تاسعًا: للفنِّ قِيَمة عالية في الثقافة الأوروبيَّة.
كُنَّا نقطع المسافات مشيًا لساعات في العواصم والمُدُن الأوروبيَّة، ونتجاوز الشوارع الرئيسة والفرعيَّة والجادَّات والأزقَّة، ونودِّع المناطق والحارات والأسواق وتستقبلنا أخرى، بسهولة ويُسْر ودُونَ عوائق وموانع وعقبات، وحالتنا المعنويَّة والجسديَّة عالية وسرورنا بالغ جدًّا… فالمماشي والمسارات المبلَّطة الواسعة والرَّحبة، والسَّاحات والميادين والحدائق المنتشرة بَيْنَ الأحياء والبنايات وفي الأسواق وعلى طول الشوارع، والمقاعد المظلَّلة والنوافير وحقوق المشاة، والأنفاق المهيَّأة عِند تقاطعات الشوارع والزوايا، والمشاريع الجَماليَّة الكثيرة، وانتشار المقاهي الحديثة وأكشاك البيع طوال الخطوط التي نمشي فيها… تبهج النَّفْس وتحفِّز على المزيد من السَّير والاكتشاف… وكُنَّا نتساءل عن سِر هذه الظاهرة ومنافعها الواسعة التي لا تتوافر في بلادنا؟ فالسيَّارة هي الملاذ والملجأ لأيِّ حركة ومشوار لإنجاز غرض ما، وإن كان قريبًا من المنزل؟ وإن فكَّر الواحد مِنَّا في المشي والوصول إلى مكان لا يبعد كثيرًا، حتى في حدود الحيِّ، فسوف يجد أمامه معيقات لا حصر لها، من مِثل غياب المماشي وأنفاق المشاة والجَماليَّات والمظلَّات والتشجير الذي يحجب أشعَّة الشمس، والتخطيط السَّيِّء للشوارع الذي لَمْ يأخذ في الاعتبار وضع أحرامات واسعة بَيْنَ صفوف البنايات والأحياء تصلح لحركة السيَّارات وأصحاب الدرَّاجات والمشاة معًا كما نراه هنا في أوروبا، وعدم ربطها ببعضها البعض والمناطق السكنيَّة والأسواق بشبكات من الأزقَّة والأنفاق.
فالشارع والزقاق سرعان ما ينغلق أو ينقطع أمام السَّائر على رِجْلَيْه. وكُنَّا نتساءل عن سبب هذا التخطيط الجيِّد والناجح والباعث على الابتهاج والراحة للإنسان هنا في أوروبا؟ على الرغم من أنَّ هذه الشوارع والأزقَّة والأبنية على اختلاف أغراضها وتخطيط المناطق والأسواق قديمة جدًّا، مضى على بعضها عقود طويلة وعلى أخرى أكثر من قرن ونصف، وكيف آن لهم التفكير في المستقبل البعيد فتركوا المساحات الواسعة بَيْنَ صفَّي البنايات والمنازل أو المحالِّ التجاريَّة من الجانبيْنِ، تكفي لشارع من عدَّة حارات مخصَّصة للسيَّارات فقط، ومسارات أخرى واسعة مقسَّمة لحافلات النَّقل والمَشيِ والدرَّاجات… وشبكة أنفاق وأزقَّة وجادَّات للمشاة مضافًا إليها اللوحات الجَماليَّة الموجودة كلَّ بضع خطوات تُمكِّن السَّائر من الاستمتاع والراحة تحت الأشجار الكثيفة وفي المقاعد المنتشرة، بل وحتى التفكير والكتابة والدردشة مع صديق… ودافع ذلك ومبعثه من وجهة نظرنا إلى الذَّوق الرفيع والشعور الإيجابي المتنامي تجاه الجَمال والفنِّ، وتشجيع الأعمال الفنيَّة والثقافيَّة كالتصوير والرَّسم والنَّحت والموسيقى والعمارة، واحتضان ودعم الفنَّانين وتكريمهم وتقدير أعمالهم وتعظيم قِيَمتها الفنيَّة والجَماليَّة، وإقامة الصروح والمباني الثقافيَّة المتخصِّصة في المسرح والتمثيل والرَّسم والموسيقى وغيرها، وتنظيم وإقامة الفعاليَّات والأنشطة الثقافيَّة التي بدأت في أوروبا مبكرًا، بل ومن عصر الإغريق والرومان واستمرَّت ونمَتْ حتى اليوم، وهو ما نرى بذخه وازدهاره في الكنائس والأديرة والقصور والصروح والآثار القديمة، وهذا بِدَوْره انعكس على ثقافة المُجتمع بكُلِّ أطيافه، فأصبحت ثقافة عامَّة وسلوكًا واقعًا وحسًّا عاليًا ارتبط وجدانيًّا بالفنون والإبداع باعتبارهما جَمالًا إنسانيًّا يجِبُ أن يصبحَ ملموسًا في كُلِّ ملمح من ملامح الحياة العامَّة، في الشارع والسَّاحات والميادين والأسواق والحدائق… التي تصدح فيها الموسيقى وتنشط الفنون والمعارض الثقافيَّة المختلفة. لذلك تلاحظ اللمسات الجَماليَّة هي السَّائدة في المشهد في أوروبا، على عكس ما يحدث معنا حيث ينظر إلى الفنون والثقافة باعتبارها لهْوًا وعبَثًا ومُجونًا وتشغل الإنسان عن دِينه، وتدخل ضِمْن الأشياء الكثيرة المحرَّمة، وهو ما انعكس كذلك حتى على مخطَّطات المُدُن والأحياء والشوارع التي تخلو من الذَّوق والتناسق في طُرز العمارة، ومن اللَّمسات الجَماليَّة والتشجير والحدائق والسَّاحات داخل الأحياء، بل وحتى من المواقف العامَّة للسيَّارات وأنفاق العبور والمماشي، فيما المساحات بَيْنَ الشوارع والبنايات والمنازل والمحالِّ التجاريَّة ضيِّقة لا تصلح لأيِّ مراجعة وإعادة التخطيط مستقبلًا. ولَمْ يبتعد العقَّاد عن الحقيقة عِندما قال: «لَنْ تحيا أُمَّة قط بالعلوم دُونَ الفنون أو بالفنون دُونَ العلوم، فكُلُّ عالِم تجرَّد من روح الفنِّ عالِم عاجز، وكُلُّ فنَّان تجرَّد من روح العِلم فنَّان غير موهوب…» فلا غرو أن نخسرهما معًا. هنا في أوروبا، نودِّع بلدًا، وتستقبلنا دولة ثانية فثالثة، نجوب المُدُن والعواصم الواحدة إثر الأخرى، ألمانيا ـ النمسا ـ المجر ـ سلوفاكيا ـ بولندا… فلا تعيقنا حدود ولا نتجشَّم إخراج وثائق وإبراز جواز ولا فظاعة رجال الأمن ولا تزعجنا طوابير وتفتيش وخلافه، تتباين اللُّغات واللَّهجات وتختلف الملامح والوجوه والأعراق، ويتحدث التاريخ عن حروب شرسة وخلافات عميقة وعداوات امتدَّت لقرون طويلة، ولكنَّ الزمن متغيِّر والحياة تتقدَّم وتتطوَّر، والعقول تشهد تحوُّلات ووعيًا، والمصالح تتبدل وتختلف وتلتقي من أجْل منافع وخدمة الشعوب ولمستقبل أفضل، هذه دوَل شهدت تقدُّمًا في الصِّناعات وثورات علميَّة متتالية واقتصادات قويَّة نامية ومتنافسة، وكان للفرد دَوْر رائد في التغيير والإصلاح. ترتفع الأسعار في دولة وتنخفض في بلد أوروبي آخر، والعملة المشتركة والسُّوق الأوروبي المركزي، وتحقيق النُّمو في التبادلات التجاريَّة والرؤية التي يتفق عليها في نهاية المطاف حقيقة لا خلاف عليها… في عالَمنا العربي، ومنذ أن كُنَّا في مقاعد الدراسة، تعلّمنا المناهج وشروحات المُعلِّمين وتنظيراتهم أنَّنا أُمَّة تشترك في اللُّغة والدِّين والتاريخ والجغرافيا والمصير وغير ذلك ممَّا نبرع في تناوله خِطابةً… وما يجمعنا ويصنع وحدتنا أكبر وأكثر وأعظم بكثير عمَّا يدعونا إلى الاختلاف والفرقة، هذا في التنظير والمنهج المكتوب، أمَّا على الأرض فقَدْ فشلنا في جميع مشاريع الوحدة التي طرحناها ووعد بها القادة والحكَّام والسَّاسة الشعوب. فالحدود المُحْكمة وطوابير البَشر الواقفة لساعات من أجْل الوصول إلى أيِّ قطر عربي، وتعقيد الإجراءات وشراسة رجال الأمن في الحدود والمعاملة السيِّئة أحيانًا، والحروب والصراعات وتقزيم الآخر والحطُّ من شأنه والتعصُّب الدِّيني والعِرقي، هي التي تتسيَّد المشهد، وإحباط المشاريع الاقتصاديَّة التي تقوِّي الاقتصادات وتَقُودُ إلى الرخاء والازدهار وتُحقِّق التقدُّم والتطلُّعات وتوفِّر الوظائف يتمُّ إفشالها واحباطها في مهدها… مؤسف بحقٍّ، الواقع الذي يمرُّ به عالَمنا العربي وهذه الهوَّة السَّحيقة بَيْنَ التنظير والتنفيذ، إقرار الخطط والتطبيق، الشعارات والأفعال… العرب في أوروبا لهم حضورهم كرجال أعمال، وعمَّال في مختلف المِهن والتخصُّصات، وباحثين عن فرص عمل، وخصوصًا من دوَل المغرب العربي. الملامح ولُغة التخاطب في الشارع والسُّوق والمطاعم والمَحالّ التجاريَّة تعرِّف بهم، نتحاور معهم وندردش أحيانًا، تتباين وجهات نظرهم، ومستوى إحباطاتهم ونظرتهم إلى الأمور في أوطانهم، أو الأماكن التي يعملون فيها ووفَّرت لهم العمل والسَّكن والعيش الملائم، وحقَّقت الطموحات لبعضهم الآخر، ولكنَّهم يتفقون على أنَّ عالَمنا العربي ليس بخير، والطموحات تُقتل قَبل نضجها، والكفاءات والمهارات والقوَّة العمَّاليَّة والشرائيَّة تغادر الأوطان، لِينتفعَ بها ويستفيد آخرون.
سعود بن علي الحارثي
Saud2002h@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية:
فی أوروبا
ة التی
إقرأ أيضاً:
كريم خالد عبد العزيز يكتب: الفانوس المصري.. نور يضيء القلوب قبل الشوارع
لكل بلد تقليد شعبي موروث يميز هذا البلد ويعبر عن هويته.. في مصر، يُعتبر الفانوس أحد أهم التقاليد الشعبية الدينية الموروثة من زمن الفاطميين.. يُعد رمزًا للهداية وإنارة طريق الخير والصلاح في شهر رمضان المبارك، كما يُستخدم أيضًا كزينة للتعبير عن الفرح، سواء في رمضان أو في عيد الفطر المبارك، احتفالًا بنهاية شهر الصوم.
للفانوس رمز عميق أكثر من كونه أداة زينة تعبر عن الفرح والاحتفال.. فهو يُمثل القلب الذي يحتوي على نور الإيمان والتقوى، والذي يضيء بنور الحب والرحمة بين الناس.. من المهم أن نجعل من قلوبنا فوانيس مضيئة طوال العام، لا فقط في رمضان أو في أوقات الصوم.. كما ينبغي أن نتعلم من الفانوس كيف نضيء حياتنا ونضيء حياة الآخرين بنور الخير والحب والرحمة.. علينا أن نُهيّئ قلوبنا لتكون مصدر إلهام ونور، لتحسين حياتنا وإصلاحها وكذلك حياة الآخرين ممن نحب.. أن نكون أشخاصًا محبين ورحيمين ولينين ورفقاء، وأن نستخدم حياتنا لإنارة طريق الخير والصلاح للآخرين، هو منتهى الحب والإيمان.
لا يقتصر دور الفانوس على كونه زينة تُعلق في الشوارع والبيوت، بل يحمل رسالة أعمق لمن يفكر ويتأمل، وتظهر هذه الرسالة في حياتنا اليومية.. فكما ينير الفانوس ظلام الليل، يجب أن نكون نحن أيضًا نورًا لمن حولنا، بالكلمة الطيبة، والابتسامة التي تُعد صدقة، والمعاملة الحسنة، ونشر السعادة بين الناس.. النور الذي ينبعث من الفانوس يشبه النور الذي ينبعث من القلوب الطيبة، القلوب التي تُحسن الظن بالله وبالآخرين، وتتفاءل بالحياة، وتسعى للخير، وتنشر الأمل والحب بين البشر.
في حياتنا، نواجه الكثير من العتمة التي تظهر على شكل صعوبات وتحديات وطاقات سلبية مزعجة، يجب أن نبددها بالنور الذي بداخلنا ونسعى لإنارة حياتنا من كل ظلمة.. كما تشبه الفوانيس قلوبنا، ونورها يشبه إيماننا وإلهامنا، فإن زيتها يشبه الذكر والعمل الصالح الذي يجدد هذا النور في داخلنا ويمنحه الاستمرارية.. فبدون الزيت، ينطفئ الفانوس، وبدون الذكر والخير والحب والعمل الصالح، يخفت نور الإيمان في قلوبنا.
ستظل مصر دائما البلد الملهم دائما، وستظل منارة للعلم والثقافة.. في كل رمضان عندما تزين الفوانيس شوارع مصر وأزقتها فإنها لا تضيء المكان فقط بل القلوب أيضا.. لتذكر هذا الشعب الطيب والأصيل أن يصنع من قلبه فانوس ليضيء به حياته وحياة الآخرين طوال العام.. تحيا مصر.