائد من فيتنام. وتفاقم المأزق الأميركي مع نجاح الفيت كونغ في بناء شبكات دعم شعبي واسعة في الجنوب (الخاضع للولايات المتحدة)، بين المزارعين والقرويين، الذين وفروا الإمدادات والملاذات الآمنة للمقاتلين، وتحوّلوا إلى جزء من شبكة الحرب، بما جعل مهمة التمييز بين المدني والمقاتل شبه مستحيلة بالنسبة للقوات الأميركية.
أنفاق الفيت كونغ.. كابوس تحت الأرض
ولم تقتصر معضلة التعامل عناصر الفيت كونغ على المعارك فوق الأرض، بل امتدت عميقا تحتها، فثمة ميدان قتال آخر فُرض على الأميركيين، وهو الأنفاق، التي لعبت دورا حاسما في تغيير قواعد المواجهة. وقد كانت شبكة الأنفاق أكثر من مجرد ممرات للهرب، حيث تشكّلت كمنظومة أمنية وعسكرية متكاملة مكتفية ذاتيا؛ مكّنت المقاومة الفيتنامية من التخفي والرصد والمناورة، ومن إعادة تنظيم الصفوف ونصب الكمائن، لتشكّل بذلك إحدى أعقد بيئات حرب العصابات في العصر الحديث.
وحسب التقديرات، امتدت شبكة أنفاق الفيت كونغ لقرابة 270 كيلومترا تحت الأرض، وتخللتها غرف قيادة وعمليات ومستشفيات ميدانية، وكذلك مخازن أسلحة ومؤونة، كما احتوت مساكن سرية ومصانع للأسلحة الخفيفة، إلى جانب مصائد للمتسللين ومخارج طوارئ تؤدي إلى الغابات والقرى المجاورة، مما جعل ملاحقة عناصر الفيت كونغ مهمة شبه مستحيلة.
وقُدّر لاحقا، أن بناء هذه الشبكات استغرق أكثر من 20 عاما، بدءا من أربعينيات القرن الماضي، في أثناء مقاومة الفيتناميين للاستعمار الفرنسي، ثم تطوّر بعضها بعد ذلك، ليشكّل هذه المنظومة المتداخلة المتعددة المستويات الممتدة تحت الأرض.
وقد تجلى التأثير العملياتي لشبكة الأنفاق بوضوح في أكثر من مناسبة، منها الهجوم الذي نفذته وحدات الفيت كونغ في فبراير/شباط 1969 على قاعدة “كوتشي”، إحدى أكبر القواعد الأميركية في فيتنام، مما أسفر عن تدمير 9 مروحيات من طراز “شينوك-47” وإلحاق الضرر بـ3 أخرى، فضلا عن تفجير مستودع الذخيرة الرئيسي داخل القاعدة.
والمفارقة أن قيادة القاعدة تلقت تحذيرات استخباراتية مسبقة بشأن الهجوم، ورغم ذلك، فإن نحو 80 من خبراء المتفجرات التابعين للفيت كونغ تمكّنوا من التسلل إلى عمق القاعدة، وإتمام مهمتهم في غضون دقائق معدودة، من دون أن يتمكن الحراس من اكتشافهم، مما دفع بعض الجنرالات الأميركيين لاحقا إلى الاعتراف بأن شبكة الأنفاق تحولت إلى كابوس نفسي يقوض الشعور بالأمان، حتى في الخطوط الخلفية.
ويؤكد هذا التأثير جو بوتشينو، المحلل العسكري ومدير الاتصالات السابق في القيادة المركزية الأميركية، في مقال بمجلة “فورين بوليسي” إذ يشير إلى أن أنفاق فيتنام تجاوزت تأثيرها المادي نحو إحداث ذعر وارتباك نفسي وجنون ارتياب مستمر بين الجنود الأميركيين، لأن العدو القادر على الظهور فجأة من باطن الأرض يحوز ميزة كاسحة، إذ يكسر أي شعور أمان يمنحه التفوق التسليحي.
ورغم المحاولات الأميركية المتكررة لتدمير الأنفاق، عبر القصف الجوي والمدفعي أو الغمر بالمياه والغازات السامة، فإن طريقة بنائها البسيطة والفريدة في الوقت نفسه، بطبقات متعددة من الطين المدكوك هيّأتها للصمود أمام الانفجارات، كما أن تصميمها المرن أتاح للفيتناميين تجاوز المناطق المتضررة ومواصلة القتال دون تأثير يُذكر.
وحسب الكاتب ومؤرخ الحرب الأميركي وليام بي هيد، فقد تشكّلت أنفاق فيتنام من تربة احتوت على الطين والحديد، مما أدى إلى تكوّن عامل ربط يشبه الأسمنت. واعتمد البناء على آلية بسيطة، حيث جرى الحفر في موسم الرياح الموسمية حينما تكون التربة لينة، وعند جفافها لاحقا تبقى مستقرة دون حاجة إلى دعامات.
ويُشار إلى أن اكتشاف الأميركيين لتلك الشبكات لأول مرة كان في أعقاب “عملية اللصوص” (Operation Marauder)، التي نفذها اللواء الأميركي 173 المحمول جوّا بالاشتراك مع الكتيبة الأولى من الفوج الملكي الأسترالي في دلتا نهر ميكونغ، خلال يناير/كانون الثاني 1966. ورغم العثور على بعض مداخل الأنفاق خلال تلك العملية، فإن القوات الأسترالية والأميركية لم تدرك آنذاك الحجم الحقيقي ولا مدى تعقيد المتاهة الكامنة تحت أقدامهم.
هجوم “تيت”.. صدمة نفسية ورهان إستراتيجي
ومع تصاعد قدرات الفيت كونغ على المناورة فوق الأرض وتحتها، جاءت اللحظة التي قرروا فيها نقل الحرب إلى مستوى أعلى، عبر شنّ هجوم مفاجئ شامل، استهدفوا خلاله أكثر من 100 مدينة وقاعدة عسكرية في وقت متزامن.
عُرف ذلك الهجوم الشهير باسم “تيت”، وشكّل نقطة تحول فارقة في تلك الحرب. ففي الساعات الأولى من صباح 30 يناير/كانون الثاني 1968، ومع بدء احتفالات السنة القمرية حسب التقويم الفيتنامي (عيد تيت)، اجتاح مقاتلو الفيت كونغ وزملاؤهم من الجيش الشعبي الفيتنامي عددا من المواقع الحيوية في جنوب فيتنام، بما فيها العاصمة سايغون.
اعتمد الهجوم في تصميمه على عنصر المفاجأة، مستغلا حالة التراخي ومتغاضيا عن فارق القدرة العسكرية، بما يجعله أقرب إلى مقامرة طموحة، لكنه لم يكن قرارا اعتباطيا، نظرا لأن القيادة الفيتنامية أرادت من خلاله تحفيز انتفاضة شعبية جنوبية تطيح بالحكومة الموالية للولايات المتحدة في سايغون، وإحداث صدمة نفسية وسياسية داخل الولايات المتحدة، بما يدفع الرأي العام الأميركي نحو مراجعة دعم استمرار الحرب.
بمعنى أن الهدف من الهجوم لم يكن حسم الصراع على الفور، وإنما تحقيق مكاسب إستراتيجية على مدى أبعد، وقد بُنيت الحسابات الفيتنامية للاستفادة من حالة الارتباك التي أصابت الإستراتيجية الأميركية، بعد سنوات من استنزاف قواتها دون نتائج حاسمة.
وعلى الرغم من أن الفيت كونغ لم يتمكنوا من الاحتفاظ بالمواقع التي سيطروا عليها في سايغون وهيو ومدن أخرى، فإن الهجوم كشف عن هشاشة حكومة الجنوب، وأدى إلى تآكل ثقة الأميركيين بإمكانية حسم الصراع عبر الحل العسكري وحده، ولم يقلل من ذلك التأثير تكبد الفيتناميين خسائر جسيمة على المستوى البشري، تجاوزت 50 ألف مقاتل وفق بعض التقديرات.
كان وقع الهجوم مدمرا على إدارة الرئيس الأميركي ليندون جونسون، التي كانت تروج لفكرة “الضوء في نهاية النفق”، وفوجئت بمطالبة الجنرالات بتعزيز القوات الأميركية في فيتنام، رغم أن أعدادها تجاوزت نصف مليون جندي في ذلك الوقت، وهو ما وضع الإدارة في موقف حرج أمام الرأي العام، ومما أكد أن الحرب أبعد ما تكون عن نهايتها، وأدى إلى تصاعد المظاهرات وتزايد الضغط على البيت الأبيض، ودفع جونسون إلى إعلان عدم ترشحه لولاية ثانية بعد أسابيع قليلة من الهجوم.
هكذا لم يكن هجوم تيت مجرد معركة عسكرية، بل ضربة نفسية وإستراتيجية زلزلت ركائز المشروع الأميركي في فيتنام، وأطلقت 7 سنوات أخرى من القتال المرير، انتهت بمشهد إقلاع آخر مروحية أميركية بعيدا عن سايغون.
وعلى امتداد السنوات التي تلت سقوط سايغون ونهاية الحرب، كان الاعتقاد يترسخ أكثر فأكثر بأن هجوم “تيت” كان هو بداية النهاية لتلك الحرب، حين كشفت فيتنام عن حدود القوة العسكرية، وأكدت لخصومها أن كسب الحروب لا يتحقق فقط عبر التفوق في العتاد، بل يتطلب فوق ذلك إرادة لا تلين، وفهما أفضل للأرض وللشعوب التي تقاتل دفاعا عن مصيرها ووجودها.
مواقع إلكترونية